نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 2-12-2012
السنة السادسة
العدد: 1920
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (133)
الإدراك (94)
ماذا آل إليه الإدراك فى الحياة المعاصرة
مقدمة
فجأة، ليس تماما فجأة، وجدنا أنفسنا أمام إشكالة لو اهتممنا بحل شفرتها، ربما تعلمنا ما يفيدنا فى معركتنا – نحن البشر- الجارية حاليا فى مواجهة احتمال الانقراض، فضلا عن مضاعفات مزيد من الاغتراب، هذه الوظيفة (أو البرنامج، أو الآلية) البقائية المسماة الإدراك، اختـُزلت داخل نطاق الحواس الخمس وتم إزاحة كل ما فاض عن هذه الحواس بعيدا عن العلم، لنضعه بجواره، باعتباره، “بجوار علم النفس” (باراسيكولوجى)!! هل يا ترى نستطيع ونحن نبحث عن هويتنا، أن نشارك فى أن تستعيد هذه القدرة مكانتها، ونحن نشارك مع المجتهدين معنا عبر العالم ممن اكتشفوا انحراف مسيرة المعرفة، واشتبهوا فى تلوث أدواتها برغم إحكامها، ثم لعلها هى القدرة التى ربما تميزنا ولو بفضل تخلفنا، وفى نفس الوقت هى التى تحافظ على علاقتنا بالكون، وامتدادنا فيه، إلى الوعى المطلق، نحو وجه الله، مخترقين ستائر الغيب، غيبا بعد غيب، إلى ما وراءَه بلا نهاية، مؤمنين طول الوقت بكل ما نعرفه، وأيضا بما يمكننا أن نعرفه، حالة كوننا نتعرف باستمرار كدحا وجهادا؟
ربما
مرة أخرى نتذكر معا فرض (أو حقيقة) أن الإدراك هو الذى حفظ الأنواع التى استطاعت أن تبقى وتقاوم الانقراض حتى الآن (دون ملل من التكرار: الـواحد فى الألف من كل الأحياء،بما في ذلك الإنسان)، وبالتالى هى دعوة للنظر فى هذا البرنامج البقائى، علما بأننا ما زلنا نحمله غائرا فينا قادرا على الإسهام فى مسيرة المعرفة بالتناوب، أو بالجدل، أو بغير ذلك. هذه القدرة البقائية التى ما زلنا نحملها هى هى بعد أن تطورت جدلا مع ما نشأ بعدها من فهم وتفكير وعقل ولغة، نعم، ما زلنا نحملها مثلما نحمل كل تاريخ الحياة حسب القانون الحيوى Biogenic law = Recapitulation Theory (Heckel)، والفكر التطورى عموما؟
الذى وصلنى وأنا أنظر فى عمق هذا التاريخ الماثل فى واقع الممارسة بجذوره العميقة، هو أن فى البشر نزوع مقابل للامتداد إلى الناحية الأخرى ونحن نحدس، ونضع الفروض المنطقية التى تسمح لنا بتصور امتداد مسيرة التطور انطلاقا من الإدراك/الأصل إلى كل ما يعد به التطور ونحن ننهل من المعرفة فى صورتها الجديدة الأشمل.
