الإنسان المعاصر وحتم التطور (1 من 2)
نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 11 -4-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4605
الإنسان المعاصر وحتم التطور ( 1 من 2) (1)
فيم يتنافس العالم الآن؟ كيف يتنافس؟ لأى غرض لأى مدى؟ البـقاء لمن؟ للأقوى؟ للأشطر؟ للأذكى؟ للأنفع؟ (أنفع لمن). للأكثر مالا؟ للأمضى سلاحا؟ ماذا نقدم لأطفالنا ليكونوا أحسن؟ أحسن من من؟ أحسن من ماذا؟ لماذا؟ لمن البقاء؟
هل ما زال تاريخ الحياة سلسلة من الصراعات المتتالية أو المتصلة أو المتناوبة؟ وهل ما زالت قوانين الصراعات هى هى لم تتغير على مر تاريخ التطور؟
بعد كل هذه التغيرات الرائعة الرهيبة: هل يستمر الصراع كما هو بما هو؟ هل كل ما تعلمناه من انهيار الاتحاد السوفيتى هو أن نقدس صراع الأسواق بديلا عن تقديس صراع الأيديولوجيات؟ هل كل ما تعلمناه من فشل الحروب الدينية هو أن نقلبها حروبا تقنية تتذرع بأوهام جديدة تحت عناوين صراع الحضارات أو نهاية التاريخ؟ ليكن الصراع هو قانون الحياة، وليكن العدوان غريزة أساسية لحفظ الذات فالنوع، لكن لكل مرحلة تفاصيلها الفرعية التى تستوعب القانون الأصل لتقوم بتحديثه يما يجعله يؤدى وظيفته الجديدة بما يليق بما أنجز.
حين انهار الاتحاد السوفيتى وتفككت أوربا الشرقية اختفى نوع من الصراع (الحرب الباردة) كان يقربنا من نبل صراع الحيوانات من النوع الواحد. أغلب الحيوانات تكتفى بعلامات الإذعان بديلا عن القتال حتى موت أحد أفراد النزاع. أقرأ الحديث الشريف الذى معناه أن المتقاتلين المسلمين (القاتل والمقتول) هما كلاهما فى النار (لأن المقتول كان ينوى قتل القاتل)، أقرأه بتعميم يشمل كل البشر، صانعوا 11 سبتمبر وغزاة أفغانستان والعراق وفلسطين (لعلهم واحد، ولسوف نرى!!) هم جميعا فى النار (نار الدنيا والآخرة معا).
متى يعلن العمر الافتراضى للحروب؟
إذن ماذا؟ هل يمكن أن نضع فرضا يقول: إن الحروب (بما فى ذلك الإرهاب فهو حرب من نوع آخر) قد اقترب عمرها الافتراضى من نهايته؟ ومن ثم فعلينا أن نبحث عن بديل عنها يحتوى حتمية الصراع وغريزة العدوان، وفى نفس الوقت يرتقى بإنسانية الإنسان بما يليق برحلته التطورية، وأيضا بإنجازاته الرائعة الأحدث فالأحدث؟
أحسب أن إلحاح هذا السعى (البحث عن بديل) قد مر على وعى البشر بشكل أو بآخر عبر التاريخ، ربما من هنا بدأ تقليد ما يسمى الألعاب الأولمبية سنة 776 قبل الميلاد، كانت الفكرة هى البحث عن تنافس أرقي، فكان على كل ولاية أن ترسل أفضل رياضييها ليتنافسوا على شرف الإله زيوس بديلا عن الحرب. هل قام هذا الإبدال أو الإزاحة أو التسامى بالواجب بديلا عن الحرب؟
