الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الإشراف على العلاج النفسى (12): آلام ومضاعفات التعرف على الآخر

الإشراف على العلاج النفسى (12): آلام ومضاعفات التعرف على الآخر

“يوميا” الإنسان والتطور

3 – 8 – 2008

العدد: 338

التدريب عن بعد:

 الإشراف على العلاج النفسى (12)

 (سوف نكرر فى كل مرة:  أن  اسم المريض والمعالج وأية بيانات قد تدل على المريض هى أسماء ومعلومات بديلة، لكنها لا تغير المحتوى العلمى التدريبى، وكذلك فإننا لا نرد أو نحاور أو نشرف إلا على الجزئية المعروضة فى تساؤل المتدرب، وأية معلومات أخرى تبدو ناقصة لا تقع مناقشتها فى اختصاص هذا الباب).

آلام ومضاعفات التعرف على الآخر

(من أول وجديد) (1)

د.سعيد على: انا عايز آخد رأى حضرتك فى عيان كنت اتكملت عليه هنا قبل كده، هو مهنى ناجح، نسبيا، وكان متشخص فصامى وقعد متوقف شوية عن ممارسة العمل، ودخل المستشفى واتعمل شغل معاه واتحسن وخرج.

 الراجل مش من القاهرة، (بلد قريبة نسبيا فى وجه بحرى) ومتجوز ومخلف ولدين، كنت انا طرحت مشكلته قبل كده، هوّا معايا بقاله سنيتن ونص، وهو بعد فترة من جلسات العلاج،  بدأ يعلن من خلال زوجته تقريبا، يعنى، ان هو عنده ميول جنسية مثلية، وكان بيطلب من زوجته أنها تعمله حاجات، ومش عارف إيه، عشان يستثار، وكان السؤال هو: ليه بعد فترة طويلة من الجواز بدأت المشكلة دى تنطرح وزى ما يكون كده اتفقنا ان دى الحتة اللى فاضلة

 هو كان ماشى كويس قوى فى بقية الحاجات، علاقاته بقت احسن، ويمكن هى دى الحته اللى كانت فاضله اللى كانوا مكتمّين عليها، وبدأت مراته تطرحها، ودلوقتى نعمل ايه فى الحكاية دى؟ حضرتك قولتلى المرة اللى فاتت اننا نحاول ما نزقش فى السكة دى قوى وطالما هو ماشى فى الشغل، وهى مش مزرجنة قوى وحاجات زى كده، يبقى نهدّى اللعب،

د. يحيى: يا عم سعيد خلى بالك إنه كان فصامى، وده مش شىء شوية، مادام بيروح شغله وبيجيلك وبياخد الأدوية، هوّا انت عايز تخش قوى كده ليه؟.

د.سعيد على: حاسس إن الاعراض اللى كانت عنده، يعنى الضلالات مثلا زى ما تكون بتقرب مع ظهور الحاجات دى.

د. يحيى: حاجات إيه؟

د.سعيد على: اللى أنا قلت عليها؟

د. يحيى: حدّدْ لو سمحت؟

د.سعيد على: هوّه لسه ناجح وماشى الحال، الجلسات تباعدت لحد ما توقفت تقريبا لكنه جه من فتره كده، ورجع كلمنى فى التليفون وقال انا محتاج أجى عشان حاسس ان فيه حزن بيزحف، وبيزيد.

د.يحيى: هو عنده كام سنة؟

د.سعيد على: عمره 43 سنه، لقيته بيلح ان هو عايز يجى وكده فقعدنا 4 مرات،  وعدينا خوفه من النكسة بإن وإيه يعنى، ما احنا مع بعض، وبطل ثانى وبعدين من حوالى 4 اسابيع جه وقالى انا عايز اقول حاجه وبتاع، قولتله ايه؟ قالى انا اتغيرت مع مراتى، زى ما يكون حصل كده لاول مره فى ممارسته مع زوجته أنها بقت تقريبا كويسة، أو مختلفة والسلام، زى ما يكون كده وصلته حاجة جديدة، وبرضه زى ما يكون الحاجة دى بالنسبة لزوجته وصلتها، بس للأسف مع كده بدأت تظهر عنده ضلالات على زوجته، يعنى زى ما يكون حاجه كده دخلت جديدة، وقلبت الموازين، إيجابى وسلبى.