هل يا ترى هذا هو الذى دعا الدكتور السامرائى، بحدسه أن يجرجرنا معه وهو يعوم فى موج الإدراك إلى بحر الموت، فمحيط المطلق، شعرا، وخبرة، ورصدا عمليا من واقع الممارسة؟
قبل أن أتمادى فى التأكيد على أن هذا المنهج قد يكون هو القادر أن يميزنا إذا نحن أتقنا حمل مسئوليته، أود أن أؤكد أنه ليس خاصا بثقافتنا دون غيرها، إذ لا بد من الاعتراف بأن بعض النخبة من أصحاب الفضل من السابقين المتقدمين فى الغرب قد أولوه حقه من التقدير والاحترام، فيما يسمى الموقف و”المنهج الفينومينولوجى” تحديدا، وهو ما أشرنا إليه فى أكثر من نشرة فى ملف الإدراك فى الأسابيع والشهور السابقة، كما أن ثقافات وديانات فى الشرق الأقصى، قد أسهمت فى البحث فيه والبحث به بقدر وافر ومفيد، لكننى أعتذر عن العروج إلى أية تفاصيل فى هذا أو ذاك، حتى أحتفظ بالتوجه الأساسى، آملا أن نواصل المشاركة فى تحمل مسئولية النقلة المعرفية والمنهجية التى يمكن أن تنقل الإنسان المعاصر فى كل مكان. إننا بمواصلة التجريب فى طرق البحث، وفى لغتنا – شعر بالمعنى الأشمل -، وحدْس إيماننا، وهدْى أدياننا، وواقع ممارستنا نأمل بعد أن سهلت سبل التواصل إلى هذه الدرجة الرائعة، أن يثرى بعضنا بعضا، فى مواجهة الافتراس الكمى التكاثرى الذى يختزل الإنسان إلى أدنى من أجداده بما قد يفقده فاعلية مثل هذا البرنامج البقائى (الإدراك) الذى حَضَرَنا هكذا من واقع الممارسة والمبادأة بكل هذه القوة والشمول وهو يعد بفرصة أن يعود الإنسان كائنا مكرما كما كرمه ربه، بامتداده نحو خالقه من خلال حمل أمانة كل إيجابيات الحياة والأحياء، إلى وجهه تعالى.
[الشكل يبين بعض التجليات فقط]
ماذا لحق بالإدراك فى أيامنا هذه؟
فى هذه النشرة سوف نحاول أن ننظر فيما آل إليه حال الإدراك فى الحياة المعاصرة، دون تعميم، ولعله من الأمانة أن أعترف أن ما دعانى إلى الاستمرار الآن بعد مقاومة شديدة، هو ما فتحه علىّ كل من ساهم من أصدقاء فى التعليق على هذه المحاولة بأى وسيلة على أى مستوى، وقد عجبت أنه كان أكثر موضوعات النشرة جذبا للتعليقات وإثارة للحوار، بل والإبداع. هل يا ترى يعنى هذا الترحيب أنه فعلا من مميزات ثقافتنا؟ ربما!
المهم نحن نختزل أو نهمل أو نهمش أو ننكر أو نكبت “الإدراك” بأى من السبل التالية:
1) الإعلاء من شأن ما يسمى “العقل”، ونحن نتكلم عادة عن عقل واحد حاذق متحذلق، منطقى، أرسطى غالبا، وبالتالى نلغى سائر العقول الأخرى التى هى هى عقولنا أيضا حمـّلنا إياه تاريخنا الحيوى (القانون الحيوى Biogenic Low: أنظر أيضا أنواع العقول (نشرة 25-12-2007 “أنواع العقول وتعدد مستويات الوعى”)، (نشرة 2-1-2008 “أنواع العقول (وإلغاء عقول الآخرين). وتعدد الذوات (نشرة 9-12-2007 “تعدد الكيانات وحركية الإبداع). وقد بلغ من تضخيم هذا العقل أن أهل هذا الدين الحضارى الشامل – الإسلام- الذى اهتم بالغيب وببصر القلوب التى فى الصدور، وبمحاولة إزاحة الأقفال عن القلوب، سمى هذا الدين، باسم “دين العقل”، وفرح بهذه التسمية كل المنتمين إليه، (أو أغلبهم على الأقل) وهم يفخرون أشد الفخر بعقولهم الظاهرة، ربما على حساب عقولهم المؤمنة المدركة الأعمق، فتوقف الاجتهاد عند ما يسمح به هذا العقل الظاهر.
ثم إن أغلب العامة يرددون أن “ربنا عرفوه بالعقل”، وذلك ردا على حوار يقول إن أحدا لم ير الله لكننا عرفناه بالعقل، “حد شاف ربنا، قال لك لأ، إمال ربنا عرفوه بإيه؟ قال: بالعقل، قال: شفت ازاى!! ” هكذا يجرى الحوار مجتزئا ليثبت أن العقل القادر على معرفة الله قادر على حل المشكلة المثارة..إلخ، لكننى أتوقف هنا لأننى أرجح أن العامة لا يستعملون فى حوارهم هذا كلمة “العقل” بالمعنى الاختزالى السابق ذكره، لأن الحوار يبدأ أن أحدا لم ير الله لكننا عرفناه بالعقل، وكأنه يقول: ولكننا رأيناه بالعقل (الآخر) ، فيقربنا هذا التأويل من الإدراك وليس فقط من العقل المنطقى الاختزالى.
