الحوار والحقيقة
أ. فريد زهران
وصلت مصر فى ظل تجريم العمل الجماعى وازدهار الحل الفردى المرتبط بالرزق النفطى إلى انهيار فى مؤسسات وقيم العمل الجماعي، ومن ثم فإنه رغم الازدهار الملحوظ الذى شهده الفكر المصرى فى ظل القدر الديمقراطى المتاح من حرية التعبير، فإن هذا الازدهار ظل فرديا ووثيق الارتباط بقدرات ومواهب خاصة وفردية لبعض من العقول النابهة التى استطاعت بحق أن تقدم للثقافة المصرية – والعربية إنجازات لن نستطيع أن نقدرها حق قدرها إلا فى مناخ مختلف عندما تدب الصحوة فى أوصال العمل الجماعى الإنسانى حيث ستصبح هذه الإنجازات الفكرية – التى أهملت طوال العقدين الماضيين رغم أهميتها – القوة المحركة لنهضة مصرية قادمة بإذن الله.
وظيفة الحوار الآن فى المجتمع المصرى إذن هى إقامة جسور بين جزر الإنجاز الفكرى المعزولة عن بعضها البعض، والهدف الرئيسى من ورائها بالتحديد هو بناء نسق – أو بالأحرى – مجموعة مختلفة من الأنساق الفكرية، ونحن نعتقد أن الوصول إلى هذا الهدف الرئيسى يقتضى تحقيق مجموعة كبيرة من الأهداف الجزئية، ولكن دعونا نتساءل فى البداية:
هل يستحق هذا الهدف عناء الحوار ومشاقه وتضحياته؟
بناء نسق فكرى هو هدف كل مفكر حتى لو لميعلنه صراحة، والمفكرون الكبار لايعتنون ببناء نسق جزئى فى هذا الفرع من فروع المعرفة أو ذاك فحسب، وإنما تراهم – على الرغم من أنهم يبدؤون من تخصص معرفى ضيق – مهمومين ببناء نسق فكرى كلى أو شامل مهما بدا هذا النسق منفتحا أو قابلا للتطوير والتعديل والارتقاء بحكم ركائزه المنهجية، ومن طبائع الأمور أن نعتقد أن مايمكن أن يقوم به عقل واحد منعزل هو أقل بكثير جدا مما يمكن أن تقوم به جماعة من العقول، خاصة إذا كانت هذه الجماعة معنية بتطوير المجتمع من خلال الانخراط فى الصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهو مايمكن أن يتوفر للجماعات والتيارات التى قد يتفاوت درجة مشاركة بعض من عناصرها فى تفاعلات المجتمع ويظل للجماعة كلها – بمقتضى هذه المشاركة على تفاوتها – صلة حميمة بالواقع حتى لو كانت بعض عناصرها أكثر عزلة من بعضها الآخر.
إن وجود نسق أو تيار فكرى قوى ومؤثر وعميق هو أمر مرهون إلى حد كبير- وفقا لما تقدم – بخروج العقل المصرى من فرديته ونجاحه فى بناء عمل جماعي، ومن هنا تأتى أهمية الحوار باعتباره الوسيلة الوحيدة لبناء هذه “الجماعة” أو الجماعات التى نصبو إليها، حيث يتيح الحوار – والحوار وحده بعيدا عن أى قسر أو قولبة يفرضها أيا كان – الإمكانية العمـلية لبناء نسق أو مجموعة من الأنساق الفكرية، ولعل أحد هذه الأنساق -يستطيع أن يلعب دور الرافعة – أو المحرك – القادر على استنهاض الهمم وكسر حلقة الفردية واللامبالاة الشريرة التى تكبل المجتمع كله وتشده إلى مهاوى التخلف والجمود المرتبطة بالتطهر المزيف والدروشة العـقيمة.
كان هذا عن أهمية الحوار فى بناء نسق أو أنساق فكرية، فما هى الخطوة الضرورية والأهم فى هذا الاتجاه؟!
