نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 23-12-2012
السنة السادسة
العدد: 1941
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (139)
الإدراك (100)
الإدراك والحلم والإبداع (1 من 5)
مقدمة:
انتهت النشرة السابقة بهذا الاعتراف: “…نحن فى ورطة يا عم إدريس، ورطة حقيقية أرجو أن تحتملنا ونحن نحاول الإحاطة بها، لا الخروج منها،
وإليك هذا التخطيط المبدئى دون أى شرح عليه، آملا أن أغطى من خلال إشاراته بعض ما يوحى به.
وحين هممت أن أكتب نشرة اليوم ، حاولت أن أفى بوعدى وأن أغطى من خلال الشكل أعلاه بعض ما يوحى به ما أمكن ذلك، فإذا بالورطة تزداد، والحرج يتضاعف والأمر يحتاج إلى إعادة ترتيب جذرى.
فلتسمحوا لى أن نؤجل الحديث عن علاقة الموت بالإدراك الآن، فهو الأصعب والأخطر والأكثر تحديا، وأكرر مرة أخرى بفرحة لا بعتاب، أن الذى جرنا إلى هذا الحديث هو أ.د. السامرائى، ولا شأن الأطروحة الابن د.إدريس الوزانى فى ذلك، برغم أن النشرة السابقة كانت مخصصة تقريبا للرد الموجز والجزئى على بعض ما جاء فى أطروحته عن الموت، أقول حين نظرت فى الشكل الذى أعدت نشره أعلاه، وتذكرت بعض التساؤلات التى وصلتنى مشافهة عن معنى الدوائر الدوارة أعلى الشكل على اليمين والشمال وأنه سبحانه “لا إله إلا الله” ثم أنه تعالى “ليس كمثله شىء”، ثم السهم كدحا إلى وجهه جل شأنه ربطت ذلك بفروضى عن الموت وعلاقته بالنقلات بين مستويات ودوائر الوعى، وكذلك الموت كأزمة النمو، ووجدت أن الأمر يحتاج إلى تمهيد وتقديم مفصل عن لغتى الخاصة، وهكذا قررت أن أؤجل موضوع الموت والتصعيد إلى وجه الله سبحانه وتعالى إلى أجل غير مسمى، الله أعلم متى يكون وكيف نعود إليه.
رجعت إلى أطروحتى الأساسية عن الحلم ومستوياته، وإذا بى أرجح أن أحدا من المشاركين فى الحوار، أو من تلاميذى، أو من زوار الموقع، اللهم إلا من لا أعرف، قد وصلته أصول هذه الأطروحة التى هى أساس جوهرى لفهم علاقة الإدراك بالحلم ومن ثم بالإبداع، فمن بالله عليكم يعرف الفرق بين “الحلم بالقوة”، و”الحلم الحركى”، و”الحلم المحكى” (المزيف بلغة الأطروحة) وكل هذه المصطلحات لها تعريفات خاصة أستعملها بلغة خاصة.
لكل ذلك قررت أن أبدأ بالتعريف بأبحديتى العلمية وبعض فروضى الضرورية عن الحلم والإبداع والإيقاع الحيوى التى ربما سهلت الأمر على من يتابعنا أن يواصل النقد والتساؤل بما يفيدنا أولا بأول، برغم أن أغلب ذلك قد سبق نشره ضمن أعمالى الباكرة، إلا أن إعادة نشره مجزأ هكذا قد يتيح الفرصة لحوار أرحب.
وفيما يلى الجزء الأول من أطروحتى الباكرة عن الحلم والإبداع بدءا بالتعريف بالفكرة المحورية فى أطروحة “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع“، وهى المبنية على نظريتى النظرية الإيقاعية التطورية التى ينبنى عليها كل ما ورد عن الحلم والنقد والشعر والإبداع، آملا أن أربطها أولا بأول بالإدراك، ولو بشكل نسبى بصفة مبدئية.
