نشرت فى جريدة الأخبار
18/7/1977
الإنفتاح الفكرى هو الحل
بشع .. بشع.. بشع .. هذا الذى حدث.. شيخ جليل، متواضع، دمث، يرفل فى جلبابه الأبيض .. انتزعوه من بيننا ليتركنا وصورته ماثلة أمام أعيننا- بكل الجزع- وهو مضرج فى دمائه بلا معنى، ولامبرر، ولا قضية، ولا هدف، ولا منطق.
بشع .. بكل لغة.. وفى كل دين وعلى كل ملة..
أهو الجنون الغبى المتهالك؟ بل هو أقسى من ذلك أهو الضياع المعزول اليائس المتعصب؟ بل هو أقسى من ذلك ..
أن ما حدث هو أمر ذو دلالة.. غاص فى قلب كل مصرى حضارى مـؤمن.. مثل الخنجر المسموم. ولا يكفى فى تقديرى- أن ننزعه بقوة ونلقى به بعيدا عن تاريخنا السمح الكريم.. بعيدا بعيدا عن وجه مصر الطيب الحضارى الأصيل.. بعيدا بعيدا عن جوهر ديننا الفطرى البسيط..
ولا يكفى أن يقوم رجال الأمن الأفاضل بهذا الواجب المكثف لإعادة الأمن والطمأنينة إلى قلوب الشيوخ والنساء والأطفال والرجال فى كل بيت وشارع وأنما هناك بعد كل هذا دمعة صيحة منذرة لابد أن تصل إلى كل مواطن فى كل موقع.. ولا سيما الى أهل العلم والدين والإعلام والتربية.
التحدى المعاصر:
أن القضية المأساوية الحالية فى أيدى رجال أمناء عليها، وليس هناك ما يضاف إلى ما يجرى .. إلا مزيد من العرفان لكل من يصر على الحرية.. ومزيد من التقدير لمن يحقق الأمن .. ومزيد من الإصرار على تحمل مضاعفات فترة الإنتقال الخطرة التى نمر بها هذه الأيام دون تراجع أبدا.
إذن..فالتحدى الذى يصرخ فى وجوهنا جميعا، وفى وجه أهل العلم والتربية والدين خاصة هو البحث عن معنى هذا التطرف الأعمى.. سواء التطرف الدينى المتعصب المنوم غائب الوعى الذى يكاد يحتكر غفران الله ورحمته لفكره وحده، أو التطرف المادى الحالم الذى يتصور أنه قادر على كل شئ بمجرد حفظه لنظريات يرددها دون حساب الواقع اليومى والإمكانيات المتاحة والرؤية الحضارية.. ودون حساب كذلك للتصور الإنسانى المرحلى .
وفى تصورى أن وراء هذا وذاك عدة أسباب يمكن ذكر أهمها فى هذا المقام :
كن أخى .. وإلا!.
أولا: الخوف من التفكير والعجز عنه: والرأى عندى أن الشباب الذى حرم حتى التفكير لفترة ما حين، أتيحت له الفرصة ليعود إلى نشاطه الفكرى الخاص، وجد جهازه العقلى التلقائى معطلا من كثرة التلقين، ووجد أن إطلاق العنان لفكره يواجهه بأسئلة مزعجة، ويفرض عليه اختيارات لم يتعودها، وبالتالى فقد خاف أن يفكر لدرجة العجز التام .
وكان لا بد له من الإسراع فى البحث عن حل له جاهز فى شكل أفكار ثابته مفصلة .. وإذا به يجد هذا الحل فى التعصب المطلق لفكر خاص مثالى فى أول الأمر (ثم مدمر فى آخره) .. وبالتالى وفر على نفسه عبء التفكير الخاص المغامر ولكنه فى نفس اللحظة حرم نفسه من شرف التفكير الحضارى الخلاق ثم يتطور الأمر بالشاب المتعصب حين يجد الإجابات جاهزه لكل التساؤلات المطروحة. وبالتالى فهو يستبعد أى احتمال آخر، بل أنه يستنكر أى احتمال آخر( كن أخى .. وإلا قتلتك ) ذلك لأن الاحتمال الآخر يهز كيانه ويزعزع استقراره من جذوره.
الإحتكار.. هو العمى
ثانيا: الخلط بين الهدف والوسيلة: قد نغفر للمتعصب أن يرى هدفا مثاليا ايمانيا واحدا محددا لحياته.. مثل أن الخلود أمل البشر.. أو أن الحياة إنتصار دائم على الموت.. إلى آخر هذه القيم الرائعة الصادقة، إلا أن الشباب فى تفكيره المتعجل الطفلى المثالى يخشى أنه حتى لو صدق الهدف وتحددت معالمه تماما.. فإن السبل إليه متعددة حتى لتكاد تبدو أحيانا لقصير النظر متناقضة، ولكنها فى حقيقة الأمر توصل جميعها أو أغلبها إلى نفس الهدف الكريم، فهنا لابد من تأكيد حقيقة بديهية وهى أن الهدف الواحد لا يعنى الطريق الواحد، ولكن الشباب يخلط بين هذا وذاك.. فـإذا اعتبرنا أن التعصب للهدف الكريم ليس عيبا فى ذاته فإن احتكار الطريق إليه هو القصور والعمى والضلال.
وعلى أى شاب ممن يتصور الطريق الواحد أن يتواضع قليلا ويجلس بجوار مذياعه الترانزستور(فى حجم كف اليد) ويعبث بأزراره ليرى نفسه قطره وسط محيط زاخر من البشر.. ولا يمكن بحال أن يكون هو وحده الذى على صواب وكل أهل الأرض فى ضلال مبين.
لم يدركوا.. المعنى.
إن تعدد وسائل الأتصال العالمى كانت خليقة أن توسع الآفاق لا أن تضيق نطاق الفكر فى هذا الحيز المظلم الخطير.
أن الإنفتاح الفكرى هو ألزم ما يكون لمرحلتنا، بل ربما هو ألزم من الأنفتاح الإقتصادى الذى لا يعدو أن يكون وسيلة للبعث الحضارى لأنه ليس غلية فى ذاته، وأحسب أن رجال التربية والدين لم يدركوا حقيقة المغزى من وراء دعوة الرئيس لرجال الدين الإسلامى والمسيحى معا.. ليؤكد طبيعة الإنسان المصرى المتفتحة المتسامحة ليس فقط بين الطوائف المختلقة ولكن أيضا بين الأديان المختلفة. كما أحسب أيضا أنهم لم يدركوا معنى اصرارالرئيس على ذكر إعجابه بكمال أتاتورك فى شبابه وما يعنى ذلك من إصراره على اللحاق بمعطيات العصر والقفز الواعى فوق هوة التخلف مع الاستفادة من جوهرإيماننا وأصالة تارنخنا.
وإنى أعتقد أن طريقة طرح أسس العقيدة للأطفال والشباب مازالت طريقة قديمة جامدة .. حيث تصور العقيدة بشكل نظرى مطلق . وتقدم أفكارها من جانب واحد وتكاد تؤكد أن طائفة واحدة هى التى على حق مطلق.. وأعتقد أن هذه هى البذرة التى سرعان ما سينمو منه التعصب ثم العمى ثم احتكار الحق ثم الدمار.
وقد سبق ان أثرت هذه النقطة فى لجنة ثقافة الطفل المنبثقة من مؤتمر الإعلام فى مارس الماضى وأوصت- فى مذكرة مكتوبة بتقديم القيم الإنسانية الدينية للأطفال أساسا ثم تدعيمها بالنص فيما بعد بمعنى تقديم قيم مثل (الصدق)، و (الأمانة)، و(العدل) ثم يأتى النص الدينى (لكل طفل حسب عقيدة أهله) ليؤكد ضرورة هذه القيم ونفعها للإنسان فى الدنيا والأخرة.. فنبقى فى الثدف ونختلف فى الوسيلة ونؤكد مفهوم التسامح منذ البداية ونفتح باب الاختلاف على مصراعيه .. لينطلق الإنسان فيما بعد فى حمل أمانة التفكير ومسئوليتها.
صورة فنية.. رفيعة
ثالثا : العجز عن مواجهة التناقض الواقعى.
