الاهرام: 27/12/1978
الابداع .. واحتياجات المستقبل
أُتابع الحوار الدائر فى دنيا الثقافة فى بهجة صحية, وأجدنى متحفزا أن أضيف شيئا ما لعله ذو قيمة, فإن كان لمثلى حق فى ابداء الرأى فيما ليس فى اختصاصه فهو حق المنتفع أو المستهلك (باللغة الانفتاحية), فلا شك أنى كمستهلك أمثل جزءا من المناخ الذى تتحدثون عنه, ولا شك أن مثلى هو أيضا نوع من النقد الذى تفتقرون إليه بالإضافة إلى الناقد المتخصص الذى اعلنتم اختفاءه أو كدتم, وبالتالى فأنا – المنتفع – مسئول ضمنا عن الاستمرار الإبداعى أو التوقف العقيم, كما أن لى صفة اخرى اسميها هذه المرة ‘السندباد النفسى’ (بعد إذن استاذنا الدكتور حسين فوزى), وفى رحلاتى داخل النفس احمل رسالة على أن أبلغها لاهل الشأن من المبدعين, وهى مرسلة من أبناء عمومتهم ‘المرضى’ فالمريض النفسى والمجنون خاصة – يتفق مع الفنان فى أنهما يريان المستقبل بعين الوعى الاعمق, وفى حين ينهار الأول أمام هذه الرؤية الداهمة. يستوعبها الثانى بمسئولية الانبياء, ويبلغها لاصحابها باللغه القادره على التواصل بين الناس من ناحية, والربط بين الحاضر والمستقبل من ناحية أخرى.
هذه الوقفة عن الابداع:
ووسط الآراء المتبادلة ما بين تصور إعلان انتهاء الطموحات الهائلة, وبين النداء لفتح الأبواب للاجيال القادمة, أجدنى اتخطى هذا وذاك واتساءل من واقع معرفتى السندبادية: ألا يوجد معنى أخر لهذه الوقفة غير سوء المناخ, واختفاء النقاد؟ ألا يمكن أن تكون هذه الوقفة – رغم خطورتها – إعلانا ضمنيا بأن الفن المطروح – نقدا وإبداعا – لم يعد يكفى احتياجات الإنسان المعاصر .. على أرضنا هذه بل وكل أرض؟؟ إلا بدل فشل فن العبث فى الاستمرار بوصفه مجرد أطروحة مناقضة. وفى نفس الوقت العجز عن إحياء الفن التقليدى أننا فى مرحلة تتطلب شيئا آخر, ينظر من بعد آخر, ويوصف بلغة أخرى؟؟؟.
موت البطل:
إن الفن الذى يمجد البطل الزعيم أصبح لا يرضى حتى الأطفال, لقد كان لمثل هذه الصورة فيما مضى وظيفة ضرورية تسهم فى تخطى حواجز العجز وقهر الواقع وضمور الوعى من خلال تقمص هذه الصورة التعريضية ذات البعد الواحد, إلا أن ذلك أصبح تاريخا قديما بعد أن حل الإنسان العادى بتناقضاته الحية محل البطل الأسطورى, وأصبحت من مهمة الفنان أن يسبر غور هذه النفس الإنسانية النابضة الحادية, دون تحيز غوغائى مسطح بافتعال الفصل بين الخير والشر فصلا يخالف طبيعة الإنسان ومسار نموه فى توليف تناقضاته, ولكن ليس معنى ذلك أن الفن الجديد هو الفن الذى يميع الموقف بين الخير والشر, أو يبرر الشر بضرورة وجوده لاكتمال معادلة التناقض. أو يدعو إلى الاستسلام الميت فى معادلة الحل الوسط السلبى بل إن الفن المطلوب هو الذى يحافظ على حيوية التناقض مع تحمل الغموض بدرجة تسهم فى التوليف الأعلى دون استسهال الحل المثالى المؤجل أو الحل البطولى المفتعل.