موجز المداخلة عن الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع:
تقدم هذه المداخلة فرضا يقول بأن الحلم هو نشاط معرفى، يقوم بوظيفة تنظيمية أقرب إلى الإبداع، سواء تم ذلك مع إعلان تأليف حلم يرويه الحالم عند استيقاظه، أم ظهرت نتائجه المعرفية والتنظيمية تؤكد كفاءة أدائه لهذا النشاط المنتظم المعاود، كجزء من الإيقاع الحيوى الشامل.
يستتبع ذلك إعادة النظر فى مستويات الحلم من أعمق حركية التنشيط البيولوجى الإيقاعى الراتب، حتى التقاط بعض آثار هذا التنشيط من معلومات هى مادة صياغة الحلم المحكى قبيل اليقظة (هذا إذا حكاه الحالم أصلا)، وما بين هذا وذاك تقع مستويات وسطى من التنشيط العشوائى غير المعلن إلى إعادة التنظيم الإبداعى، مع احتمال تزييف بديلٍ بخيالٍ مصنوع، يحل محل إبداعية الحلم.
كما تتناول المداخلة مقارنة قياسية بين مراحل إبداع الحلم، ومراحل إبداع الشعر خاصة، مع إشارة للإبداع القصصى (والروائى)، كذلك تمتد المقارنة لموازاة قراءة الحلم بالنقد الإبداعى، بدلا من تفسيره الملتزم بقواعد من خارجه. تماما مثل التذكرة برفض محاولة تقييم النص الأدبى بعـلْـمَنَةٍ نقدية تقيسه بمقاييس جامدة، مهما بدت مُحْكمة.
تنتهى المداخلة بتفضيل التزام النقد الأدبى بقراءة النص إبداعاً، لتكون الاجتهادات التى يقال عنها إنها أكثر “علمية ومنهجية” بمثابة الاجتهادات النقدية المساعدة، وليست بديلا عن إعادة إبداع النص نقدا خلاقا.
1- حركية الإبداع الذاتى ونوابيته:
1- 1 منطلق الدراسة
هذه الدراسة هى من منطلق شخصى خبراتى(1) أساسا، حيث تتحدد أبعاد هذا المنطلق من ممارستى لفن اللأم Art of Healing أو ما أسميته فن المواكبة العلاجية (2) وأخيرا اسميته “نقد النص البشرى” ومن محاولاتى الإبداعية المتواضعة فى مجالات القص، وقرض الشعر، والتنظير فى علم السيكوباثولوجي، ومن موقفى بوصفى إنسانا “يحلم”، ويتعلم، ويقرأ النصوص الأدبية ناقدا بقدر ما يقرأ النصوص البشرية فى تعريها وتحديها فيما يسمى: الممارسة الإكلينيكية توصيفا وعلاجا.
1-2 الإيقاعية الحيوية
أشير فى عجالة إلى المنطلق البيولوجى (3)الذى أتناول من خلاله ظاهرتىْ: الحلم والإبداع معا.
1- تمثل ظاهرة تناغم الإيقاع الحيوى (4)امتدادا على متدرج يبدأ مما هو قبل الجزئ إلى الكون الأعظم.
2 – تقع الظاهرة البشرية فى موقع متوسط على هذا المتدرج الإيقاعى الحيوى، حيث تعد ظاهرة البشرية ظاهرة حيوية نابضة، تمثل كونا أصغر متداخلا فيما هو أعظم من أكوان، حاويا لما هو أصغر فـأصغر.
3 – كل ذلك متضَّـمن فى دورات هيراركية – متناغمة التناوب والدوائر- ديالكتيكية الحركة، من خلال الإيقاع الحيوى الدورى على كل المستويات.