د.يحيى: يعنى إيه؟

د.سعيد على: ساعات يشك انها هى كده مخابرات، وبدأ يعمل عليها حكايات إن الأمور اتغيرت، عشان تعرف حاجات عنه، وبعدين بيرجع فى كلامه.

د.يحيى: طيب وشغله

د.سعيد على: لسه ماشى ميه ميه ..

د.يحيى: السؤال بقى؟

د.سعيد على: هل المفروض يعنى ان احنا نكمل ونزود الجرعة ونشتغل فى الحته دى ولا برضه نتجنبها

د.يحيى: أنهى حته؟

د.سعيد على: حتة ان هو شايف ان دى حاجه مراته عملتها عشان تورطه مع مخابرات وحاجات زى كده، أنا مش شايف ان ده تطور جيد قوى، صحيح انا شايف ان دى حاجة يعنى فيها نقله وفيها حركة، لكن مش عارف اشتغل معاه فى الحته دى، أصله بقى متحمس وخايف، ازاى يعنى بعد ده كله أفضل اخلى الحاجات دى حاجة ثانوية، واشتغل فى حاجات تانية؟ هل أخلينى زى ما انا بعيد واخلى الموضوع ده ييجى بشكل عفوى منه، ولا افتحه أنا وأنكم فى إن العلاقة أزاى اتغيرت، وإيه علاقة التغير ده بالنكسة اللى شعر بيها قبل ما تيجى؟

د.يحيى: شوف يا سعيد:

 أولا: دى حاله تدل على تطورك بشكل جيد جدا

ثانياً: الحالة تشخيصها صعب ، فصام، عايز إيه أكثر من كده، وبعدين هوّا مرّ بأزمة جامدة اضطرته يخش مستشفى، ومع ذلك إنت أخدتها بشجاعة ونجحت تعمل علاقه طويلة، وبتقيس بمقاييس جيده جدا حتى لما قلت إنه أصبح متحفز مع انه مش عارف ايه، أنت لاحظت إن ده احسن من الرخامة والاستسلام، يعنى إنه بيتحرك، ودهْ دليل على إن مسارك كصنايعى ماشى

والنقطة الإيجابية برضه انك إتعاملت مع التفاصيل بأولويات عملية، يعنى أنت احترمت الصعوبة، ومادقيتش قوى فى تاريخ أو مشاعر ميوله الخاصة، وخدت بالك من دور زوجته الايجابى لاحظت ده بسرعة، ولاحظت إن يجوز إن ده كويس، وحاجات كده

إنما خلى بالك إن دى مش نهاية المطاف، ولازم نحترم خوفه وحزنه اللى ظهروا دلوقتى، الظاهر إنه أول ما اتحسن، وبقى يحاول يرتبط بآخر حقيقى ولو بدرجة نسبية، اتحركت مخاوفه، وده وارد فى الفصامى اللى بيلم نفسه صح بفضل علاج طويل كده، ومعالج صبور، العيانين دول لو استمروا بيبقوا كويسين جدا ، زى ما يكون المرض حطمّ العلاقات اللى مش هيا، وفى نفس الوقت إداله الشجاعة إنه يكشف عن نوع الجنس اللى هوّا حاسس بيه لكن مش موافق عليه، حاجة كده، والبركة فى صبر مراته وسماحها، وطولة بالك يا أخى، أظن كل ده هوّا اللى شجعه إنه إن بعيد النظر فى الحكاية، فقرب منها بشكل جديد، والظاهر إنه شكل حقيقى ولو بنسبة بسيطة، بس إيه موقف الأدوية معاه لو سمحت.

د.سعيد على: هو بياخد جرعة متوسطة، يعنى بياخد 10 مجم ستيلاسيل وبياخد قرص نيورازين 100مجم وقرص أكينيتون.

