نشرت فى جريدة الوطن
17/5/2001
الاهتمام بالأضعف، على حساب إطلاق قدرات الأقوى
لا مانع أن نستورد العربات، والآلات التى تنقصنا، والتقنيات الحديثة مثل الحاسوب وكاميرات الفيديو والساعات التى تؤذن ( خطأ) كل ساعة. لا مانع أن نكون سوقا للغرب والشمال من أول أمريكا حتى إيطاليا، وللشرق الأقصى من أول الصين حتى سنغافورة، كل ذلك أعتبره مرحلة سوف تنقضى بمجرد أن نسترد عافيتنا التصنيعية واستقلالنا الاقتصادى.
لكن الخطر الأكبر يكمن فى أن نستدرج لنستورد المفاهيم بحرفيتها كما يصيغونها، ويحاولون حشرها فى أدمعتنا حشرا. أشرت فى مقالات سابقة إلى أن حقوق الإنسان التى يروجون لها ليست هى كل حقوق الإنسان كما خلقه الله. هى حقوق على الورق أكثر منها حقوقا فى ضمائر البشر فردا فردا. هى حقوق مفصلة على مقاس حضارتهم، وأنا لا أزعم أنها بلا قيمة، أو أنها، لو صدقت النوايا، ليست حقوقا كريمة ينبغى مراعاتها، لكننى أقول إنها خطوة أولى نحو حقوق الإنسان، وحقوق الله، وحقوق التطور، وحقوق الإبداع. إن خطورتها أن تصنم فتعبد من دون الحقوق الأعمق والأصدق.
نفس الإشارة أشرت إليها فى ضرورة التفرقة بين الديمقراطية وبين الحرية. مرة أخرى الديقراطية هى خطوة نحو الحرية وليست مرادفة لها، لكن لا هذا ولا ذاك هو حديث اليوم، وقد أعود إلى كل منهما فى حديث لاحق.
سوف أقصر إشارتى فى هذا المقال على مفهوم آخر نستورده أيضا دون تحوير، كما شاع عندهم، رغم أنه قد يكون لنا فيه رأى أعمق، ورؤية أشمل، وهو مفهوم الإعاقة.
قل كلمة “إعاقة”، أو”معاق”، أو “معوق”، وسوف تقفز إلى ذهنك صورة صبى مصاب بشلل أطفال يتحرك على كرسى ذى عجلات، أو مجند بترت ساقاه، لكن الشائع أكثر عن هذه الكلمة “معوق” هو ما يتبادر إلى الذهن من أنها تشير إلى ضعاف العقول وناقصى الذكاء.
فلماذ نستسلم ونقصر مفهوم الإعاقة على ما استوردناه منهم، لماذا لا ننظر فى حقيقة ما نفعل بما منحنا الله من قدرات لنكتشف أن ثمة إعاقة أخرى مكتسبة، نحن الأسوياء مسؤولون عن تفشيها فينا، وعن تمادى آثارها على وجودنا. إنهم بتركيزهم على مفهوم ضيق للإعاقة يغرون أغلبنا ببذل الجهد والمال والوقت لفئة محدودة، فئة لا شك أنها تستأهل كل رعاية، لكن الخوف أن نكتفى بذلك دون الانتباه إلى ما يمكن أن يسمى “الوقاية من إعاقات محتملة، نساق إليها جميعا دون وعى كامل. لا شك أن أهم ما تقاس به حضارة أمة من الأمم هو مدى اهتمامها الحقيقى بالمعوقين عامة وبالطفل المعوق تحديدا.لكن الحقيقة المكملة لهذه الحقيقة هى أن إبداع أمة من الأمم يقاس بعطاء القادرين منها وإبداعاتهم.
دعونا نضع تعريفا أشمل للإعاقة، يحتوى كلا من الإعاقة الأولية (وهى الأشهر تحت هذا الاسم) والإعاقة المكتسبة، وهى الناتجة عن عدم استعمال قدراتنا الاستعمال الصحيح، اكما خلقها الله. نقترح التعريف التالي: إن الإعاقة هى نتاج الحرمان من الفرص الموضوعية الكافية التى تطلق طاقات الإنسان إلى مدى القدرة المتاح لها.