نحن نعتقد أن استجلاء جوانب الحقيقة من خلال عملية ‘ التعرف” هى الخطوة الأولى فى اتجاه بناء أى عمل جماعي، والوصول إلى الحقيقة كأحد أهداف الحوار “التمهيدية” – إذا صح التعبير – ليس أمرا سهلا كما يتصور البعض، ذلك أن هناك اتجاه يرى أن هذه ‘ الحقيقة” نسبية وترديد مثل هذا الكلام بثقة ينفى عن الحقيقة موضوعيتها ويخلط عن جهل – أو سوء نية -بين وجهات النظر والتقديرات المختلفة وبين وجود الحقيقة رغم التقديرات المتفاوتة، بل ورغم القصور الإنسانى أحيانا عن رؤية هذه الحقيقة، ولعل أبرز أمثلة ذلك الحكاية التى تقول إن مجموعة من العميان تلمسوا فيلا وطلب منهم أن يصفوا ما لمسوه فقال أحدهم – وكان قد لمس رجل الفيل – إنه جذع شجرة، بينما قال آخر إنه خرطوم غليظ – وكان قد لمس خرطوم الفيل – وهكذا وصف كل أعمى جزءا من الفيل – أو جزءا من الحقيقة، وهذه القصة تروى عادة للدلالة على أن الحقيقة لها أكثر من وجه، ونحن نختلف مع هذه القصة لعدة اعتبارات، منها أن الفيل هو الفيل واللذين عجزوا عن تقديم وصف كلى له هم عميان، ومن ناحية أخرى فإنه إذا كان الإنسان بقدراته عاجز مثل هؤلاء العميان عن الإحاطة بكل جوانب الحقيقة – كما يزعمون – فإن تضافر جهد هؤلاء العميان كان كفيلا بوصولهم – معا- إلى الحقيقة فى تكاملها وتعبيرها المجرد عن نفسها.
الفيل هو الفيل ولا شيء آخر، والحقيقة هى الحقيقة، ويجوز للبعض أن يتصور أن الفيل حيوان مفيد لأننا لا نحصل منه على العاج – مثلا- فيما قد يرى البعض الآخر أن الفيل مهدد بالإنقراض ولابد من تحريم تجارة العاج، وفى هذه الحدود فحسب يجوز الاختلاف فى الآراء والرؤى حيث يبدأ الجميع من أنه فيل ولكنهم يختلفون فيما بينهم حول موقفهم من هذا الفيل، وغالبا سيعبر الاختلاف عن مصالح مختلفة حيث لن يكون الخلاف أو الاختلاف تعبيرا عن هوى أو مزاج وإنما سيكون تعبيرا عن مصالح ومواقع مختلفة.
دعونا ننقل الموضوع إلى أرض الواقع حتى نتبين أهمية الإقرار بوجود الحقيقة كمسألة مستقلة عن وعينا وإرادتنا ووجهات نظرنا.
ما بين العدد السابق من الإنسان والتطور وهذا العدد حدثت أحداث ثلاث توضح كيف أن الحقيقة قائمة وموجودة، ولكن التعرف عليها ليس سهلا وفى حاجة إلى جهد جماعى ورغبة صادقة لن تتوفر إلا لمن يرى – بعمق – أن استجلاء جوانب الحقيقة هو الشرط الأولى لبناء وجهة نظر، حيث يصبح الصراع بين ‘ المختلفين” مضحك وغير منطقى – على طريقة شر البلية ما يضحك – إذا كانت الحقيقة نفسها غائبة والمتحاربون ليسوا حريصين على التعرف عليها أولا وقبل أى شيء آخر.
الأحداث التى نود الإشارة إليها بالتحديد هي: حادث قطار كفر الدوار، وحادث تسمم أطفال المدارس فى بعض المحافظات نتيجة تناول الوجبة المدرسية، وأخيرا حادث قرية الكشح.
الأحداث الثلاثة هزت المجتمع المصرى هزا، وأثارت اهتماما واسعا فى كل وسائل الإعلام، ومن ثم فقد احتدم حولها حوار واسع حيث أدلى الجميع بدلوهم واحتدم الاتفاق والاختلاف، وفى ظل هذه الأجواء الصاخبة، بدا الأمر بالنسبة لى شخصيا عبثا حيث هالنى أن أحدا فى ظل هذا الاهتمام “المفتعل” لم يهتم بالتعرف على الحقيقة حتى “يطالب” أو “يشجب” أو “يناشد”.