4- يستتبع ذلك أن يظل التركيب البشرى فى حالة حركية متناوبة، تشمل فى أحد أطوارها تفكيكا، يهدف إلى إعادة التنيسق والولاف على مستوى أعلى، مستعملا فى ذلك المتاح من المعلومات الموروثة والمكتسبة(5)، فى تصعيد تدريجى متناوب من خلال دورات الاستيعاب والبسط.
5- يتجلى بعض نتاج ذلك فى نوع الإبداع الذى يظهر فى صوره المختلفة، والذى يصنف فى النهاية بحسب اللغة المستعملة (الأدوات – والأبجدية)، أو النتاج الظاهر، أو كليهما، أو لا يصنف أصلا.
ويظهر الإبداع بالمعنى الأشمل والأعمق فى صورة متنامية ومتعددة.
أ- فهو يشمل مفهوم “النمو” المتصل فى دوراته الإيجابية على المستوى الفردى، حيث يعاد تخليق الإنسان على مسار النمو فى كل أزمة إبداع بلا انقطاع.
ب – كما يمثل الحلم إبداعا بيولوجيا آخر على مستوى الدورة الليلنهارية (اليوماوية).
جـ- وأخيرا، فإن الناتج الإبداعى (وأحد صوره الإبداع الأدبي) هو الصورة المتاحة لعطاء هذه العملية الحيوية، وهو الصورة التى تتجلى بالأدوات والمهارات الممكنة: على مستوى فائق من الوعى والإرادة.
أرجو ألا ينزعج القارئ من فرط هذا الإيجاز المبدئى، أو من إقحام كلمات مثل المخ والإيقاع الحيوى، فى حديث عن النقد والإبداع، ذلك أن المخ بأعقد ماوصل إليه تركيبيا ووظيفيا هو الممثل الأول للوجود البشرى ـ و إن كان ليس الأوحد، بعد أن استعاد الجسد دوره المحورى فى الإسهام فى المعرفة، ومن ثم جدل الإبداع. وحدة “المخ / الجسد”(6)هى بمثابة “الوجود الجامع” فى كل نتاج إبداعى، سواء كان استمرارا فى نمو خلاق، أم حلما معززا منظما، أم جنونا مقتحما فاشلا (إبداعا مجهضا)، أم إضافة خلاقة أصيلة متميزة (الناتج التشكيلى بكافة تجلياته) .
تتبين مشروعية هذا المدخل من خلال التأكيد على أن بداية هذه المداخلة هى “الحلم”. التحدى الملقى فى وجوهنا هو التوفيق بين معطيات معامل الأحلام الأحدث (والمبنية أساسا على تسجيل إيقاع المخ الكهربى أثناء النوم)، وبين الحلم بوصفه ظاهرة نفسية (معرفية/إبداعية)، لها لغتها الخاصة، شغلت الناس والنفسيين عبر التاريخ بمحتواها ودلالاتها.
يتناول المخ معلوماته (محتواه/تركيبه/ذواته…إلخ) بطرق متعددة لامجال لتفصيلها هنا. وسأكتفى بالإشارة إلى تنظيم نشاط الحلم من جانب، ونشاط الإبداع من جانب آخر، وهما محور هذا التناول الحالى:
الحلم هو نشاط مناوِبْ تنظيمى غائى(7) “لمستوى آخر” من الوعى البشرى. الحلم يحاول بانتظام إيقاعى أن يحكم التناغم، ويعزز التعلم، فى حالة من وعى نشط – متبادِل- آخر(8)
الإبداع يقوم بالمحاولة نفسها، إلا أنه ليس دوريا بالضرورة، كما أنه يتم بقصد إرادى نسبى بشكل ما، و هو يتم فى حالة “وعى فائق” (جدلىّ مشتمل، لا وعى عادى، ولا وعى بديل).
الحلم – أساسا – ”بسط”(9) دورى مناوب، والإبداع – أساسا – بسط إرادى ولافى أما الجنون (النشط)(10) فهو – أساسا- بـسـط قهرى مقتحِم.
