نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 17-12-2012
السنة السادسة
العدد: 1935
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (138)
الإدراك (99)
علاقة الوجدان بالإدراك بالشعر بالموت (3 من ؟)
(مع إشارات محدودة إلى مداخلة د. إدريس الوزانى)
وهكذا وجدنا أنفسنا فى بؤرة ثقافتنا من خلال الاستهداء بلغتنا مباشرة، والتعلم من خبراتنا “هنا والآن“.
ثقافتنا مختلفة فعلا، ليست أفضل ولا أسوأ، لكنها مختلفة، ونحن نتعرف عليها مما لم يتشوه من تراثنا دون وصاية، نتعرف عليها من لغتنا الأصيلة، من كتبنا المقدسة، من نبض أطفالنا ووعى عجائزنا، نحن لا نستطيع أن نتعرف علينا إلا ونحن على اتصال مباشر بربنا، وأسهل وسيلة للاتصال هى العبادات السهلة المباشرة، وأعمق وسيلة للاتصال هى إطلاق طبيعتنا “ربى كما خلقتنى” إليه دون وصاية سلطات مغتربة، أو قهر جاهز أو تفسيرات مغلقة، لم أكن أقصد وأنا أقرأ مولانا النفرى وأتجرأ وأوجه خطابى إلى ربى أن أبدو متصوفا كما يتصور الناس، وقد نفيت عن نفسى هذه الصفة مرارا، وحين حولت خطابى إلى مولانا النفرى، وجدت المساحة فى حدود قدراتى المتواضعة.
حكاية ملف الإدراك (ومن قبله ملفات “الحرية” و”العدوان” و”الجنس”) لم أخطط لها مسبقا، لكنها استدرجتنى، من خلال العلاج الجمعى غالبا، وأيضا بتأثير مولانا النفرى، استدرجتنى إلى مراجعة ما فرض علينا (وعلى كل الناس خاصة أولاد العم فى الغرب) من منطق أرسطى، وتفكير خطى، وحقوق إنسان مكتوبة تخفى المكتوب تحتها بحبر سرى، أقول استدرجتنا مراجعة كل ذلك وليس رفضه، وإذا بنا ننتقل من “تجاوز الحواس”، إلى الانتباه إلى تواضع آليات التفكير الظاهرة مقارنة ببقية وسائل وقنوات المعرفة والتواصل، وقد شجعنى على ذلك أيضا ممارسة الألعاب النفسية بالذات فى العلاج الجمعى مع البسطاء من عامة ناسى المتعالجين فى قسم الطب النفسى المجانى فى قصر العينى، وأخص بالذكر تلك الألعاب التى أحضرت لنا، وأظهرت لنا ما وراء الفهم، والكلام من غير كلام، وماهية الوعى الجمعى وهو يتخلق منا وبنا فى “هنا والآن” تحت مظلة وعى أكبر فأكبر إلى ما لا تدركه الأبصار، فنشعر بالقوة الضامة المركزية المسئولة فعلاً عن التحام جمعنا، ومن ثم التوجه نحو فك عقبات النمو إلى الكدح نحو استعادة التناغم نحو الشفاء والإبداع، ومن خلال تشكيل هذا الوعى الجمعى وحضور ربنا يباركنا ويجذبنا إلى بعضنا البعض “فنجتمع عليه” و”نفترق عليه”، استطعت أن ألمس رأى العين هذا التأثير الضام المتناغم القوى، دون استعمال أية لغة ترهيب أو ترغيب، أو حتى لغة دينية أصلا (إلا نادرا واضطرارا)، ولم أتوقف عند فحص الوعى طويلا، فهو موضوع أصعب من الإدراك، وقد أعود إليه مضطرا، لكن مداخلة الدكتور السامرائى جذبتنا فجأة إلى منطقة – كما ذكرت سابقا- حساسة تماما، مع أننى سبق أن تناولتها فى نشرات “الإنسان والتطور”، فى أعمالى النقدية باستفاضة، ألا وهى “إشكالة الموت”. (نشرة 23/1/2008 الأحياء الأموات: ذلك الموت الآخر)، (نشرة 21-11-2007 “الموت والشعر”)، (نشرة 7-11-2007 “عن الموت والوجود”)، (نشرة 25-11-2005 كيف ومتى يعرف الطفل ما هو”الموت”؟ ونحن أيضا!!؟)، (نشرة 2/12/2005 مِنَ الموت “الجمود إلى الموت المولود”).