فى حادث القطار أعلن مسئولون كبار أن سبب الكارثة – الحقيقي! – هو عبث جمهور ‘ المسطحين” بـ “جزرة الفرامل” (ولم أعرف حتى الآن ماذا تعنى “جزرة” !!) والطريف أن عددا من الكتاب قد اعتبر كلام هؤلاء المسئولين كأن لم يكن وشرعوا فى الهجوم على ما اعتبروه إهمالا لايغتفر، وفى تطور لاحق عندما أفادت نتائج التحقيقات أن صيانة الفرامل لم تكن على ما يرام لم يتوقف أحد عندما أعلنه كبار المسئولين فى البداية من حقائق مزيفة، وهكذا فإن الحقيقة لم تكن هدفا، أو بالأحرى مقدمة يترتب عليها اتخاذ الموقف، فالمواقف كانت جاهزة، واللذين اعتبروا أن هناك إهمال هاجموه وطلبوا محاسبة المسئولين دون أن يتأكدوا من وجود هذا الإهمال، واللذين دافعوا عن هيئة السكك الحديدية وهاجموا التسطيح لم يغيروا أقوالهم عندما أظهرت التحقيقات أن هناك إهمالا، وكبار المسئولين لم يستقيلوا عندما ثبت ذلك ( هل تأكد ذلك بالفعل؟!لا أحد يدري) على ما أعتقد حتى تاريخه، بل ولم يقدموا حتى اعتذارا للرأى العام لا عن الإهمال عما ما ذهبوا إليه فى البداية من حقائق مغلوطة ومزيفة.
ما حدث بالنسبة لقطار كفر الدوار حدث بالنسبة للوجبة المدرسية، ولقد حاولت أن أمسك بخناق الموضوع وأفهم رأسه من رجليه – كما يقولون – من خلال متابعة الحوار الدائر فى الصحف، ولكننى فشلت، قال بعض الثقاة إنها هستيريا جماعية، وأكد البعض الآخر إنها أغذية فاسدة، ولأننا أميل لتصديق مايتردد حول الإهمال والسرقات ولأن المزاج العام سوداوى فقد بدا واضحا كيف أن أغلب الكتاب اعتمدوا الفساد سببا لفساد الأغذية دون أن يعتنوا بالتصريحات الخاصة بالهيستريا الجماعية ودون أن تنتهى التحقيقات، وهكذا احتدم الحوار وقدم كل من هب ودب طلباته دون أن تتأكد الحقائق ودون أن يهتم أحد بمعرفة ما حدث.
بخصوص حادث قرية الكشح كانت الأمور أسوأ كثيرا، ذلك أن ما حدث أوائل أغسطس 1998 لم يعرف به الرأى العام فى مصر إلا عندما نشرت ‘ الصنداى تلجراف” قصة تختلط فيها الحقائق بالأكاذيب، فانبرت الأقلام فى مصر لتكذب القصة دون أن يعرف الرأى العام المصرى أصلا ما هى الحكاية بالضبط. وكان ذلك بعد شهرين من الصمت والتجاهل رغم حرص الكنيسة على الاتصال بالمسئولين للتحقيق فى الأمر، ورغم أن جيشا من الكتاب المدججين بالأحادث حول “السبيكة الوطنية” و “النسيج الوطني” قد هاجموا كل “المسئولين” ابتداء من أقباط المهجر وانتهاء بمنظمات حقوق الإنسان فى مصر مرورا بالصنداى تلجراف على اعتبار أن هؤلاء الأعداء قد زيفوا الحقائق فإن أحدا من الذين كتبوا لم يذكر لنا بالضبط ما الذى ما حدث، واكتفت قلة قليلة من بعض الكتاب المحترمين بذكر بعض وقائع ما جرى فى حدود ما هو مسموح به بينما بدا كلام الأغلبية غامضا وغير مفهوم وهو يرد على آراء لم يعرض لها أحد ويكذب وقائع لم تجد طريقها للنشر، وهكذا حرص المعنيون بإدارة الحوار من رجال الدولة وكبار المسئولين على أن يكون حوارا بلا حقائق، وهكذا افتقدت وجهات النظر حول الموضوع – فى معظمها – إلى حقائق واضحة وفقدت بالتالى ما يمكن أن ترتكز إليه من مصداقية.