2) أختُزل الإدراك فى حدود الحواس الخمسة إذ اقتصر تعريفه على أنه “العملية التى تعطى للإحساس معنى”، ويقصد بالإحساس فى هذا التعريف: الحواس الخمس، ومعظم دراسات الإدراك فى مجال علم النفس، وعلم النفس الفسيولوجى، والفسيولوجيا، أسهمت وأسهبت فى دراسة الإدراك عامة والإدراك البصرى خاصة، وأضافت الكثير بقدر ما أغرت بإهمال ما لا يمكن دراسته بنفس الطريقة أو ما يماثلها، وكان هذا على حساب الإدراك الأصل بداهة.
3) تعطفا من علم النفس سمح لما يسمى الإدراك خارج الحواس (الخمس) “المتجاوز لها” أن يلتحق بعلم (يسمى علما تجاوزا) الباراسيكولوجى، وهو علم قد يكون مقبولا عند العامة أكثر من الخاصة، وهو يتماس مع كثير من الممارسات الخرافية الشائعة، كما أن أكثر معطياته تستعصى على القياس المسمى الموضوعى، وبالتالى فإنه عرضة لسوء الاستعمال لدرجة الدجل والشعوذة، ولعل هذا هو ما دعى العلماء الحريصون على نقاء علومهم وحبكتها أن يتجنبوا الموضوع برمته. مرة أخرى أستعمل التعبير الشائع، فألقوا السلة بالطفل الذى فيها تخلصا من رائحة السلة، أو اشتباها فى محتواها
4) برغم من تراجع هذا التوجه حديثا، إلا أن ما جرى فى العقود القليلة الماضية كان أن تمادى العلم المؤسسى فى ازدراء “العلم المعرفى”Cognitive Science بما فى ذلك العلم المعرفى العصبىCognitive Neuroscience لدرجة اعتبار مبادئه الأساسية خروجا عن دين العلم الحاسوبى المؤسسى (وقد وصفوا بعض إنجازاته بالهرطقة، مثل أن “التفكير ليس فقط بالرموز!! و”المعرفة ليست فقط فى الدماغ!!!”)
5) تم استبعاد الجسد كأداة معرفية فى أغلب الدراسات التقليدية، واستمر التعامل معه كقفاز خارجى، ووسيلة مادية لاحتواء ما هو أهم، وبناء عليه تمادى الانشقاق، ولو مجازا، بين ما هو “جسد” وما هو “روح” بطريقة همّشت كل من الجسد والوعى على حد سواء، ولعل تجنب هذا الانشقاق هو ما نفهمه من تذكرة ربنا لنبينا صلى الله عليه وسلم ألا يرد على من يسأله عن الروح، لأنها من أمره وحده. (وقد لاحظت أن كثيرين من الأصدقاء الذين رحبوا بفتح ملف الإدراك، قد استعملوا لغة وردت فيها كلمات الروح، والروحانية، والشفافية، ومثل هذه المصطلحات التى تبعدنا عن الجسد والبيولوجى بشكل أو بآخر)
6) جرى ويجرى – من ناحية الممارسة الفعلية وليس بالضرورة التنظير- اختزال الإيمان (الكدح الإبداعى) إلى الدين، واختزال الدين إلى الشريعة التى جرى استنباط أحكامها غالبا فى حدود سجن المعاجم، وصعوبات التأريخ، واجتهاد عقول المفسرين، دون تجديد استلهام النصوص الرحبة الواعدة المرنة؟
7) زادت صعوبات دراسة الإدراك على المستوى الاشمل حين تبين للباحثين (والممارسين والعامة) شدة ارتباطه بما هو “وعى” Consciousness، ومع غموض مفهوم الوعى، أواختزاله إلى نشاط عصبى للجهاز المشتبكى الصاعد، بما يقابل وظيفة اليقظة والانتباه، أو اختزاله إلى الشعور الظاهر بما يحتاج إلى نفيه بعكسه الباطن (العقل الباطن أو اللاشعور فى لغة التحليل النفسى) فلبس الإدراك مع الوعى عباءة غموض جديدة