الذين عاشوا أربعينيات مصر والعالم، وعاصروا حلم الاشتراكية وهو يخرج إلى التطبيق، يعرفون ماذا كانت تعنى حركة “أنصار السلام” عبر العالم. منذ ذلك الحين، وقبله بقرون طبعا، وحلم السلام يعاود كل البشر بلا استثناء، حتى مجرمى الحرب الحاليين يقومون بإبادة الأبرياء دون رحمة ودون محاكمة وهم يرفعون شعار السلام. لا يمكن أن يتحقق حلم السلام هذا ـ رغم إلحاح وظاهر مشروعيته ـ بمجرد أن نتنازل عن الحرب أو نخاف منها أو نتبين فشل الإرهاب فى تحقيق ما نتصور أنه يمكن تحقيقه بهذا الدمار والقتل. الحرب تنتهى حين ينتهى عمرها الافتراضي، (الذى يمكن تحريكه بجهودنا نحو حمل مسئولية إبداع البديل)، والإرهاب يختفى حين تزول أسبابه ويتكرر فشله التطورى (وليس فقط الواقعى أو المرحلي). ربما يكون فى تلاحق المصائب والكوارث هكذا ـ مع تواكب الشفافية الملاحقة ـ ما يسمح بأن يدرك جميع الأطراف (بما فى ذلك أقوى الدول وأغباها) أن الحرب بكل تنويعاتها وتبريراتها الأحدث هى عاجزة عن تحقيق إنسانية المنتصر، بل إنها تعمل فى عكس الاتجاه، أليس القاتل والمقتول فى النار، نار الدنيا هى أن يعيش القاتل (المنتصر) أدنى من أى حيوان نبيل لا يقتل بنى نوعه مكتفيا بعلامات الإذعان. بهذه الصورة، وبتطوير الحلم البشرى اللحوح يمكن أن نقول إن الحروب على وشك بلوغ غاية عمرها الافتراضى، وأنه لم يبق إلا أن يعلن النبأ حين نكون أهلا له، حالة كوننا قد وجدنا البديل الأرقى القادر على أن يحتوى تركيبنا الغائر المبنى على دوام الصراع لاستمرار الحياة.
الحرب الباردة كانت أنبل
كان المأمول أن تصلنا هذه الرسالة بدرجة كافية بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي، وهى إعلان يقول: إن ترسانة هذا المعسكر المتهاوي، بكل ما فيها من أسلحة وذخيرة وتعصب (دون استثناء النووية منها) لم تزد ناسه (ولا ناسنا) إنسانية كما وعدت نظريتهم الرائعة. كان المأمول أن يتعلم القاتل فى أقصى الناحية الغربية (أعنى المنتصر على الجانب الآخر) أن ترسانته هو أيضا من سلاح وأوهام أيديولوجية هى من نفس النوع، خاصة بعد أن احتوتها راديكالية أصولية سلفية ظاهرة وخفية، كان المأمول أن يتعظ المنتصر وقد اصبح مسئولا عن تعديل مسار العالم باعتباره الوريث الأوحد للقوة المنهارة. الذى حدث للأسف هو عكس ذلك تماما: أصابهم الغرور، فأعلنوا، وتحدثوا وروجوا لما يسمى صراع الحضارات، وراحوا يبحثون عن أعداء حقيقيين حتى لو كانوا تحت الأرض كما راحوا يصنعون ثم يحاربون أعداء وهميين حتى القتل الجماعي، قتل البشر دون قتل الأوهام.
تصور كثير من الناس أن العالم قد تقدم خطوة أو خطوات نحو السلام مع اختفاء الحرب الباردة، الذى حدث هو العكس تماما. مع اختفاء الحرب الباردة (الأرقي) قفزت على السطح أعداد متزايدة من الحروب الساخنة جدا: حروب بين الصغار والصغار، جنبا على جنب مع “حروب” الكبار لإبادة الصغار ومن ثم اكتسبت الجريمة الصريحة مكسبا سمح لها أن تتسمى بأسماء حركية مثل “الحرب الاستباقية” أو أسماء تدليل مثل “الدفاع عن النفس” أو “فى سبيل الديمقراطية” !!!! إلخ
الصورة ـ فى ظاهرها ـ تبعدنا عما يسمى السلام المأمول، ولكن برغم ذلك فنحن نأمل أن نكون نقترب مما أتصوره توقيت إعلان انتهاء العمر الافتراضى للحروب حتى القتل، لو حملنا أمانة ومسئولية التطور بجدية.