كشف خدعة ‘الفن الملتزم’:
ثم إن الفن الذى شاع فى مرحلة قريبة تحت دعوى الالتزام أصبح متخلفا عن احتياجات الإنسان المعاصر, والالتزام الذى اعنيه هو الالتزام برأى جاهز أو ادعاء التحيز لفئة غالبة ولكنه ليس الالتزام بالصدق الداخلى وحمل أمانة الرمز (الكلمة أساسا), وحقيقة الالتزام بصورته الشائعة (الأولى) تتنافى مع وظيفة الفن الحرة الشاملة المستقبلية الاستطلاعية, فلم يعد الفن الجيد هو الذى يرشو هذه الفئة او يتعصب لهذا الموقف بعد أن تبين تسطيح هذه الدعاوى رغم صلاحيتها لمرحلة عابرة من تطور الامم, ولذلك فقد اصبحت شعارات ‘فن الشعب’, ‘فن الكادحين’, وفن تحرير المرأة’, و’فن الدفاع عن السود’ .. الخ رغم فائدتها التاريخية الرائعة ودورها الذى لا ينكر, اصبحت لا تمثل فئة الانتماء للحق والحقيقة كما تصورناها زمنا, لأنها بطبيعتها, ومهما قيل فى شرف مهمتها, ذات بعد واحد لا غير, وقد اسهمت اختبارات الزمن, واعادة النظر من واقع الممارسة, فى كشف هذه الخدعة التى اختبأت طويلا تحت عنوان ‘الالتزام’, ذلك أن هذا الالتزام المسطح لم يغن احتياج الإنسان المعاصر التعرف على هذه الفئات داخل تكوينه, وأصبح اسقاط تناقضاتنا على الخارج ما بين فئة ظالمة وفئة مظلومة اسقاطا عاجزا وقاصرا عن استيعاب احتياجات الإنسان المعاصر متزايد الوعى, وبالتالى فقد اصبح الاقتصار على الدعوة لنمو مثل هذا الفن ‘الملتزم’ باعتباره الفن الوحيد المهتم بمشاكل الإنسان. هو تنمية لاغتراب لم يعد الإنسان المعاصر يطيقه.
ثورة التوصيل والمواصلات:
ثم ظهر تحد آخر أمام الفنان المعاصر يرتبط مباشرة بثورة التوصيل عبر الاقمار الصناعية وفى تقديرى – كمثال – أن الاثار الفنية والإنسانية التى ترتبت على إذاعة كأس العالم فى مباريات كرة القدم كانت أكبر بكثير من مجرد التمتع باللعبة الحلوة. لقد كانت أشبه ‘بالحج التكنولوجى’ حين أحس العالم كله بنفس المشاعر والكرة تهز شبكة أحد الفريقين وأصبح على الفن المعاصر أن يسارع باستيعاب دور هذا النبى التكنولوجى الجديد, وإلا أصبح هو المسيخ الدجال.
الدور الدينى الجديد للفن:
وإذ يتخطى الإنسان حدود ذاته وفئته ووطنه بفضل تزايد وعيه وثورة التوصيل, فإنه لابد وأن ينطلق إلى ما بعد ذلك إذ يصحو فيه شوفه إلى التواصل بالكون الأعظم فى أشكال التناغم فى الطبيعة الشاملة والسعى إلى وجه الله سبحانه, وحين كان الدين يقوم بهذا الدور بكفاءة ممتازة كان يستعين, بالفن فى كثير من الأحيان, أما وقد ضعفت فاعلية الدين للقيام بهذا الدور ربما لما لحق أفكاره الأصيلة من تشويه ولحق طقوسه من تستطيح, فإن وظيفة الفن قد تضاعفت وأصبح لزاما عليه أن يقوم بهذا الدور الإيمانى الأعمق باسلوب عصرى قادر على تحمل هذه المسئولية الأضخم ليس كبديل عن وظيفة الدين, فمازال أعجز. من ذلك لامحالة, ولكن تخاطبا مع الحاجة الإيمانية باسلوب معاصر يساهم فى حفظ الناس عامة والشباب خاصة من الاندفاعت التشنجية الخطرة رغم صدق مبرراتها وبعد.
فهذه بعض الاحتياجات التى تواجه الإنسان المعاصر والتى ستتضاعف فى المستقبل وهذه الاحتياجات تفتح افواهها فى انتظار الغذاء الفنى الشهى الذى يناسبها وهى التى تقتل كل ماعدا ذلك وتبرر موت الفن التشنجى, والانشقاقى والمدعى الالتزام, والمدغدغ للحواس..الخ، إن سرعة نموها المذهلة هى التى قد تقصر هذه الوقفة المرحلية التى تبدو كأنها العقم الدائم, وفى تصورى – مر موقعى المتواضع – إن هذه الفترة ستطول لدرجة قد تزعج المتعجلين وتبرر توقفهم.
إذن, فندائى من واقع رحلتى السندبادية الخاصة هو أن يكون استقبالنا لهذا التوقف, استقبالا إيجابيا لا استقبالا يائسا, وأن نصر على رفض التشنج والتعجل معا, وإن نتحمل تقل النبضات فى جوف وجودنا قبل ظهورها المؤجل, وأن نكون على يقين حتمى بضرورة خروج المناسب فى حينه مادمنا قد هيأنا له فرص نموه واختماره فى مناخ صالح, والمناخ اللازم فى تقديرى هو مزيد من الحرية المسئولة ومزيد من تحمل الغموض دون الإسراع بالميل السهل إلى حل جاهز.
إن عظمة الإنسان كانت تكمن دائما فى قدرته الهائلة على تخطى معوقات نموه وتحد مهددات انقراضه.
والإبداع الذى يستطيع أن يلبى هذه الاحتياجات هو الإبداع الذى سيظهر وهو الابداع الذى سيبقى.