الأهرام: 30-12-2002
الاختيار الصعب: العلمانية المؤمنة
منذ أكثر من خمس سنوات، طلبت منى ابنة كريمة محررة فى “الأهرام ويكلي” أن أكتب عن علاقة الإسلام بالعلمانية. رحت أبحث عن أصل الكلمة الانجليزية التى أفسدتها الترجمة العربية بترجمتها إلى العلمانية (بفتح العين) مما أدى إلى التباسها مع العلم والعلمية (بكسر العين). وجدت أن كلمة secular تعنى ما هو “ضد”المقدس”(الساكن) وليست أبدا ما هو “ضد الدين”. تمنيت أن تعرب الكلمة ولا تترجم، تعرب إلى “سكلـرة” (ومنها فعل رباعى يقبل الصرف العربى، سـكـلــر يسكلر). اكتشفت أن هذا الاستقطاب بين ما هو أصل الدين (الدين لم يجمدنا عند مقدس مصنوع) وما هو مرونة التغيير على أرض الواقع (وهو المعنى الحقيقى للعلـمانية) هو استقطاب خاطئ. هذا هو ما وصل للمحررة الذكية التى عنونت مقالى بعنوان من عندها يقول :” أضداد زائفة”False Opposites:الأهرام ويكلى 8-14 فبراير 1996.
خلاصة ما وصلت إليه من المعاجم الإنجليزية الموسوعية، ومن الموسوعة البريطانية، أنه: يوصف المجتمع بـالعلـمانية إذا “اتصف بالرغبة فى، والقدرة على، التطور والمبادأة والتغيير”. كثيرون ممن يقال لهم تنويريون أو مثقفون أو حتى علماء هم أقرب إلى الجمود المقدس(دين العلـمانية) وقلة من الاجتهاديين المبدعين المؤمنين المجددين هم أقرب إلى حركية ومرونة “العلمانية.
وجدت فى الموسوعة البريطانية أيضا كيف أن عالم الاجتماع الأمريكى “هوارد بيكر” راح يؤكد أن ما هو علمانى ليس مرادفا لما هو تجديف. كما أن بعض اللاهوتيين المسيحيين استطاعوا تنمية القيم المسيحية، لا إنكارها، ولا التنكر لها، من خلال ما أسموه “المسيحية العلمانية”.
يبدو أن الذى يحدث حاليا فى تركيا بعد فوز حزب العدالة والتنمية هو محاولة ممارسة هذه المصالحة على أرض واقع السياسة، ومن موقع السلطة الحاكمة. أنا لست واثقا إلى أى مدى سيحالف هذا الحزب التوفيق فى اختراق الصعوبات الداخلية (الجيش) والخارجية (التربص الأمريكي). إن الإسلام هو أولى أن يتجاوز هذا الانفصام الذى عزله عن العصر، وعن الإبداع.
يقتطف فهمى هويدى (الأهرام 12/17) كلا من الدكتور هشام شرابى أستاذ التاريخ فى جامعة جورج تاون الأمريكية (القدس اللندنية 12/1) و الكاتب التونسى صلاح الدين الجيوشى، (الحياة 12/5) حيث يدعو الأول إلى تجاوز الفصام بين العلمانى والإسلام، كما يكتب الثانى عن “العلمانية المؤمنة فى مقابل الدولة الإسلامية “. جذور هذه الأفكار قديمة قديمة (راجع كتاب فرح أنطون “الدين والعلم والإيمان” المطبوع أولا سنة 1903. وقد أعيد طبعه حديثا).
المسألة الآن تخطت مرحلة الكتابة والآمال. هذا الحل الصعب يـختبر الآن على أرض الواقع.
الخوف كل الخوف أن تضطر ألاعيب السياسة من دخلوا التجربة أن يرضوا بتلفيقات مسطحة: فترفع شعارات إيمانية إسلامية أو مسيحية تحصد الأصوات الانتخابية (فى تركيا أو أمريكا أو مصر!!!) ثم تمارس نفس القيم الكمية الاستهلاكية المغتربة تحت لافتات دينية.
التصالح الحقيقى لا يكون إلا بإبداع حقيقى وجدل متجاوز. لا يكفى أن يطلب عبد الله جول سرعة الانضمام إلى الوحدة الأوربية، ولا أن يرشو الولايات المتحدة بالسماح باستعمال أراضيها، حتى شاع مؤخرا زعم اشتراك قوات تركية فى غزو العراق من الشمال، كما لا يكفى أن تعلن تركيا حفاظها على علاقاتها الخاصة بإسرائيل خوفا من غضب الأخ الأكبر. يحدث كل ذلك على أمل أن يسمح الجيش التركى لزوجات الحكام وبناتهم ونسائهم وحريم تركيا بارتداء الحجاب. هذه تسويات عبثية أخطر على الإسلام وعلى العلـمانية من الانفصام الحالى بينهما.
إن البشر كافة فى حاجة إلى إبداعات حقيقية على الجانبين، إبداعات تحترم الحاجة إلى الإيمان كجوهر لنوعية الوجود البشرى، بقدر حاجتها إلى أدوات التقدم واضطراد التطور. (لاحظ التعبير “العلمانية المؤمنة ” وليس التدين الموصى عليه بتفسيرات بشرية وثقانية جامدة، أو بتخريجات وتأويلات سطحية شبه علمية متعسفة)
هذا هو التحدى الملقى على كل البشر.