2- الحلم: إبداع الشخص العادى
يتواتر الحديث عن الحلم، فى سياق النقد، بشكل وصل إلى أن يطلق اسم: “الأدب الحلم”(11) على بعض أشكال الأدب. وقد بلغت الثقة بمن يستعملون هذا التشبيه درجة توحى – بشكل ما- بأن المشبه به (الحلم) هو ظاهرة واضحة المعالم، تسمح بهذا القياس، وتبرر تأصيل حضور الحلم وعيا تركيبيا غائيا دالا.
ولنبدأ -كالعادة- بفرويد.
2-1 فرويد بين “تفسير الأحلام” و” السيرة الذاتية”
مازال كتاب تفسير الأحلام لفرويد (12) يمثل أساسا لكثير من محاولات فهم الحلم وتفسيره. لاشك أنه عمل رائد جيد، ربما لغرض آخر غير ما استُـعمل فيه، ولسبب آخر غير ما شاع عنه، فقد خاطر فيه فرويد، بتعرية نفسه – بدرجة ما- مما أضاف إلى رصيد شجاعته الكثير. وتتضاعف قيمة هذا العمل-عندى- إذا أخذناه بوصفه إبداع شاعر واعترافات قاص (وهذا ماحاول فرويد نفيه طوال الوقت!(13)، غير أن فرويد قد جعل من “نظريته” وصية على أحلامه وتداعياته، فإذا به يجعل الحلم الظاهر: تمويها وإخفاء، ويجعل الحلم الكامن: رغبة وإلحاحا، فيعارضه “كارل يونج”، إذ يعد الحلم كَشْفا لا إخفاء. يأخذ يونج الحلم الظاهر- بلغته الخاصة- مكملا لحياة اليقظة على طريق التكامل الفردى “التفرد”(14)، ولكن يتفق الاثنان (مثل غيرهما)، على أن الحلم “لغة” خاصة.
2-2 الصدمة:
منذ انتشر استعمال رسام المخ الكهربائى وماهية الأحلام تتضح فسيولوجيا. إمكانية تحديد ظهور النشاط الحالم بإيقاع حتمى منظم (20 دقيقة كل 90 دقيقة أثناء النوم) برصدها تخطيطا أحدثت أثر الصدمة على المفسرين والمحللين(15). إن من أهم ما أثبته هذا الاكتشاف هو إقرار أن الحلم يحدث حتما، سواء تذكرناه وحكيناه، أم لا، وأن الحلم ليس -أساسا- حارسا للنوم كما قال فرويد(16) بل لعل النوم هو خادم الحلم، أى أننا لانحلم لنحافظ على استمرار نومنا، وإنما الأصح أننا ننام لنحلم أساسا، وبانتظام راتب، وأننا إن لم ننم، فلن نحلم، ولن نعيد تنظيم معلوماتنا. لقد تأكد من خلال تجارب الحرمان من النوم، ثم من تجارب الحرمان من الحلم (من النوم الحالم) أن وظيفة الحلم هى وظيفة تنظيمية، تعزيزية تعليمية(17)أساسا، الحلم ليس مجرد تنفيث أو تفريغ أو تحقيق رغبة، كما أنه ليس مجرد حارس للنوم، وقد أدت هذه الصدمة المعرفية إلى التقليلٍ من التركيز على محتوى الحلم لحساب الاهتمام أكثر فأكثر بدوره فى تحقيق التوازن النفسى والتنظيم التركيبى فى الصحة والمرض.
2-3 المأزق:
لا مفر من التسليم بالمعطيات الفسيولوجية للنشاط الحالم، ولابديل عن الإقرار، فى الوقت نفسه، بخبرة الناس، والمبدعين، والمفسرين، فيما يتعلق بالمحتوى، وبالتالى: فلابد من حل يخرجنا من هذا المأزق. هذا بعض ما تحاوله هذه الدراسة، وبيان ذلك:
إن ظاهرة الحلم المسجلة، فسيولوجيا، هى النشاط الحالم الحيوى المتناوب مع نشاط اليقظة من ناحية، ومع طور بقية النوم (غير الحالم أساسا، وليس تماما) من ناحية أخرى.
هذا النشاط الحالم يقوم بتحريك الكيانات الداخلية، أى أنه يقوم بقلقلة المعلومات التى لم تـُتمثل تماما، أى: بتفكيك البنية القائمة نسبيا بهدف تحقيق درجة أكبر من التوازن والتكامل والتمثل والاستيعاب. يتكرر هذا النشاط إيقاعيا، فى محاولة دائبة لاستكمال مهمة التوازن والنمو البيولوجى التى لا تكتمل أبدأ مادامت الحياة تنمو باستمرار.
2-4 الفرض (فيما يتعلق بالحلم أساسا):
من خلال ما تابعته فى الممارسة الإكلينيكية، وأيضا من الخبرة الشخصية تبين لى أنه حين يستيقظ النائم ـ أو يوقظ فى أثناء هذا التنشيط الإيقاعى المسمى النوم الحالم (أو النوم النقيضى: أنظر بعد) فإنه يواجَـه -“وهو يستيقـظ”- بكم غامر من مفردات (معلومات) تم تحريكها أثناء هذا النشاط (الحالم). وهو حين يحكى الحلم إنما يؤلف بين بعض هذه المعلومات بطريقة لفظية مَرْوِيّة حتى يمكن للغة الحكى أن تستوعبها، بدرجة ما، ومن ثَـم يمكن أن تنقلها إلى آخر، أو أن يتذكرها الحالم أو يسجلها لنفسه، ويتم التأليف (قبل التسجيل) – فى جزء من ثانية- بطريقة غير طريقة التفكير والتأليف فى أثناء اليقظة، ليكون الناتج هو هذه الصورة المكثفة المتداخلة، بما تحمل من سرعة نقل، وتدوير للزمن، أو عكسه، أو تقطيعه.(أنظر بعد).
انطلاقا من هذه المقدمة، التى هى جزء لا يتجزأ من الفرض يمكن أن يصاغ الفرض الأساسى لهذه المداخلة على الوجه التالى:
1- ثَمَّ نشاط بيونفسى(18) يسمى الحلم، وهو نشاط يشير إلى العملية الناتجة عن النشاط الإيقاعى الذى يمكن تسجيله برسام المخ، فيما يسمى نوم حركة العين السريعة. وهذا النشاط يشمل عمليات: القلقلة والتفكيك فإعادة الترتيب والصقل.
2- إن هذا النشاط الأساسى ليس هو الحلم الذى نحكية (فيفسره لنا ابن سيرين، أو فرويد) ولكنه المصدر الحركى للحلم المحكى، أو هو معمل أبجديته.
3 – تمثل المعلومات المُقَلْقلَة المُفكَكة المادة الخام (الأبجدية) التى نسج منها الحلم المحكى، (وهذا لا يقابل الحلم الكامن عند فرويد).
4- يتم تأليف الحلم – كما نعرفه – أثناء (لحظات) عملية الاستيقاظ، لا قبلها.
5- إن الحلم المحكى ـ بناء على ذلك ـ هو نتاج عملية إبداعية هائلة السرعة، تتم فى جزء من الثانية، أو فى بضع ثوان(19)، فى حالة بـينية من الوعى، لاهى وعى الحلم، ولاهى وعى اليقظة.
6- إن تذكر الحلم أو حكيه أو تسجيله هىعمليات لاحقة لما تم تشكيله من هذه المعلومات المُقَلْقَلة، بتأليف تال فى زمن آخر، يسمح بالحكى أو التسجيل.