د.يحيى: طيب وشغله؟

د.سعيد على: لا لسه تمام زى ما هو

د.يحيى: طيب يا أخى انت عمال تبنى انت وهوّه فى بنى آدم ثانى، خلى بالك مرة ثانية ده كان فصامى وعمال بيلملم نفسه، واحنا دلوقتى فى منطقة إعادة تشغيل العلاقات من أول وجديد، وكإنه بيتحسس طريقه، يعنى بيتعرف يعنى إيه “آخر” من أول وجديد، ويبقى طبيعى إن التركيز هنا فى المرحلة دى يبقى على منطقة العلاقات، ولو إنها عملية صعبة، إنما الدور ماشى

د.سعيد على: طيب والضلالات اللى ظهرت ناحية مراته

د. يحيى: ما هو ده دليل على بداية علاقة جديدة يا أخى، ما تستعجلش، وفى نفس الوقت ما تفوّتلوش لحسنْ الحكاية تكبر، أظن مع ضبط جرعة الدواء، ومع الاستمرار فى العلاقة العلاجية الجيدة دى، لعبة الشك دى حاتهدى شوية شوية

د.سعيد على: بس هو بيقول إنه مع النقلة دى، ابتدا يحس بحزن وقبضة خصوصا الصبح، يعنى حضرتك تنصح ندى مضادات الاكتئاب مع النيورولبتاتneuroleptics

د. يحيى: ليه بس! مستعجل على إيه؟ ما تخليه يعيش الحزن شوية، ده ظهور الحزن فى المرحلة دى يعتبر لوحده دليل على احتمال نقلة جديدة نحو علاقة حلوة وصعبة وجَدّ، إنت مش عارف إنه بعد ما الواحد ما يطلع من الحوصلة بتاعته، ويعرف إن فيه “آخر” فى الدنيا، لازم يبتدى يشك، مش ده الموقف اللى نسميه الموقف البارانوى، وبعد كده يلاقى إن الآخر ده هوه اللى بيعطى لوجوده معنى (يعنى هوّه مصدر الاعتراف ومصدر الحب) وفى نفس الوقت يكتشف إن العلاقة فيها صعوبة لكن ضرورية، مش ده “الموقف الاكتئابى” اللى بنقول عليه.

د.سعيد على: بس لحد امتى هوّا حايستحمل الاكتئاب ده، مش يمكن يفركش تانى أو بنسحب .

د. يحيى: عندك حق، ما هو هنا بقى اللعب بالدواء، مع العلاقة بيك، مع دور زوجته الطيبة مع العمل، ماتنساش إنك بقالك معاه سنتين ونص، وإنه ماتعرضش لنكسه جامدة تدخله المستشفى ثانى، وإنه لسه بيشتغل بنجاح يا أخى انت عايز تنهب

د.سعيد على: شكراً

د. يحيى : انت اللى شكرا

……..

تعقيب ختامى “الآن”:

هذه النقلات الأساسية والمستمرة التى وصفتها أساسا مدرسة العلاقة بالموضوع Object Relation Theory باعتبار أنها تطور علاقة الطفل منذ ولادته بأمه، لها أسماء للأسف تبدو مرضية، وهى ليست كذلك، وسبق أن أشرنا إليها فى نشرات سابقة، حين نقول الموقف الشيزيدى Schizoid لا نعنى الفصام نسبة إلى Schizophrenia، وحين نقول الموقف البارنوى أو الاكتئابى لا نعنى أيا من مرضَىْ البارانويا أو الاكتئاب.

ثم إن كلمة “موقف” Position لها أهمية خاصة لأنها تشير إلى أن الموقف ليس إلا محطة مؤقتة لنوع من العلاقة ينتقل منها الطفل إلى موقع آخر وهكذا.

