نشرت فى الدستور
15/10/1997
الإنسان والتطور
من أهم قواعد التعتعة أن تتحمل الرأى ونقيضه دون تسوية هامدة، وإليكم مثال شخصى: قال لى إبن أختى (أستاذ مساعد قدر الدنيا): لقد لاحظت مؤخرا أنك تكتب عن نفسك هذه الأيام أكثر مما تكتب فى مواضيع عامة، ورفضت انتقاده بشدة، ثم راجعت الأمر فإذا بهذا العمود- تعتعة- هو السبب، فقد وجدت أن المدخل إلى الناس يكون أسهل وأقوى من خلال التعرى الشخصى والمعايشة الحقيقية، وخاصة إذا التزمت بحجم الكتابة فى هذا الحيز، وذلك شريطة أن يصب هذا وذاك فى الهم العام، وأن يساهم فى تحريكنا “معا”، كما تبينت أننى لم أستطع أبدا أن أفصل بين الهم العام والهم الخاص- مما سود عيشتى وعيشة من حولى معظم الوقت- وحين كتبت عن سيرينتسكا فى البوسنة أو عن مذابح الجزائر، كان عندى - شخصيا- محزنة أكبر بكثير من موت عزيز أتلقى عزاءه فى ميدان التحرير، وقد اتهمت نفسى بالهرب من مواجهة المشاكل الشخصية الرائعة إلى المشاكل العامة المائعة، لكنى راجعت الاتهامين: اتهام إبن أختى لى بفرط الذاتية، واتهامى لنفسى بفرط الهرب فى ادعاء الموضوعية. فتبينت احتمال صحة الفرضين معا، وقلت أعرض مثالا جديدا أختبر به هذا التناقض هكذا:
عادت للصدور هذا الأسبوع مجلة إسمها :”الإنسان والتطور” مازلت متورطا شخصيا فى رئاسة تحريرها، عادت وقد ضخ فيها دم جديد، لعل وعسى، وإثبات هذا الخبر هنا يبدو ذاتيا حتما، بل يبدو إعلانا خفيا، ولكن لنقرأ معا بعض ما جاء فيها فى وصف المناخ الذى عادت للظهور فيه، جاء فى افتتاحيتها : “…. (أ) الحركة الطلابية (السبعينيون!!) تجمعوا خلف وتحت نعش أروى صالح يتساءلون: ياه! أهكذا؟ هل لم يعد لنا دور؟ (ب) والناصريون تجمعوا فى صحيفة وحزب وحماسة تحافظ على أمل لم يتحقق أبدا، ويبدو أنهم (وناصر)هم المسئولون عن عدم تحقيقه “هكذا” (جـ) والإخوان المسلمون يرفعون راية الديمقراطية (دون إشارة إلى عمرها الافتراضي) (ء) والشيوعيون يحاولون تغيير “محل السكن” المثبت فى البطاقات القديمة من الاتحاد السوفيتى إلى الصين(هـ) والمثقفون الخصوصيون تزداد شللهم عددا، وتقل ترابطا، فينتشر فى القاهرة -على ما سمعت-أكثر من مائتى صالون ثقافى (و) والدولة-ممثلة فى إشارات مرور القاهرة-“ولا هى هنا”، ثم تمضى افتتاحية “الإنسان والتطور” لتحدد محورين حقيقين للصراع الجارى كالتالى:
المحورالأول :بين حملة السلاح على الجانبين: البوليس والجيش، والبلطجة الرسمية على ناحية، ضد المتدينين المغلقين الأصوليين (والبلطجة الأهلية) فى الجانب الآخر (وبالعكس).
والمحورالثانى: بين “الأثرياء الجدد”، و”العدوانيين السلبيين”: الممتنعين عن الانتخابات، وعن العمل المنتج، وعن الالتزام بالقانون، وعن الأمل، وهم بكل قوة هذا العصيان (العدوان) السلبى، يتصورون أنهم ينتقمون من الدولة والأثرياء الذين نسوهم وأهانوهم”هكذا”.
أما محتوى المجلة فيشمل تعرية التناقض بين الدولة الدينية والدولة الإسلامية، كما يقرأ فى “النفرى قراءة عصرية، ويقسم تشكيلات نقدية على أصداء نجيب محفوظ، بالإضافة إلى قراءة معنى الجنون من كلام المرضى النفسيين الدال، ثم كلام علمى نقدى عن الإدمان والبصيرة والحب وما شابه. فأى شىء فى هذا- يا ابن أختى، ويا قارئى العزيز- هو”موضوعى”، وأى شىء “ذاتى”؟