الحركية الإيجابية المضادة
برغم كل ما ذكرنا مما يشير إلى تسارع خطير نحو التدهور فالانقراض، فإن حركية الناس معا عبر العالم فى مواجهة السلطات الغاشمة على ناحية، وفى محاولة احتواء دوافع الإرهاب على ناحية أخري، هذه الحركية التلقائية المتشابكة تتزايد باستمرار بفضل إنجازات العقل البشرى العلمية فالتقنية مؤخرا، وإن كان ذلك يجرى ببطء خطير.
إن الناس، كل الناس، بالأصالة والنيابة، يتواصلون مع بعضهم البعض مباشرة لأول مرة فى التاريخ. هذه الحركية الجماهيرية الجارية فعلا فى الوقت الحالى ليس لها أية قوة اقتصادية أو عسكرية أو إعلامية قادرة تطمئننا أنه يمكن أن يكون لها أى أثر قريب، لكن الذى لا شك فيه أنها تتكون، وتتمادي، وأن عبثيتها الضرورية تتراجع لحساب جدية تتزايد قدرتها بقدر ما تتسع وعودها. إن ما يجرى على هذا المستوى هو أشبه بالحمل الذى يتخلق منه مولود غير مضمون سلامته إلا أنه يتشكل، إنه البنية الأساسية التى يمكن أن تمثل أساسا صالحا لوراثة فشل القشرة السلطوية الصلبة، التى يسمع حفيف تشققها فى كل موقع، رغم جبروت قوتها على جانب، (الحروب الإبادية) وجنون اندفاعها على الجانب الآخر (الإرهاب).
افتراضات وفروض
يمكن تلخيص الافتراضات الأساسية مع الفروض التى تولدت منها حتى هذه المرحلة على الوجه التالي:
أولا: ما زال الصراع ضرورة حياتية، بقدر ما أن العدوان غريزة بقائية.
ثانيا: إن الشكل القديم للصراع لم يعد صالحا لخدمة النوع
ثالثا: التحايل لإنكار الصراع تحت مزاعم الحوار الشكلي، والسلام االسلبى فشل وسيفشل أكثر.
(لابد من التوقف طويلا قبل أن نأمل فى أوهام الشعارات الكلامية عن قبول الآخر أو حوار الأديان، هذا كله تسكين كاذب مهما حسنت النوايا، لأن المطلوب هو صراع الإبداع الشريف إلى غاية مشتركة: (أنظر بعد).
رابعا: إن تجليات الصراع فى صورتى الحرب الظالمة على ناحية والإرهاب المتفجر على الناحية الأخري، يؤكد اقتراب إعلان نهاية العمر الافتراضى لهذه الانحرافات السلبية (الحرب والإرهاب).
خامسا: إن ابتداع عداوات مهددة، وتجييش فرق جديدة، واصطناع معارك باعتبارها حتمية، (صراع الحضارات، والخطر الأخضر بعد الخطر الأحمر وتجنيبا للخطر الأصفر..إلخ) هى محاولة لتأجيل صور الصراع التناحرى الأدنى والأغبي.
سادسا: إن ميكانزمات الإزاحة، والتسامي، والإبدال،..إلخ. (بمحاولات مثل حفز التنافس الأكاديمي، أو الرياضي، أو المهاراتى عامة) أصبحت عاجزة عن استيعاب طاقة غريزة العدوان الكامنة وراء الصراع البقائى الحتمي.
سابعا: إن إدراك الوعى العام (البشرى عبر العالم) لخطر كل هذا موجود ومتفاعل ونشط ويتزايد تماسكا، وتعاونا، وتفاهما، وتكاملا، مع أنه شديد البطء، ضعيف التأثير حتى الآن كما ذكرنا.
ثامنا: إن علامات فشل الانحراف بالصراع عن أصله، وتمادى أشكاله السلبية تظهر باستمرار من داخله، فصراع بورصات المال يحذر منه “سورس” نفسه، وإعلان نهاية التاريخ بانتصار نظام أوحد يتبعها نفس المؤلف “فوكوياما” بتحذير من “نهاية الإنسان”، وحرب العراق تعرى المنتصر أكثر من معايرة المهزوم، وسجن أبو غريب يكشف تنازل المعتدى عن إنسانيته بقدر ما يعلن سلب المعتدى عليه من إنسانيته…إلخ
بأى لغة يمكن أن نقرأ هذه الافتراضات أو نفهم هذه الفروض، وعلى مدى أى وحدة زمنية؟
الرد على هذا التساؤل يتطلب التذكرة ببعض الأساسيات.