إن الواقع الإنسانى واقع متناقض بطبيعته، والشر والخير يسيران جنبا إلى جنب، والكلام سهل، ولكن الفعل صعب، والمطلق المثالى جميل ولكن المسيرة اليومية شائكة وثقيلة ..
والشباب فى حماس مثاليته لايقبل هذا التناقض المر، ويصر أصرارا عنيدا على أن يكون القول هو العمل ذاته، وأن يكون العمل هو مصداق الحس بكل تفاصيله، وهو فى ذلك يعلن السعى إلى تكامل الإنسان ..وهذه برمتها صورة فنية بديعة تفتح آفاق الأمل لتصل بالإنسان إلى الرقى الكريم..إلا إنها صورة فنية قريبة من صورة الجنة التى نسعى جميعا إليها..
على أن السعى المطلق لاينبغى أن يعنى تحقيقه فورا فى اللحظه الراهنه.. ولكن الشباب يرفض هذا التحذير ويكسر هذا القيد، ويصر على التنفيذ الفورى لكل ما يراه صحيحا، ثم هو يرفض كل من يعجز عن ذلك. وينسى أنه هو ذاته لا يستطيع مواصلة هذا الطريق لتحقيق المطلق طول الوقت بل أن إصراره على هذ المطلق سرعان ما سيبعده عن الواقع ويتركه نهبا للعزله المخربة والخيال المضلل.
إذن فمشكلة أهل العلم والتربية والدين ليست فقط فى التلويح بالمطلق.. ولكنها أساسا فى توضيح هذا القرق الأساسى:
بين الواقع المتناقض. والمطلق النهائى.
بين الكلمة السهلة.. والفعل المسئول.
بين العجز البشرى .. والأمل فى التكامل الإلهى.
ولكن الذى يحدث فى أغلب الأحيان هو التلويح بالمطلق دون النظر إلى طبيعة انجازات العصر المتباينة
ما ينفع الناس
رابعا-الإحتياج إلى اليقين:
فى كل إنسان حاجة عميقة وملحة للوصول إلى يقين داخلى ثابت ومريح. على أن هناك سبيلين لتحقيق مثل هذا اليقين:
أولهما: هو السبيل الحصارى طويل المدى الذى نؤكد أهمية العمل اليومى ذى الطابع المتقن المنتشر(ما ينفع الناس) المستمر(ما يمكث فى الأرض) وهو سبيل واقعى ومثابر ولا يقدر عليه إلا الإنسان الناضج الصبور العنيد ولا أحسب إنسانا يتمتع بهذه الصفات بقدر ما يتمتع بها الإنسان المصرى بتاريخه الحضارى العظيم.
أما ثانيهما فهو سبيل يوصل إلى يقين ظاهرى فهو سبيل أشبه بالتنويم المغناطيسى، يصل إليه صاحبه من خلال الانشقاق وإلغاء جزء من ذاته ولجأ إليه الإنسان الهارب من ذاته المتعجل طالب الراحة وهو بذلك يتجنب مغامرة التقشف الحضارى … والتعرى الفكرى لتجديد ذاته، ويلجأ إلى فكر جاهز جامد، أو إلى فكر مادى متشنج!.
ويبدو هذا الشخص وذاك على درجة هائلة من اليقين، ولكنه يقين ظاهرى، لأن كل منهما أنما يمثل صورة من البله المستسلم.. لأنه هارب من مواجهة الصبر الطويل والالتزام بالعمل الحضارى المثابر لتحقيق أمل الإنسان فى الرقى المستمر.
وبديهى أن الشباب الذى لم يتعود التفكير لفترة طويلة، ولم يتعود الصبر على الغموض، ولم يتعود تحمل النقائص، أنما يلجأ إلى الطريق الأسهل فى غمرة حاجته إلى اليقين المطمئن.. فإذا به يحصل على يقين زائف.. سرعان ما ينهار أو يتطور إلى مناطق الخطر حين يفرض عليه تنفيذ ما يوحيه إليه بالقهر والإرغام.. وحتى لو لم يلجأ إلى العنف فهو يقين عاجز من أن يبنى أمة أو ينصر دينا أو يرقى بانسان أو يرسى حضارة.