  • الموقف الشيزيدى هو موقف يبدأ داخل الرحم حيث لا موضوع أصلا ويمتد بعد الولادة لفترة قصيرة جدا.
  • الموقف البارنوى يبدأ حين يتعرف الطفل على الموضوع (أمه) ويعتبر أن أيا منهما هو “ليس أنا” “not me” وبهذا يستقبل “الموضوع” كنوع من التهديد بالخطر، ومن ثم يكون تفاعله هو “الكر والفر” الذى يظهر فى مظاهر الشك والحذر والتوجس وتناوب الإقدام والإجحام، كما قد يظهر فى صورته المرضية فى أمراض الشك، مثلا فى صورة أعراض الإشارة (بيشاوروا علىّ، بيتآمروا علىّ ..إلخ).
  • أما الموقف الاكتئابى فهو الذى يصبح الآخر فيه ليس خطرا على طول الخط، بل يثبت أنه مصدر الحياة أيضا (الاعتراف – القبول – الحب) وفى هذه الحالة يكون الحزن هو إعلان أن الآخر أصبح ضرورة لتخليق الذات واستمرار نموها، لكن هذا لا ينفى أن وجود الآخر ماثلا أمام وعى مستقل هكذا هو تهديد أيضا، ليس تهديدا بالهجوم هذه المرة مثل الموقف البارنوى وإنما تهديد بالترك (يمكن الرجوع تفصيلا إلى كل هذا فى دراسة فى السيكوباثولوجى) النظرية التطورية الإيقاعية بدأت من هنا، لكنها أضافت ما يلى:

 وعذرا للتكرار:

1) إن هذه المواقف تتكرر باستمرار مع تخليق أية علاقة حقيقية، ومع استمرارها.

2) إنها لا ترجع إلى علاقة الأم بابنها فحسب وإنما تمتد جذورها إلى التطور الحيوى: من الوجود أحادى الخلية/ الأميبا مثلا المستغنى عن الآخر، إلى مرحلة الكر والفر فى الغابة، ثم مرحلة الإنسان الواعى بأنه واعٍ فى حاجة لآخر، “ليكون”.

3) إنها بذلك لها جذورها البيولوجية، وليست مجرد ظاهرة نفسية علاقاتية فقط.

4) إن تكرار خطواتها الدائم، يسمح بتصحيحها الدائم.

5) إن الثبات عند أى موقف من هذه المواقف، أو توليفة جامدة منهم، بشكل مستمر ينتج عنه توقف النمو (اضطراب الشخصية).

6) إن تعرية أى موقف منها وتفجره، ثم المضاعفات الناشئة عن ذلك ينشأ منه الموقف المرضى المقابل.

7) إن مسيرة العلاج هى تصحيح إرادى مكثف لأخطاء هذه المسيرة التى ظهرت فى شكل مرض، أو لتحريك التوقف إن استمر فى شكل اضطراب شخصية.

8) إنه أثناء العلاج – كما حدث فى هذه الحالة – يمكن ترجمة ظهور هذه الأعراض أو اختفاء تلك إلى تحريك عملية النمو من جديد.

9) إن البرنامج المسمى “برنامج الدخول أو الخروج” هو يشمل إعادة تنشيط هذه المواقف أثناء النمو تلقائيا، وأثناء العلاج قصدا، ونعنى بهذا البرنامج حركية الانتقال من المواقف ذهابا وإيابا – وحسب النظرية الإيقاعية: فى نبضات حيوية متصلة.

10) إن هذا التطوير الذى طورته النظرية التطورية الإيقاعية يؤكد الجذور البيولوجية للنمو، وفى نفس الوقت يسمح بتعديل المسار بانتظام.

11) أن الأساس البيولوجى لهذه المواقف، مع ملاحظة عمل العقاقير المختلفة على مستويات مختلفة مرتبة هيراركيا فى تركيب الدماغ، يعطى المعالج الطبيب فرصة إعادة تنغيم إيقاع العلاج بشكل أكثر أمانا نسبيا.

12) إن ترجمة ظهور الأعراض – مثلما فعلنا فى هذه الحالة – إلى إحياء حركية النمو لإعادة التنظيم، يحوّل العلاج – بما فى ذلك العلاج الدوائى – من مجرد تسكين لقمع الحركة، ما دامت زادت عن حدهما، إلى محاولة ترويضها لإمكان استعادة لحن النمو الأساسى.

وهذا ما نصحنا به الزميل المستشير

ولنا عودة وعودة

فلا تضجروا من التكرار.

[1] – تحورت بعض البيانات الأساسية بالنسبة لهذه الحالة حتى لا يمكن التعرف على صاحبها، كما أن الحوار لم يكن حرفيا طول الوقت لإمكان الإيجاز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *