نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 24-12-2012
السنة السادسة
العدد: 1942
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (140)
الإدراك (101)
الإدراك والحلم والإبداع (2 من 5)
مراحل الحلم ومستوياته
مقدمة:
انتهت نشرة أمس إلى أننا يمكننا صياغة عملية الحلم فى مراحل ثلاث أساسية، لكن قبل أن نفعل ذلك نتوقف قليلا لإشارة محدودة عن علاقة الحلم بالإدراك، آملين ليس فقط أن يفسر الإدراك الذى يشتمل نشاط العين الداخلية ما يؤكد أنه يتجاوز الحواس الخمس بدليل هذه العين التى “ترى” صور الحلم، أثناء حركة العين السريعة (ريم REM) كما افترضنا وإنما قد يفسر الحلم إذا تذكرنا أن أحد تجليات الإدراك وظيفة الإدراك الهامة هو أنه معرفية من حيث أنها وظيفة إيجابية عميقة تنشط فى النوم مثلما تنشط فى اليقظة، ترتِّب المعلومات، وتُحكم التناغم وتفرز التعلم (نشرة أمس) ألا يعنى ذلك قيام الحلم بنشاط معرفى هو أقرب إلى الإدراك، بل اقرب إلى الإبداع من نشاط التفكير اليومى العادى بما فى ذلك الفهم.
الإشكال الثانى الذى أثير فى نشرة أمس وسوف نعود إليه هو إشكال الحديث عن الزمن بلغة وحدات متناهية الصغر لا يمكن رصدها، ناهيك عن إثبات ما حدث أثناءها فى الوقت الحالى، بأية مهارة تقنية، مع أننى آمل أن نتوصل إلى بعض ذلك ولو فى المستقبل البعيد.
غرابة هذه الفروض، ومساحة هذا التأجيل يتطلبان صدرا رحبا، وتلقيا مبدعا، وخيالا خصبا من المتلقى حتى يستطيع متابعتنا وهو يصدقنا أو يحاول ذلك، ولو سألنى أحدهم عن مصدرى أو وسيلتى لرصد أجزاء الثوانى هذه سواء بالنسبة لإبداع الحلم أو بالنسبة لما يجرى فى العلاج الجمعى لما استطعت الإجابة، برغم أن الكثيرين مرضاى وتلاميذى يقبلون الفكرة بسهولة، وربما يعايشونها بدرجة ما، ربما يصدقون من واقع خبرة التراكم الذى يؤدى إلى تغيرات نوعية فى الوعى أو السلوك أو كليهما فى أى منا.
النقطة الثالثة هو ما جاء قرب نهاية النشرة من أن “المحتوى الفج الذى يتحرك فى هذا المستوى لا يظهر أبدا فى وعى اليقظة، فمن أين لنا أن نعزو الآثار التنظيمية والتعليمية والنمائية إليه، وما علاقة ذلك بالإدراك؟ لا يوجد عندى رد حالا، وإن كنت آمل أن يوجد فى المستقبل القريب أو البعيد.
مراحل الحلم
تكلمة لما بدأناه أمس تتعدد وتتصاعد مراحل الحلم كالتالى:
المرحلة الأولى:
يتم فيها الحلم، دون إمكان حكايته، وهو ما سوف نسميه هنا: “الحلم بالقوة”، أو الحلم الخام، وأعنى به حركية الحلم الأولية (وقد غامرت بهذه التسمية من واقع نبض اللغة وحركية الخبرة معا).
المرحلة الثانية:
يغلب فيها “الرصد” على “التأليف” مع احتمال حكى بعض ملامح الحلم. “هكذا”، بقدر هائل من تناثره وتكثيفه، ونسميها: “الحلم بالفعل”، أو “الحلم الحركى”.
وأنا الآن بعد أكثر من عشرين سنة من كتابة هذه الأطروحة أود أن أعلن ضعف جرعة الرصد حتى فى هذه المرحلة، وفى نفس الوقت أتراجع عن مصطلح “الحلم بالفعل” و”الحلم الحركى” مكتفيا بتعبير “الحلم الفج” الذى هو أقرب إلى الإدراك المعرفى/الوجدانى منه إلى الخيال، وطبعا إلى التفكير.
المرحلة الثالثة:
هى المرحلة التى تسمى عند العامة وعند الخاصة أيضا ”حلما” من حيث إنها الحلم كما يحكيه الحالم تأليفا عادة، ونسميها: “الحلم بالتأليف”. أو “الحلم المبدَع”، على أن هذه المرحلة الأخيرة ليست واحدة، عند كل الناس، ذلك لأن التأليف يختلف أصالة وتزييفا، بحسب درجة وصاية نوع التفكير االذى يقوم بعملية الإبداع ساعة اليقظة، أى الذى يتولى مهمة إعادة التشكيل من المادة (المعلومات) المتاحة عند الاستيقاظ مباشرة.
وتقل جرعة إبداع الحلم كلما اقتربت حكاية الحلم من اللغة العادية ومن التسلسل الزمنى التتابعى العادى، حتى تصل بعض الأحلام إلى حد تكاد عنده ألا تكون لها علاقة أصلا بالنشاط الحالم الذى أثارها. مثل هذه الأحلام هى التى تستحق أن يقال عنها “الحلم بالتزييف”، وهذا لا يعنى المعنى الأخلاقى للتزييف وإنما المعنى الانشقاقى المصاحب لتنشيط درجة من الخيال ويستحسن تسميته “الحلم المؤلف”، وهذا يقابل ما أشرنا إليه فى حالة الإدراك التجاوزى حين أكدنا أنه ليس ناتجا عن الخيال كما نعرفه.
يمكن أن نتصور متدرجا ـ نظرياـ لإبداع الحلم، يبدأ فى أقصى ناحية من تصور أن المادة التى نُشطت يمكن أن يلتقطها الحالم كما هى (كالتصوير الفوتوغرافى العادى)، وهذا مستحيل كما أشرنا، وينتهى فى أقصى الناحية الأخرى، بتصور أن المادة المُنشطة سوف تختفى تماما من وعى اليقظة، وتحل محلها مادة بدلية من صنع الخيال (مزيفة/مؤلفة)، وهذا ما يبدو فى صورة الأحلام التى تُـحكى متسقة ومنتظمة ومسلسلة وظاهرة الدلالة، والتى تشبه كثيرا أحلام اليقظة، أو أحداث اليقظة، وكل مايقع بين هاتين النقطتين القصويين يمثل درجة ما من درجات الإبداع الذى يختلف باختلاف قدر تحمل المواجهة الغائرة التى تَعْتَعَها نشاط الحلم الأساسى.
بقدر اختلاف جرعة أمانة التسجيل من ناحية، ونشاط التأليف الضام للمادة المستثارة من ناحية أخرى، دون وعى كامل: يبدو الحلم إبداعا أصيلا، أو تفسخا غامضا أو تسطيحا بديلا.
تقسيم مستويات الأحلام
على هذا الأساس يمكن تقسيم الأحلام حسب موقعها على هذا المتدرج إلى مستويات حسب:
(أ) درجة التكثيف
(ب) فرط التداخل
(جـ) مستوى اللغة المستعملة
(د) نوع شبكة العلاقات بين أبجديتها
1) فثم حلم شديد التكثيف، سريع النقلات، متعدد الطبقات، واهـى العلاقات، وهو الأقرب إلى ما أسميناه “الحلم الفج” مع تذكر أن الحلم الخام، (أى الحلم بالقوة)، السابق لهذا الحلم الفج لا يظهر كما هو أبدا. فعل الإبداع هنا قوى وصادق، لأنه ليس تصويرا بسيطا، ومن ثم فإن حكايته كما هو - لو أمكن - هى محاولة إحاطة ضامّة لتناقضات مواجهة، فى إطار مسئولية الوعى، وعادة ما يستحيل ترجمته حرفيا إلى لغة اليقظة، فهو لا يُحكى عادة بما هو، فإذا حُكى فإنه يحكى بشكل غامض ومتداخل واحتمالىّ، وليس بشكل حكى واضح مسلسل، مجرد لقطات متباعدة غالبا.
وقد تظهر لمحة منفصلة من هذا الحلم بشكل شديد التركيز يمكن أن نطلق عليه إسم: “الحلم اللقطة Shot تكون أكثر وضوحا وأقل تشكيلا لشدة قصر الحلم مما يخفف من غموضه وإن لم يقلل من عمقه.
2) كلما قلت جرعة التناثر وخف التكثيف وزادت غلبة التفكير العادى (التفكير من نوع: “حل المشاكل”) نبتعد عن عمق ما هو الحلم الفج، لنتجه نحو ما هو تأليف وإبداع فى حالة وعى متوسط بين النوم واليقظة.
3) ثم ينتهى المتدرج إلى الحلم المؤلف، وهو الحلم الذى يكاد ينفصل عن جوهر التنشيط الحالم، ومن ثم المادة المفككة المستثارة؛ وكأنه استبدال للحلم الأصيل بحلم مصنوع بتأثير خيال يشبه خيال حلم اليقظة، وهو يتم فى وساد ما يمكن أن يسمى: الوعى المنشق (1)وهو وعى مواز لوعى اليقظة وليس متبادلا معه مثل وعى النوم ووعى الحلم الفسيولوجى ( الخام).
قد نقابل هذا النوع من الأحلام المؤلفة، عندما نوقظ النائم فى فترة النوم غير الحالم (بدون الريم) NREM، فنجده يحكى حلما يقال عنه إنه “مثل-التفكير المفهومى فى اليقظة” (2) ، ويقصدون أنه مرتب، منطقى، مسلسل، واضح. وهذا يؤكد ماذهبنا إليه من أن مثل هذا الحالم حين أوقظ لم تكن فى مواجهته مادة (معلومات) مفككة متزاحمة متحركة أصلا، وبالتالى لم تتحرك العين بسرعة لتتبعها، فانشق وعى اليقظة ونسج ما يتلاءم مع شقه الواعى، مثلما تعوّد فى حالة اليقظة.
2-6 الحلم نشاط معرفى (3) (إدراكى/إبداعى)
أشرنا فيما سبق ٍإلى أن الحلم ليس مجرد تفريغ دوافعى، أو انفعال موجه، أو إدراك سلبى، أو تحقيق رغبة وقد نوقش ذلك فى الأدبيات المنشورة بتفصيل مسهب، ثم إن النظر الأحدث إلى نشاط الحلم ينفى أنه نشاط بدائى يستعمل العمليات الأولية فحسب (كما زعم فرويد) تلك العمليات التى تغلب على تفكير الطفل، والمجنون، والشخص البدائى (كما يزعمون)، فى مقابل العمليات الثانوية (4) التى تصف تفكير الناضج الممنطق (منطق “أرسطو، وليس منطق فون دوماروس”(5)، فإلى أى نوع من النشاط العقلى يمكن أن ينتمى الحلم؟
إن الحلم يستعمل مزيجا من كل العمليات العقلية: الأولية فى مراحله الأولى، والثانوية فى مراحله المؤلفة والإبدالية، لكنه أيضا يستعمل العمليات ” الثالثوية” (6) التى قال بها “أريتى .Arieti” وهى العمليات التى تجمع بين العمليات الأولية والثانوية فى ولاف ضام (7) ، وقد أشار إلى مثل ذلك “ديستويفسكى” نصا حين قال: “… تتميز الأحلام ببروز قوى، وشدة خارقة، وتتميز كذلك بتشابه كبير مع الواقع، قد يكون مجموع اللوحة عجيبا شاذا، ولكن الإطار، ومجمل تسلسل التصور يكونان فى الوقت نفسه، على درجة عالية من المعقولية، ويشتملان على تفاصيل مرهفة جدا، تفاصيل غير متوقعة، تبلغ من حسن المساهمة فى كمال المجموع أن الحالم لا يستطيع أن يبتكرها فى حالة اليقظة، ولو كان فنانا كبيرا، مثل “بوشكين”، أو “تورجنيف” (8) (وسوف أرجع إلى تفصيل بعض ذلك عند التطبيق المقارن)(9)(“عن طبيعة الحلم والإبداع” – دراسة نقدية فى أحلام فترة النقاهة نجيب محفوظ – دار الشروق، 2011).
إذن، فالحلم ليس مجرد خلط عشوائى، وإنما هو أحد تجليات الإبداع الخاص فى ظروف لا تسمى إبداعا أصلا، ذلك لأنه يحضر فجّا نتيجة سرعته الهائلة، وتناهى قصر وحدته الزمنية، مما يجعل احتمالات تشويهه وتسطيحه أكثر تواترا من الإبداع المصقول، لكنه إبداع بمعنى أن ناتجه، فى حالة كفاءة وظيفته ولو على المدى الطويل، هو إعادة تنميط (10) أى أنه تنسيق تلقائى دورى راتب (انظر بعد)، مقارنة بالإبداع الذى هو إعادة تشكيل فى حالة من الوعى الفائق والإرادة الغامضة المشتمِلة.
وبعد
هنا احتمال ربط جديد بالإدراك كما قدمناه أو كما اكتشفناه فى ملف الإدراك، وبالذات وظيفة الإدراك فيما اسميناه “التلقى المبدع، ذلك أننا لو افترضنا أن العين الداخلية تدرك بطريقتها ولغتها حركية “المعلومات” المستثارة أثناء النوم النقيضى أعنى نوم حركة العين السريعة، (ريم) فتقوم بتلقى هذه المعلومات تلقيا مبدعا وهو أحد النشاطات التى عزوناها للإدراك خاصة، فإن هذا التلقى المبدع هو القادر على إعادة التنشيط أى إعادة التشكيل فى منظومة مختلفة، فهو الإبداع الذى تظهر آثاره فى أثار النوم الفورية (ليس بالضرورة باسم الإبداع) أو بعد تراكم إيجابى يشمل حركية عمليات جدلية معرفية نمائية أساسية.
ملاحظة:
أود أن أشير إلى أن كل ما أشرت إليه من الإدراك يمكن أن نضيف بجواره بين قوسين “الوجدان المعرفى”، لكننى فضلت الاكتفاء بالحديث عن الإدراك حتى لا يتشتت ذهن القارئ الذى اعتاد أن تقفز إلى ذهنه بمجرد ذكر “الوجدان”، مفاهيم ومضامين العوطف والانفعال والأحاسيس دون البعد المعرفى.
ونواصل الأسبوع القادم الحديث عن مادة الحلم ثم لغته وأبجديته.
[1] – Dissociated consciousness
[2] – Castaldo V. Shevrin H. (1968): Different Effects of an Auditory Stimulus as a Function of REM and NERM Sleep Psychophysiology 5: 219، (After Hall J).
[3]- Secondary
[4]- Tertiary Processes
[5] – يقابل “سيلفانو أريتي” بين قواعد منطق أرسطو، ومنطق: فون دوماروس وخاصة فيما يتعلق بتفكير الفصامى، من حيث أن منطق فون دوماروس يقبل اجتماع الأضداد، وتداخل المقدمات فى التوالى، وغير ذلك، مما يناقض منطق أرسطو الذى يراجع مؤخرا بنقد شديد فى مواقع شتى
Arieti, S. (1974) Interpretation of Schizophernia. New York, BasicBooks, Inc. Publisher p229-298.299
[6] – Arieti, S. (1976) Creativity. The Magic Synthesis. Basic Books, Inc. Publishers، New York, p12.-13
[7]- Converging synthesis
[8]- اقتطـف نفس المقتطف دافيد فولكس (هامش 14)، ص4، وحين رجعت إلى الأصل وجدت أن هذا الوصف خصه دستويفسكى بـ “حالات المرض” (ترجمة سامى الدوربى ص120، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر 1970) فتبدأ الفقرة بـ “فى حالات المرض، تتميز الأحلام… الخ، وتنتهى الفقرة نفسها بأنه: “… وهذه الأحلام، أعنى الأحلام المرضية، تخلِّف دائما ذكرى باقية….الخ”، وقد أضفت ما تقدم وما تأخر فى المسودة، ثم عدت فحذفتهما كما فعل فولكس، ذلك لأن دقة وصف ديستويفسكى لإبداع الحلم هو المراد هنا من المقتطف، أما قصر ذلك على الأحلام المرضية فهذا مالا تؤيده الملاحظات التالية، وبخاصة أن هذا جزء أساسى من مجال ملاحظتى المهنية، فاستشهدتُ بما أردت تأكيده، ثم وضعت هذا الهامش باعتبار أن ديستويفسكى ليس هو المرجع الذى يصنف حالة المرض من عدمها، فرأيه الشخصى الإبداعى هو بالغ الأهمية، لكنه ليس رأيا ملزما لمعنى المرض والصحة كما تقدمه هذه المدخلة.
[9] – وقد قمت مؤخرا بنقد أحلام فترة النقاهة لنجيب محفوظ، ومع أنها ليس أحلاما بل إبداع صرف فقد أكدت هى والنقد، وما نسجيت على منوالها من أحلام مكملة (نص على نص) ما يؤكد بعض ما جاءت فى هذه الأطروحة.
[10]- Repatterning