نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 5-9-2012
السنة السادسة
العدد: 1832
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (108)
الإدراك (69)
عن العلم والثقافة والمعرفة (2)
مقدمة:
نشرنا أمس الجزء الأول من هذه التفريعة إلى العلم المعرفى، وفيما يلى الجزء الثانى الذى تعمدنا أن يكون موجزا لننصح أن يقرأ بعد إعادة قراءة نشرة أمس، كما نأمل أن ننتهى من هذه التفريعة الأسبوع القادم لنربطها بالإدراك ونحن نستكمله معا.
أنهينا نشرة أمس بعرض تعدد “مناهل المعرفة” ومن ثم بالتساؤل عن ما إذا كانت ثمة منظومة يمكن أن تربط بينها، ولعل هذه المنظومة هى العلم المعرفى بأبعاده الأشمل.
المدخل إلى العلم المعرفى:
تبين لى مؤخرا أن ما يسمى العلم المعرفى، كما تكشف لي من المدخل الإكلينيكى، قد يكون هو تلك المنظومة، وبما أن صفة “العلمية” التى لصقناها بنشاط لجنتنا الثقافية لم تحدِّدْ علما بذاته، فقد تصورت أن التعرف على هذا العلم الجديد نسبيا هو مناسب تماما لمزيد من تمييز ما هو ثقافة علمية.
قبل أن أتطرق إلى بدايات تعرفى على هذا المصدر من واقع الممارسة، أود أن اشير إلى ضرورة استبعاد الخلط بين هذا العلم المعرفى وبين مما يسمى علم “ما بجوار علم النفس أو الباراسيكولوجى، وكذا استبعاد التحليل النفسى التقليدى (الفرويدى). ليس هذا للإقلال من إسهام أى منهما، ولكن لأن هذه هى الحقيقة العارية كما سنرى لاحقا.
بدايات من الممارسة
أشرت حالا كيف أن مسيرة إثراء الثقافة تتخذ طريقها ذهابا وجيئة من الممارسة إلى التنظير ثم العكس، وهذا مبرر يسمح لى أن أعرض خبرتى بصفتى ممارسا مستهلكا من أصحاب المصلحة قبل أكون منظُّراً من أصحاب الفتوى، وذلك على الوجه التالى:
أولا: العلاج المعرفى
بدأتُ التعرف على ما عرفت لاحقا أنه علم مستقل، من خلال الممارسة الإكلينيكية وبالذات ممارسة ما يعرف بـ ”العلاج المعرفى“ Cognitive therapy . وهو علاج يفترض أن المعرفة غير منفصلة عن كلية السلوك، وأن تأثير التغيّر من خلالها يمكن أن يمتد إلى مجالات أخرى من السلوك، بما فى ذلك الوجدان، فالوجود. إن أشهر صور هذا العلاج هو علاج الاكتئاب الذى وصفه بيك Beck لتصحيح صورة الذات، و صورة العالم لدى المريض المكتئب. يُحدث هذا العلاج هذا التغيير لصورة الذات والعالم من خلال تنشيط التفكير فى الاتجاه الصحيح، وثَمَّ علاج آخر يستعمل القراءة، والكتابة، ويسمى “العلاج بالقراءة” (Biblio-therapy). (عرفته أكثر حين أشرفت مؤخرا على رسالة الدكتور عبد الله حسين قسم المكتبات جامعة القاهرة) وأى من العلاجين لا يعتمد أساسا- كما يبدو لأول وهلة – على الإيحاء، وإنما هو أقرب إلى العلاج السلوكى حتى أنه فى كثير من الأحيان يسمى باسم مشترك هو “العلاج المعرفى السلوكى”.
ثانيا: تغيير الفكر من خلال التعامل مع الجسد (والبيولوجى)
لم يكن المدخل من العلاج المعرفى (رغم تشابه الاسم) هو أهم ما هدانى إلى أساسيات العلم المعرفى. الخبرة الأعمق التى عرفتنى على جوهر العلم المعرفى كانت من خلال ممارسة نوع مكثف من علاج الحالات المستعصية.
كنا، وما زلنا نستخدم تحريك وتعتعة الجسد فى هذه الحالات، كعضو تنغرس فيه الأفكار، وقد تصدر منه، وتتعدل من خلاله. (تناولت هذا الموضوع بشكل مستقل فى كتيب “مراجعات فى لغات المعرفة” – سلسلة إقرأ” أنظر الملحق) كان ذلك – وما زال – يجرى بشكل متباعد لعلاج بعض حالات الوسواس القهرى، وحالات البارانويا (الضلالية المزمنة) وبعض حالات اضطراب الشخصية الخطرة. من خلال هذا العلاج أمكن تعتعة الضلالات عبر التحريك الجسدى غير المنتظم، والمتثابر، فى نفس الوقت.
ثالثا: علاج الحرمان من النوم
علاج أخر نبّهنى إلى علاقة التفكير بالتنظيم البيولوجى بشكل عام، (أى بشكل لا يقصر استعمال لفظ البيولوجى على الكيمياء أو المشتبكات العصبية) هو علاج “الحرمان من النوم”. الشائع عن هذا العلاج أنه علاج للاكتئاب، لكننا حين تعرفنا عليه من منطلق الإيقاع الحيوى تبين أن فاعليته مرتبطة بإعادة تنظيم الإيقاع الحيوى بصفة عامة، وليس فقط الإيقاع الحيوى لنشاط المخ، الفرض الذى حضرنا من خلال ذلك هو أن الحرمان من النوم يقوم بكسر دوائر الإيقاع الحيوى المغلقة، وبالتالى هو يقوم بكسر “النص المعرفى المعاد”. من هنا رحنا نستعمله فى الحالات المستعصية التى تتثبت فيها الضلالات والهلاوس كأنها الخرسانة المسلحة التى تجمد الفكر والوجدان والوجود جميعا. إن فاعلية هذا العلاج النهائية تتوقف على ما ينزرع بعده ومعه من أفكار طازجة، تسمح للدماغ بعد الجسد، من استعادة مرونتهما. ومن ثم تتفكك الضلالات.
رابعا: علاج النشاط الجسدى المثابر والمخَلْخِل.
ثم إنه من خلال العدو المتصل (حتى الماراثون أحيانا) مع اشتراط العرق وإسهام الرقص الجماعى الحر أثناء العدو بين الحين والحين، أمكننا خلخلة الجسد أيضا، ومن ثم تعتعتة الأفكار المتجمدة والدوائر المغلقة.
خامسا: التحليل التركيبى وتعدد الذوات، وحالات العقل
ممارسة أخرى سبقت تعرفى على العلم المعرفى تمت من خلال انتمائى جزئيا للتحليل التركيبى Structural Analysis (وٍمْن ثَمَّ التحليل التفاعلاتى Transactional analysis أنظر بعد) أكثر من انتمائى إلى التحليل النفسى الفرويدى. دون دخول فى تفاصيل أذكر أن ما يسمى التحليل التركيبى له جذوره فىالتركيب الهيراركى العصبى البيولوجى التطورى للدماغ. تفترض هذه النظرية أن النفس البشرية تتركب من تشكيلات تسمى حالات الذاتEgo states ، هذه الحالات تمثل كيانات تنظيمية متكاملة وليس كما يذهب التحليل النفسى إلى تشريح الذات إلى أجزاء وقوى بعضها مشوش حتى الخلط والتداخل (الأنا – الهو – الأنا الأعلى…إلخ). علاقة كل ذلك بالعلم المعرفى أنه أمكن مؤخرا تصوّر منظومات متكاملة من حالات العقل Mental States باعتبارها تمثّلات معرفية متكاملة تتجاوز الرمز والتربيطية (أنظر بعد). إن حالات الذات التى فتح لها الباب ما يسمى بالعلم المعرفى حتى أصبحت تسمى حالات العقل، قد تجاوزت حالات الذوات الطفلية والوالدية والناضجة التى قال بها التحليل التركيبى لتصبح بلا حصر، مع احتفاظها بقدرتها التركيبية على المثول التمثيلى بكليتها لتعلن ما يقابلها فى التركيب الدماغى الشبكى المنظوماتى للمخ.
سادسا: التحليل التفاعلاتى
أما بالنسبة لما يسمى التحليل التفاعلاتى فهو الخطوة التالية للتحليل التركيبى، وهو يعلن أن الحوار بين الناس يجرى على أكثر من مستوى من خلال أكثر من قناة توصيل فى نفس الوقت.
إن أبسط الصور لشرح ذلك هو ما يجرى فى المقابلة الإكلينيكية مما يمكن تعريته فى العلاج الجمعى بشكل خاص.
الخلاصة:
يمكن أن أوجز خلاصة ما وصلنى من ممارستى العملية هذه فى علاقتها بالعلم المعرفى الذى يثبت أكثر فأكثر أنه قديم بقدر ما هو حديث حين أكتسب هذا الاسم مؤخرا:
أولا: إن التفكير يجرى على أكثر من مستوى شعورى (العلم المعرفى يسمَّى المستويات الأعمق هذه باللاشعور – وهو غير اللاشعور الفرويدى – حيث يزعم أن أغلب التفكير هو لاشعورى أساسا)
ثانيا: إن المخ ليس هوالقائد طول الوقت، فالجسد عضو تفكير كذلك، فى كل من الإدراك والفعل وغيرها، وهذا ما سبق توضيحه من خلال الممارسة الإكلينيكية
ثالثا: المعرفة بالممارسة أشمل من العلم الذى يظل يمثل أساسا جوهريا كأحد مناهل المعرفة، ومرجعا هاما لضبط الممارسة.
من هذا المنطلق سوف أخصص بقية المحاضرة للتعرف (على بعض معالم الجانب النظرى للعلم المعرفى التى يمكن أن يتم من خلالها التربيط بين الممارسة والتنظير من جهة، وبين الثقافة (العلمية) وهذا العلم من جهة أخرى.