نشرت فى الدستور
11/6/1997
الإشارات والتحولات
أنا أمارس طقسا خاصا إسمه العلاج الجمعى، وهو خاص بمعنى أن ما أمارسه فى مصر ليس هو المكتوب فى الكتب أو الشائع عند العامة، أو حتى الخاصة، وهو عبارة عن معايشة آلام مجموعة صغيرة من الناس المختلفين (مرضى ومعالجين) يحاولون أن يعيدوا تنظيم تركيبهم الحيوى من خلال خبرات عميقة طويلة فى مجتمع مؤقت صغير ( 8- 12 شخصا) اسمه المجموعة العلاجية، يفعلون ذلك من خلال الحركة والرؤية، والحوار، والبصيرة، وإعادة النظر. وأسهل تقريب لما يجرى أن نتصور هذه الممارسة وكأنها مسرح صغير، بلا نص مسبق، يحركه مخرج هادف، ليخرج مع الممثلين ليسوا كما دخلوا وفضل هذا العلاج علىّ وعلى مرضاى وعلى بعض زملائى الأصغر هو فضل بلا حدود، حتى أنه بلغ بى الشطح أحيانا أننى تصورت أن الأسوياء من حولى لن يتغيروا إلا إذا مارسوا هذا العلاج الذى يتجاوز طق الحنك، والخطابة، والنصح والإرشاد، والتخميد الكيميائى، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والإيحاء، ودع القلق وابدأ الحياة، ثم تراجعت عن هذه الفكرة خوفا من الاتهام بأننى أعامل الأسوياء كمرضى، لكننى تذكرت، أن فن المسرح هو المعادل الموضوعى لهذا العلاج الجماعى بالنسبة للشخص العادى، ليس بمعنى التطهير الذى يقول به أرسطو، ولكن بمعنى التعتعة وتحريك الوعى لإعادة النظر، وتذكرت الفرافير وماذا فعلت بى، وتذكرت زيارة السيدة العجوز، وغير ذلك، وحين رحت أبحث عن مثل هذا فى مسرحنا الآن، أسفت، وتراجعت عن أملى أن يكون هذا هو علاج الشعب النائم فى العسل أو فى الزفت، (فيما عدا خناقات الخصخصة، وصرخات بعض الصحف).
ثم حضرسعد الله ونوس فى الوعى المصرى بعد أن رحل إلى الوعى المطلق، وقبل أن يستأذن صامدا ترك لنا هذه الإشارات آمــلا فينا – بحق وبغير وجه حق- أن نلتقط الإشارات وأن نكون قادرين على تحولات ما، لكننى لم ألاحظ أننا فعلنا ذلك، أو أننا على استعداد لأى من ذلك، لم ألاحظ هذا لا فى من ناقشتهم حول المسرحية، ولا فى ما قرأت عنها من نقد، وقد أرجعت ذلك جزئيا إلى هذه العادة القبيحة التى مازلنا متمسكين بها وهى اختزال أى عمل حقيقى يمكن أن يحرك الوعى ( يتعتعه) اختزاله إلى أقرب واحد صحيح على أحد الجانبين، وهذا الاختزال والتقريب هو ما يسمى أحيانا التفكير الاستقطابى: الخير مقابل الشر، التقليدية مقابل التمردية، الحرية (المزعومة) مقابل القهر، اليسار مقابل اليمين، التنوير مقابل الأصولية أو حتى عبد الناصر مقابل السادات، هذا التفكير الذى أصبح من السطحية بحيث أتصور أن من يصر على ممارسته لا بد سيخجل حين يتبين موقفه.
ولكن نضال الأشقر وصلتها إشارات ونوس، فأوصلتها إلى فرقتها بلا استثناء، لتقول لنا إن المسألة ليست استقطابا أو تقريبا، ولكنها إشارات تتجمع، دون أن ندرى عادة، فإذا وصلت تراكماتها إلى عتبة مناسبة حدث التغير الكيفى، الحتمى، إلى أعلى أو إلى أسفل، أو إلى ناحية، أو إلى مجهول، وهذه هى الحياة لمن هو حى، أو لمن أراد أن يظل حياً، أو أن يحيا بعد موت.
أما كيف كان ذلك؟ وكيف قالته المسرحية؟ فحجم عامود التعتعتة يضيق على ماينبغى أن يقال.