وهنا تذكرت مداخلة من الابن د. إدريس الوزانى وصلتنا عبر الشبكة العربية النفسية “شعن” بعنوان “قضية الموت والحياة”، وقد احتجزتها طوال هذه المدة (تسعة أشهر) أملا فى أن أعقب عليها بجديد، لأننى وجدت أن أغلب ما عندى فى هذه القضية نشرته فى نشرات “الإنسان والتطور” اليومية على مدى ست سنوات، وخفت أن أحيل الابن إدريس إلى عشرات الصفحات فأبدو وكأنى لم أعْنَ بالجديد فيما قال، وطال التأجيل، وزاد الحرج، حتى استدرجنا أ.د.السامرائى إلى “الموت” ربطا بالإدراك، ومازلت لا أعرف كيف ربطهما هكذا، ولا كيف، كما أننى لا أعرف لماذا رحبت أنا بهذا الربط إلى هذه الدرجة.
أبدأ اليوم بملاحظات محدودة متواضعة على أطروحة د. الوزانى يقول:
……
“…. الموت عبارة عن فكرة، تصور، وتصرفات أغلب الناس تدلّ على أن حقيقة الموت غائبة عنهم،”
…….
وهذا بعض ما خطر لى فى نقدى “ملحمة الحرافيش” لشيخى نجيب محفوظ حين وضعت فرضا يقول: إن الوعى بهذه الفكرة بحقها جدير بأن يحيى الحياة، وأن الموت الحقيقى هو فى الثبات ووهم الخلود فى هذه الدنيا، وكتبت أطروحة كاملة لتحقيق هذا الفرض.
(“دورات الحياة وضلال الخلود ملحمة الموت والتخلق “فى الحَرافيش” قراءات فى نجيب محفوظ).
ثم يقول د. الوزانى:
…” فيظلّ الموت فكرة معّلقة فى ضمير الإنسان، يتيه يمنة ويسرة، ويغوص بفكره وبكلّ قدراته العقلية والاستبطانية عله يتوصل لإدراك كنه حقيقة الموت”
…….
إلى أن قال:
……..
“إلى هذا المستوى تبدأ رحلة مختلفة عن النوع الأول من الناس المنشغلين أساسا بنوازعهم وبتحقيق ما أمكن من واقعهم وغرائزهم، هذه المرحلة فلسفية إلى حد ما، فهى مساءلةلكل المعطيات المعرفية المتاحة، وهى فى نفس الوقت بحث عن الذات، عن الحقيقة المطلقة، حقيقة الكون، منشئه ومآله، والتأرجح بين الذهول والحيرة أو الإنكار والجحود…“
لا أظن يا إدريس أنها مرحلة فلسفية، ولا أنها بهذ العموم فقد انتقلت أنا بعد ذلك يا د.إدريس إلى التفرقة العملية بين “الفقد” وبين “الموت”، ثم رحت أدخل إلى هذه الخبرة من مدخل الوعى بالحياة بدلا من أن أدخل الحياة من خلال حفز الوعى بالنهاية، أى أن نملأ الحياة بما تستحق حتى يأتى أجلنا فنجد أن ذلك جزء من الحياة وليس انهاء لها، ثم وتطورت علاقتى الجديدة بالموت من خلال أعمال نقدية أخرى وممارسات إكلينيكية مباشرة مثلما نشرت بعضها فى نشرة أمس.
ثم ينتقل د. إدريس من الموت بمعنى مغادرة الحياة العادية إلى مستوى مرحلة التفكير التى وصفها بأنها ملتبسة إلى حد ما وهو يدرج فيها خبرة مرحلية مرّ بها حجة الإسلام أبى حامد الغزالى الذى آنسنى ما أورده د. إدريس فى قوله عنه:
“…. “فوقع فى إشكالية عظيمة وأبهم عليه الأمر وبدأت مسيرة المساءلة: هل الحواس هى الطريق الأمثل للوصول إلى الحقيقة؟“، ويجيب نفسه وبعد تمحيص لها بالنفي، إذ لوكانت هى السبيل حقا لما أرتنا العين الظلّ جامدا وهو يتحرك، ولما أ رتنا الرمل ماء وهو مجرد سراب…”
وأنا أكتفى من هذا المقتطف بالوقوف عند المساءلة: هل الحواس هى الطريق الأمثل للوصول إلى الحقيقة؟
أليس نفس السؤال هو الذى جعلنا نتجاوز بالإدراك هذا الحاجز، حاجز الحواس؟ ليس لأن ما يصلنا من خلال الحواس قد يكون وهْلا أو خداعا، ولكن لأننا نملك حواسا أعمق وأشمل، وعقولا أخرى أعرق وأدق، ثم إننا نتجاوز أيضا العقل “الفهمى” الظاهر إلى الوجدان الذى اتضح أنه عقل آخر يتجاوز المعروف عن ما يسمى العواطف والانفعال، وعن الهم والتفكير.