فى حادث الكشح مثلما هو الحال فى حادثتى القطار والتسمم كان من الممكن أن يكون هناك رواية واحدة أو حقيقة واضحة ووجهات نظر متعددة، فمثلا كان من الممكن أن يقال ما هو سبب حادث كفر الدوار بالضبط ثم يختلف الناس بعد ذلك، فمنهم من كان سيرى ان ما جرى مجرد قضاء وقدر ومنهم من كان سيرى أن ما جرى كان إهمالا لا يقتضى محاسبة المسئول عنه، وحول تحديد المسئول وحول نوع المحاسبة وطريقتها من الممكن أن يختلف الناس أيضا، وبالمثل ففى حادث التسمم كان الأمر يقتضى فى البداية أن نعرف على نحو اليقين ما إذا كانت هيستريا جماعية أم تسمما، وكان من المنطقى أن نعرف الحقيقة بالضبط ثم نختلف حول تقييم الموضوع وسبل اتقاء ذلك فى المستقبل، وما ينطبق على كفر الدوار والتسمم ينطبق على قرية الكشح حيث لايمكننا أن ندين الشرطة أو نلغى منظمات حقوق الإنسان دون أن نعرف أصلا حقيقة ما جري، بينما تم معالجة الأمر وكأننا نخجل من أن نطرح أصلا حقيقة ما جرى جريا على عادات فاشية ترى أن نشر الحقائق هو أمريحط من كرامتنا الوطنية تماما مثلما حدث عندما تم تعبئة القوات المحمولة “صحفيا” لكى تشن هجوما كاسحا على شبكة الـ CNN عندما بثت على العالم كله وقائع عملية ختان فى مصر حيث تحول الموضوع من الحوار حول موضوع الختان إلى الحوار حول شبكة الـ CNN وهؤلاء المشبوهين اللذين حرصوا على تشويه سمعتنا!
أخيرا يمكننا أن نستنتج هنا من خلال هذه الأحداث الواقعية الثلاثة انه لا قيمة للحوار إذا لم يضع نصب عينيه الوصول إلى الحقيقة أولا على اعتبار أن ذلك مقدمة ضرورية أو بالأحرى شرطا ضروريا لابد منه لبناء وجهات نظر، وليس معنى وصول الأطراف المختلفة واحدة لحقيقة أن هذه الأطراف لابد وأن تصل إلى وجهة نظر واحدة، ولكن الوصول إلى الحقيقة سيفسح المجال بين المتحاورين إلى الاختلاف الجدى المبنى على قناعات عميقة تنطلق من مواقع متباينة، بدلا من الخلافات المبتذلة التى تقف على أرض هشة من المعلومات المغلوطة والحقائق الكاذبة التى لا يبذل أى أحد كان فى سبيل التأكد من صحتها أى جهد يذكر، ويلاحظ بصفة عامة انه فى ظل انحطاط تقاليد الحوار فإن التعرف على الحقيقة لم يعد هدفا، وبعض المتحذلقين قد أعلنوا بصفاقة أنهم لايسعون فى سبيل الحقيقة لأنها نسبية، بل وأعلن بعضهم انه لا توجد حقيقة من بابه (!!) ونحن من جانبنا نعرف أن هناك وقائع حقيقية تتعلق بحادث كفر الدوار وتسمم الأطفال و”بهدلة” الناس فى قرية الكشح وبدون أن يفضى الحوار أولا وقبل أى شيء آخر إلى المعرفة الدقيقة بهذه الوقائع الحقيقية فإن أى اختلاف أو اتفاق حولها يعتبر أمرا سخيفا ولا معنى له.