معلومات وتاريخ
تاريخ الحياة (التطور) تاريخ حافل بما لا نعرف، ما نعرفه عنه هو حافل أيضا بما لا نستفيد منه. بعض ما نحاول أن نستفيد منه نجهضه قبل أن يأخذ دورا إيجابيا فى مسيرتنا التطورية. الإنسان عامة، المعاصر خاصة، أصبح شريكا فاعلا أكثر فأكثر فى مسيرة التطور، شريكا له مواصفات وقدرات لم يعرف مثلها فيما سبقه من أحياء. من هنا أصبح تطوره معرضا للتأثر بأخطائه مساهما فى هذه الشراكة، ومرتبطا بمسئوليته وقدرته على الاسهام فى تقرير مصيره.
تاريخ الانقراض تاريخ أخطر من تاريخ البقاء، هو تاريخ غير معروف أيضا على وجه التحديد، بل ولا على وجه التقريب. كلها اجتهادات هامة، وفروض جيدة لا أكثر، ومع ذلك فما نعرفه عنه وعن الطبيعة البشرية، ينبغى أن يسدد خطانا أكثر فأكثر نحو تحمل مسئولية حياتنا ومصيرنا. الصراع بين الأنواع موجود عبر التاريخ، والصراع داخل أفراد نفس النوع موجود أيضا خاصة بين الذكور، وفى أحوال محدودة ينشأ مثل هذا الصراع عندما تضيق الموارد فتعجز عن الوفاء بحاجات البقاء لمجموع أفراد النوع، ظل هذا الأمر كذلك حتى ظهر ما (من) يسمى بالإنسان.
الإنسان حيوان يحتوى تاريخه. وهو يعيش أغلب وجوده بوعيه الأحدث، بقدر ما هو مشروع وعى يتخلق باستمرار: “بالتناوب” من خلال الإيقاع الحيوي، و”بالجدل” من خلال الإبداع على كل المستويات، بينه وبينه (بين مستويات وعيه وبعضها)، وبينه وبين “الآخر البشري”، حالة كون هذا الآخر يمارس نفس الإيقاع ذى الحركية النابضة. وبينه وبين الطبيعة: خاصة إذا ما استشعر خطرها، أو خشى من انسلاخه عنها. من هذا المنطلق لا يكون الإنسان إنسانا إلا إذا أضيف هذا البعد الذى يسمى الوعى (بكافة مستوياته) إلى كل نشاطاته ووظائفه وغرائزه، ليحقق من خلال هذه الإضافة تجليات حضور تركيبه القديم فى تشكيل جديد لا يلغى أو يهمل ما يحتوى من قديم لكنه لا يستسلم له ولا يدعه يقوده.
الرقم الخطير الذى يعلنه علماء التطور وعلماء الباليونتولوجيا (الباحثين فى أشكال الحياة فى العصور القديمة) يقول: إنه من بين 50 بليون نوعا من الحيوانات والنباتات التى ظهرت على الأرض لا يوجد حيا إلا ما يقرب من 40 مليون نوعا، أى أن نسبة انقراض الأنواع على مدى تاريخ الحياة هى 99.9%. هذا الرقم لا يدعو للاستسلام بقدر ما ينبه إلى أن دور الجنس البشري، بما نعرفه عنه حتى الآن، ليس هينا فى منع هذا الاحتمال الغالب.
الكائن البشري، فيما نعلم، قد أصبح مشاركا أكثر فأكثر فى مساره باكتسابه كلا من الوعى والإبداع “معا”.
مواجهة ومراجعة
من أهم المناطق الواجب مراجعتها بشجاعة مناسبة منطقة التاريخ الحيوى الذى نحتويه نحن البشر “هنا والآن”. إن بعض هذا التاريخ يزعجنا مع أننا لا نكون بشرا بدونه، من بين ذلك ما نسميه “الغرائز”، ومن أهم ما لم نتصالح معه من بين هذه الغرائز غريزة العدوان التى هى المحور الأساسى لهذه الأطروحة.