8) بصفة عامة، نادرا ما ربط الباحثون الإدراك بالفكر التطورى، بل إن البعض ربط هذا الفكر بالهرطقة بشكل أو بآخر حتى وصل الأمر إلى حد التكفير فى بعض الأحيان، وذلك بدلا من الاجتهاد لإعادة تفسير نصوص لم تنص على رفض هذا الفكر أصلا بدءا من تسبيح الجبال وكل ما بين السماوات والأرض، وليس منتهيا إلى ما هو سلالة وعلاقتها بما هو سلسلة …إلخ، علما بأن كل هذه العلوم بما فيها من توسيع المعرفة، وتعميق الوعى، وتعداد أدوات المعرفة، وتوسيع مجالاتها، هى مما أنزل الله من فضله على عباده العلماء والعارفين، وأن علينا أن نحكم بما أنزل الله بما يفيد البشر كدحا إليه ونفعا لهم(1)
9) توارى الإدراك بعيدا عن البحث المنهجى مع تحول العلم المؤسسى إلى “أيديولوجيا”، تنفى كل ما عداها على أنه “لا-علم”، بل “خرافة صرف، طبعا يتم ذلك تحت تأثير قوى السوق والنشر والمال. يرجع هذا إلى وصاية تفسيرات للنص الدينى (دون النص نفسه) على العلم، فى مقابل محاولة مدح الدين وتسويقه بتفسيرات سطحية تعسفية من العلم المؤسسى غالبا.
10) مع التمادى فى تقديس المنهج الكمى جرى جمود لمناهج البحث العلمى واختزال لمفهوم الموضوعية، وفُصل الباحث عن مبحثه كجزء منه فصلا حاسما (لم يخلُ من رفض أو تحقير أو استهانة بالمنهج الفينومينولوجى)
11) زاد تدخل المال (شركات الدواء كمثال) فى تحديد نوع الأبحاث ومسارها، وذلك فيما يسمى “الأبحاث الباهظة التكاليف” التى ينظر لتغطية تكاليفها (المبالغ فيها عادة) أكثر مما ينظر إلى فائدتها، ليس فقط فائدتها فى الحياة العامة، أو الصحة أو تعمير الأرض، أو سد حاجات البشر، ولا فى جدواها فى الرقى بالبشر ليكونوا بشرا كما خلقهم ربهم. والأبحاث فى الإدراك ليس لها عائد مادى سريع طبعا (أم ماذا؟)
12) تمادت – إلا قليلا- نزعة تقسيم الوظائف النفسية، وخاصة فصل العواطف (الوجدان) عن العملية المعرفية، وعدم الترحيب بدورها فى اعتمال المعلومات بآلية موازية، أو مكملة، أو متكافلة مع اعتمال المعلومات المرموزة تفكيراً
13) ندرت محاولات الربط بالعلوم الأحدث فالأحدث بالعمليات النفسية والبرامج المعرفية وعلى رأٍسها الإدراك، وذلك مثل العلوم الكموية مثل الرياضة الكموية والطبيعة الكموية Quantum Mathematics & Quantum Physics وأيضا العلوم الحاسوبية العملاقة مثل Chaos Science & Complexity science
14) أزيحت مناهل وقنوات المعرفة الأخرى بعيدة عن محراب العلم، فقلّ عطاء الفلسفة مع أن دورها العملى فى الحياة العادية يستعيد مكانته تدريجيا، وكذا لم ننتبه إلى العطاء المعرفى الواصل إلينا من خبرات الجهاد الصوفى المثابر.
وبعد
أعلم أن كل هذه القضايا قد تناولها الكاتب بشكل أو بآخر فى أكثر من مناسبة وأطروحة ومقال فى النشرات وغير النشرات، لذلك لن أقدم الآن بأى تفصيل بالنسبة لها،
أما بالنسبة للجانب الآخر الذى حافظ على دور للإدراك برغم كل ما سبق، فسوف يكون موضوع نشرة الغد مع الإشارة لبعض تشكيلات الإدراك الإيجابية نتيجة لذلك.
[1] – ولا ننسى ما ذكرنا فى المقدمة كيف أن الإدراك حفظ الأنواع التى بقيت.