الاهرام: 27-1-2003
الإيمان يشحذ الأداة البشرية: للمعرفة والإبداع
يمثل الإيمان والتدين محورا أساسيا فى علاقة المصرى بنفسه، وعلاقته بالآخر، وعلاقته بالزمن، وعلاقته بالكون. لعل السبق الحضارى الذى عاشه المصرى القديم كان من بين معالمه الأساسية أنه التقط عمق المعنى الكامن فى الإيمان، ودوره فى فتح النهايات وتحريك الوعى إلى المابعد (الغيب). من هذا المنطلق بدأت المعارف تتشكل ونشأت العلوم والفلسفات وتنوعت الملل واختلفت الطرق، لكن ظل الإيمان هو أصل المعارف فى عمق الوجود البشرى.
إذا نحينا جانبا المنكرين والمهمشين لدور الدين فسوف نفاجآ أن من أزاح هذا الأصل عن دوره هما فريقان يعتبران من حماته والمدافعين عنه بحسن نية أو سوء حسابات. الفريق الأول: بعض رجال الدين المحترفين الذين آحلوا تفسيراتهم وتأويلاتهم محل الأصل حتى كدنا ننسى فاعلية النص وقوة إلهاماته المتجددة أبدا. أما الفريق الثانى فهم بعض العلماء الطيبين الذين راحوا يبررون لنا أهمية الإيمان، بل وصحة الدين ومصداقيته بمدى اتفاق نصوصه مع إنجازات العلم الحديث الذى بدا لهم مقدسا.
أكاد أتصور أنه لم يشتغل شخص مؤمن بالعلم انشغالا أمينا وعميقا وشخصيا، إلا ووجد نفسه مواجها بسؤال يلزمه بالنظر فى علاقة ما حصله ويحصله من علم، بما نشأ فيه ومارسه ويمارسه من دين. إن هذا الموقف هو الذى أفرز لنا تلك المحاولات المختلفة للتوفيق، أو فض الاشتباك، أو التلفيق بين الدين والعلم، ومن ذلك:
(1)إن الدين ‘يدعو’ إلى العلم والتعلم، وما فيهما من خير. فليكن الدين هو الدافع، وليكن العلم هو الوسيلة، وفى كل خير.
(2)إن الدين أمر شخصى بين الفرد وربه، وبالتالى فالدين لله، وكل ما عدا ذلك (الوطن، والعلم، والمعلومات..إلخ) هو للجميع، وكأن الإنسان يمكن أن يفصل بين ما هو خاص وما هو عام بهذه الصورة التى شاعت حتى قدست.
(3) إن ما هو عقلى (مثل العلم) غير ما هو قلبى (مثل الدين) والإنسان فى حاجة إلى عقله وقلبه معا، فلتكن قسمة لإرضاء الجانبين، ودمتم.
(4) إن الدين مريح، والعلم مفيد، والإنسان لا بد أن يستفيد، ويرتاح معا، خاصة فى نهاية الأسبوع، حيث يمارس بعض المتدينين (العلماء) عباداتهم بتركيز خاص أسبوعيا (فقط).
(5) إن الدين يمثل ‘استراتيجية’ الحياة، وهوالتخطيط العام للوجود البشرى، أما العلم (ومثله: التكنولوجيا مثلا) فهو ‘التكتيك’ العملى المحدد النافع فى التنفيذ اليومى للتفاصيل.
(6) إن الدين هو ما يخص الآخرة، وإن ممارسة الدنيا (بما فيها العلم) ينبغى أن تظل مستقلة، ولا علاقة (معرفية على الأقل) بينهما.
(7) إن الدين كابح أخلاقى يمثل ضرورة لضبط شطحات تطبيق معطيات العلم الناشز.
(8) إن ما جاء فى الدين لا يتعارض مع ما يقوله العلم، وهات يا تفسير أغلبه تعسف ظاهر، يفسد كلا من الدين والعلم جميعا.
وبعد
إنه برغم ما يبدو من وجاهة أغلب ما جاء فى هذه المحاولات ومثلها، فإنها تظل محاولات توفيقية لفض الاشتباك، وأحيانا للتلفيق والتسكين. إن الأمر يحتاج إلى عمق آخر نستلهمه من النظر فى تاريخ إيجابيات الأديان التى صنعت الحضارات، ونحن نتفهم نبض الإبداع الذى يربط بين المبدع وربه، حتى لو تصور هذا المبدع أنه ليس كذلك.
إن ربط التاريخ الإيجابى لإسهامات الأديان فى الحضارة والإبداع، لا بد وأن يهدينا إلى معرفة كيف أن الإيمان هو جزء أصيل فى الطبيعة البشرية، وأن الأديان ظلت تجدده بفضل الله ورحمته حتى اختتمت بمحمد صلوات الله وسلامه عليه، ليواصل الإنسان سعيه بعد ذلك لتعميق فطرته بكامل مسئوليته بإعادة استلهام نصوصه، وشحذ حواسه بعباداته، مضيفا بإبداعاته المتجددة إلى هذا العمق الذى حفظ عليه إنسانيته، ومكنه من إنجاز حضاراته المتتالية.
ليكن العلم وسيلة رائعة، ولتكن التكنولوجيا تسهيلا ممتازا، ولتكن المعلومات ثروة جديدة، لكن يظل الوجود البشرى المبدع هو اللغة الجميلة التى تصل بين الكون الأصغر (الإنسان) وبين كل الأكوان إلى وجه الله سبحانه، تخليقا وإيمانا.