نحن نحتاج إلى أن نعرف عن هذه الغريزة أشمل وأعمق خاصة وأنها أهملت وهمشت وشوهت أكثر بكثير من الغرائز الأخرى بما فى ذلك غريزة الجنس. ولكن قبل أن نبين بعض ذلك دعونا أولا نراجع إشكالة علاقتنا السيئة بغرائزنا عامة.
نبدأ بمراجعة أشمل لماهية الغرائز وما آلت إليه مما يعد مهربا علميا (شبه علمي) لا يليق.
أين موقع ما هو “غريزة” الآن
كاد الغرور الإنسانى (العلمي) يصيب “نظرية الغرائز” فى مقتل دون وجه حق، وذلك منذ ثارت نزعة مضادة ضدها، وقد توالت الضربات عليها من مصدرين أساسين، هما الاتجاه السلوكى من ناحية، والاتجاه الاجتماعى من ناحية أخري. إن مواقف اتجاهات علم النفس المعاصر، فى أغلبها، لم تدعم نظرية الغرائز بقدر ما حطت من قدرها أو أهملتها، وحتى غريزة الجنس كما هي، أو كما قدمها فرويد، لم تأخذ حقها فى الاستيعاب البيولوجي/الوجودى المناسب. إن سيجموند فرويد نفسه لم يعطها حقها على الرغم مما شاع عن فكره، بل جعل كبتها والتسامى فوقها (فيما هو “موقف أخلاقي”، أولصناعة حضارة ما) هو السبيل إلى التحكم فيها، ثم إنه بالغ فى عقلنتها (فيما هو نظرية) على حساب إحيائها باعتبارها لغة تواصل أرقى وأشمل، حتى ليمكن أن نأخذ نقد هـ. لورانس مأخذ الجد إذ يقول… “إن تناول فرويد للعمليات الغريزية فى الإنسان كان محملا بثقل الشعور بالذات لدرجة خليقة بأن تكتفى بإعلان الميل الشبقى بعيدا عن (فعل) الحياة، لتطيح باحتمال أن يحقق الإنسان براءته التلقائية وانبعاثه الخلاق بحق”، ثم يمضى لورنس فيقول “… إن نظرية التحليل النفسى قد أعــدت لتصيبنا بحالة من “الجنس فى الرأس” (الدماغ)، ولا أحسب أن هذا هو المكان اللائق به”. برغم كل ذلك فإن غريزة الجنس لها مجال ومتنفس وتجليات كادت تستوعبها أكثر من غريزة العدوان بكثير، ولكن تظل المحاولات لتهميش الغرائز تتمادى تحت مبرر أخلاقى أو مثالى لا شعورى عادة عند أغلب المفكرين (فالناس)، الأمر الذى ترتبت عليه عقلنة أو تشويه الأصل البيولوجى للطبيعة البشرية، بما يحول دون تطورها التلقائي.
برغم كل ذلك فإن فيما نالته غريزة الجنس من الانتباه والقبول والعناية والدراسة ما جعلها تصلح مرجعا للنظر المقارن فيما لم تنله غريزة العدوان بالمقابل. الجنس يجد مخرجا شرعيا واجتماعيا ودينيا مباشرا فى الزواج (قبل وبعد فرويد). وهو يجد كذلك مخرجا اجتماعيا (ومدنيا أحيانا) فى صورة العلاقات التلقائية قبل وخارج منظمات الأسرة فى كثير من المجتمعات شديدة البدائية وفى المجتمعات المتقدمة على حد سواء، كما أن الحديث عن الميل الجنسى بما يحمل من فرص التنفيث والإرضاء الجزئى يعتبر حديثا مقبولا ومحببا، بل وأحيانا فخرا وزهوا ـ غببيا ـ للرجال على الأقل، وللجنس حضور كاف ومطلوب ومرحب به عادة، فى صورته الصريحة أو المحورة، فى كثير من الأعمال الأدبية والفنية وحتى فى بعض مظاهر التدين (العشق الإلهى والغزل فى الأنبياء والأولياء… الخ).