2-5 مستويات الحلم ومراحله:
أتوقف قليلا، لأعتذر للأديب والشاعر والناقد، والقارئ عامة، لإقحامه بعيدا عن بؤرة ما اعتاده الحديث عن الأحلام أو الإبداع، إلا أنى أطلب منه أن يصبـر حتى يحكم على ضرورة هذه المقدمة وأهمية هذا الفرض فى التطبيقات المقترحة لقراءة الحلم وما يوازيها من كيفية قراءة (نقد) النص الأدبى.
يمكن تحديد المراحل (المستويات) التى يمر بها الحلم المحكى، من أول التنشيط الفسيولوجى، وحتى حكايته (حلما) (فى قص مسلسل أو صورة مشكلة) كما يلى:
1) تبدأ العملية بالظاهرة الأساسية التى تتمثل فى التنشيط الإيقاعى بالتناوب، الذى يسجل تحت ما يسمى نوم الريم REM (20)وهو الحلم بمعناه الفسيولوجى، وفيها يتم التحريك، والقلقلة، والتناثر، للمعلومات
2) تتحرك الكيانات المكونة للدماغ/المخ (الذات)(21)، تأهبا للتأليف، والتمثل، والتعزيز. هذا المستوى المبدئى إنما يمثل حدة التنشيط الدورى فى طور البسط.
3) إن المحتوى الفج الذى يتحرك فى هذا المستوى لايظهر أصلا فى وعى اليقظة، فهو بالتالى أبعـد عن أن تتناوله قدرة الحكى من حيث المبدأ (فى الأحوال العادية)، فيظل رصده لا يتعدى رصد النشاط الكهربى الدال عليه، لكن آثاره التنظيمية، والتعليمية، والنمائية، هى التى يمكن قياسها، أما محاولة تسجيل المراحل الأسبق فتبدو مستحيلة بالأدوات، الحالية(22).
4) قد يظهر هذا النشاط الفج بأقل قدر من التأليف الضام أو المسلسل، وهو ما نستنتج بعض ملامحه فيما يظهر فى شكل ما يسمى “الأحلام الذهانية” أو شبه الذهانية، حيث يبدو محتوى الحلم مقطـعا وبدائيا وفجا ومتناثرا ومرعبا مشتملا على أجزاء الجسد، والكائنات الخرافية والنقلات المستحيلة، مما لا يمكن جمعه إلا لصقا متعسفا. إن ما يسمى الأحلام الذهانية ليس ذهانا (مرضا) ولا هى أحلام الذهانى، لكنها قد تعتبر فى بعض الأحيان إرهاصات بالنكسة أو إنذارات تفسًّخ قادم. على أن هذا النوع من التناثر هو نفسه الذى قد يكون المادة الأكثر أصالة لما سوف يسمى فيما بعد “الإبداع الفائق” أو “الخالقى”.
5) أغلب الأحلام المحكية يتم تشكيلها “أثناء” عملية الاستيقاظ، لا بعد الاستيقاظ الكامل، ولا هى ما حدث أثناء الحلم فعلا، ذلك أن الشخص وهو يعايش مرحلة استيقاظه يلتقط بعض معالم المادة المستثارة بدرجة تسمح له أن يؤلف منها حلمه الذى يحكيه على أنه الحلم.
6) فى كثير من الأحيان، وبعد أى مرحلة من هذه المراحل، قد لا يستطيع الحالم أن يحكى الحلم، وكثيرا ما ينكر أنه حلــم أصلا، وهذا لا يعنى أن ذلك صحيح، بل إنه قد يشير إلى غلبة ميكانزمات الإنكار والمحو والكبت التى تمنعه من مجرد حكى أحلامه.
يمكننا، إذن، صياغة عملية الحلم فى مراحل ثلاث أساسية.
غدًا بإذن الله
[1]– “شخصى” بالمعنى الفينومينولوجى، وليس الذاتى بمعنى “الشخصنة Personification، وهو يشمل أن تقل جرعة الذاتية الإسقاطية، لحساب استيعاب الموضوع فى وحدة “الذات لموضوع الكلية”، التى تفرز الخبرة بمقدار نجاحها فى التخلص من الشخصنة والإسقاط.