ثم يضيف د. إدريس:
“هناك صنف آخر من الناس ينصب على وجدانه كسبيل للوصول إلى الحقيقة ويتعمق فى دراسة عالم الدوافع المختلفة والعواطف والغرائز وما يترتب عنها من حالات التوتر أو الاسترخاء وعلاقة هذه الحالات بالناحية الفكرية العقلانية، ويتوصلون فعلا لفهم بعض هذه العلاقة، كما عبر عن ذلك مثلا إليس ألبرت مؤسس العلاج العقلانى الانفعالي، حيث أوضح بأن كلفكرة أو معتقد وراءهما انفعال، شحنة عاطفية إيجابية أو سلبية.
فأتوقف هنا أيضا لأننى – من واقع لغتى وخبرتى – توقفت عن مساواة الوجدان بالانفعال، وعن اختزاله إلى قوة دافعة أو مصاحبة، فأنا أتعامل معه، جنبا إلى جنب مع الإدراك (من واقع لغتى ودينى أيضا) باعتباره وسيلة معرفية أساسية، بها نتعرف على بعضنا، وعلى الحياة، وعلى ربنا بما لا تستطيعه وسيلة أخرى.
ثم يقول د. إدريس:
“السلوك إذًا يؤثر على الوجدان والعكس صحيح، والسلوك مرتبط بالتفكير وبالمنظومة العقلية، وكل هذه الأدوات:الوجدان والسلوك والعقل أو الفكر، كلها تعتبر أدوات فقط وليست الغاية فى حد ذاتها، لذلك من نشد الحقيقة المطلقة مع اقتصاره على ناحية من هذه النواحى كان كمن يدور فى حلقة مفرغة تحوم حول ذاته وعالمه الضيق، والخروج من هذا التقوقع حولالذات هو بالتحديد السبيل للوصول لهذه الحقيقة، وهو طور ما وراء العقل كما عبر عنه أبو حامد الغزالي، وهو الوحيد الكفيل للتوصل للحياة على بصيرة، ولفهم كل من الموت والحياة علىأنهما حقائق وقضايا تهم الإنسان أولا ككيان مستقل مسؤول، ثم كوحدة متناسقة مع سائر وحدات الكون قاطبة” …
طيب، هنا أوافق مع تحفظى على جمْع هذه الأدوات هكذا: “الوجدان والسلوك والعقل أو الفكر”، ولا أقف هنا طويلا، لكننى أقف أمام تعبير مولانا أبو حامد أن “طور ما وراء العقل” و…. إلخ، لأنه فى تقديرى، واحتراما لما وصلنى من دانيال دينيت (نشرة 2-1-2008 أنواع العقول “وإلغاء عقول الآخرين” الطريق إلى فهم الوعى) فإن ما وراء العقل هو عقل آخر، وثان، وثالث، …..الخ، فالوجدان عقل آخر، والإدراك عقل آخر، وأنا طبعا أعرف أن مولانا الغزالى كان يقصد العقل الظاهر المنطقى لكن أرجو أن تكون معى يا إدريس يا إبنى أنه قد آن الأوان للتوقف لرفض الاحتكار لما هو عقل (ومعالجة المعلومات) لهذا العقل الظاهر المحدود الإمكانيات كما تعلم.
وبعد
نحن فى ورطة يا عم إدريس، ورطة حقيقية أرجو أن تحتملنا ونحن نحاول الإحاطة بها، لا الخروج منها، وإليك هذا التخطيط المبدئى دون أى شرح عليه، آملا أن أغطى من خلال إشاراته بعض ما يوحى به.
ولو كان عندك وقت، أو بتعبير أ.د. السامرائى لو استطعت معنا صبرا، أطمع أن تراجع ما جاء فى النشرات على مهل فى ملف الإدراك، وفى نشرات الإنسان والتطور عن ما جاء عن الموت: (نشرة 23/1/2008 الأحياء الأموات: ذلك الموت الآخر)، (نشرة 21-11-2007 “الموت والشعر”)، (نشرة 7-11-2007 “عن الموت والوجود”)، (نشرة 25-11-2005 كيف ومتى يعرف الطفل ما هو”الموت”؟ ونحن أيضا!!؟)، (نشرة 2/12/2005 مِنَ الموت “الجمود إلى الموت المولود”)، ذلك لأننا على وشك الدخول إلى قضية الموت (كما أسميتها) من مدخل الإدراك ضمن ما سيؤدى إليه هذا المدخل طريقا إلى معرفة الله (وليست معرفة الله ذاتها) مرورا بيقين الغيب، مع ربطه هذا وذاك بكل من الحلم والإبداع (وبالذات إبداع التلقى مع تناول الشعر كمثال).
مع التذكرة (أو الأمل حتى) بأن كل هذا سوف نتعرف به أكثر على ثقافتنا بقدر ما سوف يفيدنا فى مهنتنا.
والله المستعان.