أما غريزة العدوان فسمعتها سيئة على طول الخط، وبالتالى فإن إنكارها جاهز وفوري، فإن لم ينجح فإن ميكانزمات الإبدال والإحلال والإزاحة والترميز جاهزة ونشطة دائما أبدا. وقد بدا مؤخرا أن ما يسمى التنافس بكافة تجلياته هو الأقرب إلى احتواء طاقة العدوان بشكل أو بآخر.
عن التنافس
تتجه التربية عموما، إلى حفز التنافس لاستيعاب طاقة غريزة العدوان بشكل أو بآخر، يشمل ذلك التنافس الأكاديمي، والتنافس الرياضي، والتنافس الاجتماعى (الشهرة)، والتنافس الجوائزى (التقدير الرسمى وشبه الرسمي)، لكن يبدو أن كل ذلك ليس (أو لم يعد) كافيا لامتصاص طاقة العدوان فضلا عن احتمال الضرر من الإفراط فى التنافس حتى الانشقاق أو الاغتراب أو كليهما. فالتنافس الرياضى ـ مثلا ـ لا يشمل إلا نسبة ضئيلة من الناس، فهو ـ حتى لو نجح فى احتواء طاقة العدوان ـ لا يشارك فيه عامة الناس إلا بتقمص المتنافسين من الوضع “جلوسا”، مصفقين على أحسن الفروض (!!)، وهذا غير كاف. فضلا عن احتمال الخداع والتشويه.
الأمر يبدو وكأنه لا توجد فى عالمنا المعاصر أية فرصة حقيقية لإطلاق غريزة العدوان ولا للتنفيس عنها أو حتى لمجرد الاعتراف بما يسمح باستيعابها، كما أنه يثبت كل يوم أكثر فأكثر أن التنافس ـ هكذا ـ لم يعد يكفي، وكأننا يمكننا إعلان أن درجة الكبت والمنع والإنكار لغريزة العدوان قد وصلت إلى أضعاف ما أزعج فرويد بالنسبة لغريزة الجنس وآثار كبتها.
قراءة أخرى فى دور الغرائز وفضلها
إن الغريزة، باعتبارها سلوكا أوليا مطبوعا، ومن ثم موروثا للنوع كافة، وموروثا للفرد مع بعض التفاصيل المختلفة بين الأفراد هى تنظيم “خلوى نيورونى، كما أن لها فى نفس الوقت من خلال ارتباطات تنظيمها النيورونى والخلوي، تعبيرات محورة تخدم أيضا المستويات الأعلى من الوجود الحيوى للنوع أو الفرد على حد سواء. إن الغريزة لا تظهر فى صورتها البدائية الأولية الفجة تماما إلا إذا انفصلت عن سائر الغرائز الأخرى من ناحية، وكذلك إذا انفصلت عن سائر الوظائف الأعلى من ناحية أخري. ومتى عجزت الغريزة عن التكامل فى الارتباطات الأعلى والأشمل فإن وظيفتها تقتصر على دورها الدافعى الأدنى وهو دور هام جدا لكنه لا يكون كافيا إلا فى أحياء لم تتطور إلى ما تطور إليه الإنسان. وبما أن الإنسان لم يصل بعد إلى التكامل المناسب مع تاريخه فإنه يعامل احتمال شطط غرائزه بالميكانزمات المناسبة لضبطها مرحليا على الأقل.
المسار الطبيعى لأى غريزة هو أن تتسع ترابطاتها مع اتساع وشمولية نمو الوعى حتى تصبح قادرة على الالتحام الولافى فى حركية التكامل الجدلي، سواء كان ذلك مع ما يبدو نقيضها من غرائز أو مع وظائف أخرى أحدث وأقدر (فلا تعود تحتاج إلى التعامل بالميكانزمات المناسبة بقدر جسيم أو طول الوقت).
من خلال هذه الافترضات المبدئية يمكن إعادة النظر فى التصورات والمعلومات والمظاهر المتعلقة بغريزة الجنس بوصفها نموذجا نال حظا وافرا من الدراسة، وكذلك بوصفها معرضة لاتهامات أقل بأنها مجرد تعلم مكتسب !!