إلتزام .. مصر
الحل العلمى هو: مصر: الحضارة: الخلود
إن الناظر فى حاضر العالم اليوم ليستطيع أن يدرك من أول وهلة أن لنا- مصر- دورا ينتظرنا إذا أحسنا إنتهز الفرصة، فالعالم تقترب نظمه بعضها من بعض بمزاياها وعيوبها شرقا وغربا، حتى ليكاد يصبح الحديث المتعصب من النظام الأفضل أقرب إلى الحديث القديم الممل.. وقد ساعدت وسائل الإتصال العالمية بين البشر فى كل مكان على التعاطف فيما بينهم كما هيأت الفرصة للمشاركة الفعلية لمواجهة مشاكل الإنسان المعاصر مثل: تزايد قوة الدولة وعنفوان إمكانياتها الإعلامية فى مواجهة تطور الفرد بفكره الخلاق ومثل مشكلة طغيان اللة على الوعى البشرى وأجهاضها للخبرات الإنسانية المبدعة إلى آخر هذه القضايا المتحدية.
ومصر العظيمة.. من خلال تركيبها الحضارى المميز، ودأب إنسانها وصبره وإستيعابه الصامت العميق لخبرات التطور من حوله.. مصر بكل ذلك تستطيع أن تسهم بالعلم والفن والدين فى إثراء الإنسانية فى كل مكان.
ويقينى أن هذه القضية هى قضيتنا الإنسانية : التزام مصر الحضارى .نحو نفسها ونحو الإنسان وإستقبالى – كمواطن عادى – لفكر الرئيس – كممثل لمرحلة تطورنا الحالية ومستوعب لوجدان الشعب المصرى فى هذه المرحلة- هو أنه يعنى هذا الإتجاه فى كل مايقول ويفعل.. مهما اختلفت التفاصيل. وأنى لأكاد أجزم بأن شبابنا حين يدرك قيمته من خلال فعله، وحين يستطيع أن يفخر بتاريخه وعمله اليومى معا، وحين يستطيع أن يفخر بتاريخه وعمله ودوره بين شعوب العالم سوف يتمكن من أن يفرغ شحناته فى عمل حضارى خليق بتاريخه.. وسوف يحقق خلوده مثل أجداده.. ويرجع إلى ربه راضيا مرضيا..
أما الوسائل لذلك فهى بصفة عامة/ العلم والفن والدين معا، بما تعنيه أصول هذه الأعمدة الثلاثة فى تحقيق الخلود البشرى كل بطريقته. وأحب أن أؤكد أن الخلود بالنسبة للإنسان المصرى وربما تصورا غيبيا ولا هو إغتراب أنسحابى ولا مهرب خيالى، بل هو فى يقينى أساس لوجوده وحقيقة يومية يثبتها تاريخه ويؤكرها طابعه المتدين العميق..
ومن خلال هذين المفهومين وتأكيدهما: مصر الحضارة.. والخلود العمل..يمكن أن ينبض وجدان الشباب المصرى بالمعنى فلا يضيع ولا يعمى إذ يتحمل مسئولية إنسانية ويحمل أمانة التفكير ويواجه ضرورة الإختلاف ويستمر فى مسيرة العمل الحضارى.
ولكن كيف نعلم الشباب هذا الفكر الأصيل! وكيف نترجم هذا الفكر إلى فعل يومى!
وكيف نستثمر هدا الفعل فى إثراء وجود الشاب اليومى وملء وجدانه! إنى أعتقد أن أجهزة الدولة التنفيذية المختصة لا تستطيع وحدها – رغم جهودها الفائقة -أن تفى بهذا الغرض، ومن رأيى أن الأجهزة الشعبية (الأحزاب خاصة. على إختلافها) والتربوية، لها دور أساسى فى توصيل هذا المعنى وتأكيده.. وأنى أكاد أرى أن هذا الأمر أصبح رورة ملحة تكاد تصل إلى قوة فرض العين إذا قام به البعض لم يسقط من الباقى.. أما كيف السبيل إلى ذلك! فلها حديث آخر.