إن أى عقل بشرى لا يبدع كما خلقه الله ويكتفى بأن يكون مخزن أرشيف، أو شريط تسجيل، هو معوق، ونظرة إلى ما يفعله التعليم التقليدى الآن بالقدرة على الإبداع يمكن أن ينبهنا إلى أننا نقدم للطالب كما هائلا من مصدات الفكر لا مثيراته، بالإضافة إلى كتل متراصة من بقايا المعلومات، وليس خطط الوصول إليها. ألا ينتج عن كل هذا عقل مكبل بما لا يستعمل، مسجون فيما لم يختر، مقزم دون ما يستطيع ؟
ثم لنأخذ مثالا أبسط وأكثر عيانية. تعالوا ننظر إلى أجسادنا، وتحديدا إلى عضلاتنا، لنكتشف أن قصر تعبير “المعوق حركيا” على من يعانى مثلا من الشلل، هو نوع من الخداع أيضا. نكتشف ذلك حين ننظر فى عضلاتنا نحن الكبار وهى سليمة مائة بالمائة، ونتساءل: إلى أى مدى نستعملها كما خلقها الله ؟ لقد علمونا أن ننتقل داخل السيارة الموضوعة أمام باب المنزل، ننتقل من أمام التليفزيون، إلى كرسى مكتب العمل، ثم نعود إلى مقاعدنا أمام التلفزيون من جديد، وفى أحسن الأحوال، إلى أريكة الاسترخاء بالمنزل وأحيانا إلى كرسى مكتب المنزل. ألا ترى معى أننا بتصرفنا هذا نكاد نستغنى عن نعمة عضلاتنا تماما، حتى نتساوى مع أى معوق قدحرم من فاعلية عضلاته بالشلل مثلا. أنا لا أدعو بذلك إلى التوصية باستعمال العضلات بممارسة رياضة ما، فهذا تعويض محدود خائب، لكننى أنبه إلى تنازلنا عن حقنا فى السير البسيط مددا تستأهل احترام نعمة أننا كائنات لنا عضلات، نحن لا نمارس العمل الجسدى بقدر كاف، ولا نسير مسافات تستأهل، ولا نسقى زرعا بأنفسنا، ولا نركب الدراجات، ولا نباعد بين محطات الأتوبيس وبعضها حتى نضطر للسير إليها.
إننى يمكن أن أقدم قائمة طويلة عريضة أعدد فيها ما منحنا الله من أعضاء، وقدرات، تنازلنا عن استعمالها أصلا حتى أصبحنا كلنا معاقين والعياذ بالله.
هذا ما عنيته بالإعاقة المكتسبة، لأنبه إلى ضرورة العمل على الوقاية منها، جنبا إلى جنب مع الوفاء بكل التزاماتنا واحترامنا للمعاقين بالمحن المرضية والخلقية، وبهذا نكون قد تجاوزنا المعنى المستورد، إلى ما يليق بطموحنا نحو عطاء إنسانى إبداعى أشمل.
يخطر ببالى أحيانا أن مجتمعات الوفرة والرفاهية التى استكملت كل مقومات حضارتها وتفوقها، وبدأت تنتبه إلى الفئات الأضعف، تصدر إلينا دعوة مغرية بالتشبه بهم، وأن نرتب جهودنا حسب أولوياتهم وقيمهم، وذلك بممارسة طقوس الشفقة ومصمصمة الشفاه للعجزة، والمعاقين الأطفال، والمصابين بالأمراض المستعصية، ثم التركيز على عونهم، بديلا عن الاهتمام بتنمية الكم الهائل من قدرات الأصحاء منا.
ثم أعود فأرفض هذا الخاطر التآمرى، وأنبه نفسى أنها مسؤوليتنا فى نهاية النهاية، وأن علينا أن نحدد أولوياتنا، وأن نوازن بين الاهتمام بالأضعف، وإطلاق قدرات الأقوى، وأن نعيد النظر طول الوقت فيما ندعى للمشاركة فيه، لنحسن ترتيب أمورنا بأنفسنا.