إن الغريزة الجنسية بكل صورها البدائية والتالية، موجودة فى التركيب البشرى بتاريخه الحيوى كله، من أول مضاجعة المحارم – قبل أن يكون هناك محارم – حتى أجمل أشكال الحب المبدع “معا” (وليس مجرد الغرام)، ولقد زعم فرويد أن الميكانزم الإبدالى السليم، لحركية الغريزة الجنسية هو “التسامي” الذى اعتبره فرويد بشكل ما أساسا لكثير من مظاهر الحضارة، ومازال هذا التصور يمثل نوعا من الترضية لغريزة الجنس مع أنها ترضية تتم على حسابها وليس لحساب نموها وتكاملها. ليست هذه الغريزة هى موضوعنا الأول هنا على أى حال، نحن نتناول غريزةالعدوان اساسا.
قياس واجب
لا يوجد مبرر علمى (أو حتى أخلاقي) للتعامل مع غريزة العدوان بشكل مختلف عن تعاملنا (الميكانزماتى والحقيقي) مع غريزة الجنس. إن غريزة العدوان فى صورتها البدائية (القتل والالتهام) موجودة فى التركيب البشرى بتاريخه الحيوي. وقتل الأكبر سنا (مثلا: الوالد) لتوفير الطعام وإعطاء فرصة للاستمرار الحيوى قد يفسر بعض جذور السلوك البشرى دون حاجة للتمحك فى تفسيرات درامية ذكرياتية فرودية أوديبية تثبيتية خاصة. إن وظيفة غريزة العدوان (البدائية) الرئيسة هى حفظ الحياة (الاستمرار الفيزيائي) ولو بالقتل، أما وظيفتها الأرقى نسبيا فهى السيطرة للتنظيم الطبقى التمييزى المرحلى بالضرورة. إن من أهم أشكال التعبير المعاصر عن هذه الغريزة هو “تأكيد الذات” فى مواجهة الآخرين كما أن الميكانزم الإبدالى فى حالة عجز هذه الغريزة (النسبى أو المطلق) عن التعبير المباشر وغير المباشر هو التعويض التفوقى بالنجاح والمكسب والسيطرة والانتصار بكل صوره (كما ذكرنا فى البداية)، لكن كل ذلك يمكن أن يندرج تحت الحلول التعويضية أو التوفيقية وهى حلول لا تنتمى إلى التطور الحقيقى الذى أنتج الإنسان ويعد بإنتاج ما بعده. هذه الحلول ربما كانت تصلح حين كنا نتصور أن العقل هو أرقى ما وصل إليه الإنسان وأنه قادر على تنظيم حياتنا وحل مشاكلنا بمنطقه السليم وحساباته الجاهزة أو حين أملنا أنه متى انفصل الدين السلطوى عن الدولة (السلطة) فإننا ـ نحن البشر ـ سنصبح أحرارا قادرين على التخطيط المطلق دون وصاية كهنوتية فوقية، أو حين تصورنا أن العلم الحديث هو على درجة من الموضوعية كافية لحل مأزق الإنسان المعاصر الآن ومستقبلا (تطورا). كل هذا بدأ يتبين أنه ليس كافيا من واقع المسار الواقعى لمجريات الأمور.
الذى حدث أو نأمل أن يحدث أو علينا أن نسعى حتى يحدث هو ثورة معرفية إبداعية، ليست فقط تقنية علمية، بل ثورة حقيقية شاملة تعد بتصحيح ما، لعله ينفع.
وهذا ما سنكمله الأسبوع القادم
……………..
للحديث بقية
(ونلتقى الأسبوع القادم لنتعرف على “حركية التطور وجدل الآتى”)
[1] – هذه المقالة تنشر هنا من جزأين، وكانت قد نشرت كاملة في مجلة وجهات نظر – أكتوبر 2004 وقد تغير العنوان بعد قسمتها وسوف ننشر بقيتها الأسبوع القادم بعنوان: “حركية التطور وجدل الآتى”
2020-04-11