[2] – يحيى الرخاوى: (1979) دراسة فى علم السيكوباثولوجى: 698- 702، 788-790، 783-784. القاهرة. جمعية الطب النفسى التطورى.
[3]– أعنى بكلمة “بيولوجي” طوال هذه الدراسة، المعنى الأشمل للكلمة، وهو “علم الحياة ”، بادئا بما هو دون الجزيئى، شاملا التفاعل البيوكيميائى، حتى الوجود الواعى فى حالة الظاهرة البشرية – مارا بمختلف أشكال وتجليات السلوك ـ وعلى هذا فلابد من الانتباه إلى رفض معنى كلمة “بيولوجي” الضيق الذى شاع بسوء الاستعمال بوصفها تـعنى ما هو كيميائى أو فسيولوجى. إن هذا المعنى الشامل لكلمة بيولوجى، هو الذى استعملته فى أغلب كتاباتى السابقة، ويبدو هذا التحديد ضروريا وبخاصة فيما يتعلق بما أسميته فيما بعد، هنا فى هذه الدراسة، “الواقعية البيولوجية”. إن جاك لاكان وهو يرفض بحدة ما هو بيولوجى عاد يعلن أو يقترح أنه ينتمى إلى ما أسماه البيولوجيا غير البيولوجية Non-biological Biology ، كما أن ميلانى كلاين (ممثلة للمدرسة الإنجليزية فى التحليل النفسى)، رفضت بيولوجية سيجموند فرويد بما تشير إليه من أولوية الغرائز ودفعها، لتُحل محلها “العلاقة بالموضوع” كأساس للنمو وفهم المسيرة البشرية فى السواء والمرض. إن مفهوم البيولوجى فى هذه الدراسة وكما يتبناه الكاتب هو مفهوم تطورى نوعا وأفرادا.
[4]– الإيقاع الحيوى Biorhythm الذى هو محور هذه الدراسة هو كل عمليات التوازن الحيوى المتكرر فى إيقاع منتظم لا يتوقف، مع اختلاف وحدة الزمن : حيث تتراوح من الميكروثانية فى تفاعلات الكيمياء الحيوية، إلى الملليثانية فى نشاط الإطلاق Firing النيورونى المنتظم، إلى الثانية الكاملة فى دورة القلب، إلى تسعين دقيقة فى نشاط النوم النقيضي-الحالم-إلى الدورة الليلنهارية / اليوماوية /السركادية Circadian، يوما كاملا: نهارا وليلا واحدا، إلى دورات النمو المتعاقبة فى حياة الفرد Macrogeny، إلى جماع دورات النمو الفردىOntogeny إلى الطفرة فى تاريخ النوع كلهPhylogeny.
إن الإيقاعية الحيوية Biorhythm هى دورية منتظمة ـ بالنسبة لنشاط المخ بالذات (الذى كان يبدو قبل ذلك: إما كمشتبك توصيلات، أو مخزن معلومات) وذلك من أول الإطلاق النيورونى الدورى Periodical Neuronal Firing إلى الجهد الفاعل Action Potential لمحور الخلية العصبية المفردة، إلى محصلة النشاط الكهربى للمخ ككل. وقد أوردت كل هذه التفاصيل لأن هذا البعد الإيقاعى الحيوى هو المحور الأساسى الذى تدور حوله الدراسة، وهو المحور الذى بنى عليه الكاتب نظريته المسماة “النظرية التطورية الإيقاعيةEvolutionary Rhythmic Theory لتفسير السلوك البشرى فى وحدة سيكوبيولوجية متصلة- فى الصحة والمرض (يحيى الرخاوى: محاضرات مختارة فى الطب النفسى، الموقع www. Rakhawy.org، وأيضا دراسة فى علم السيكوباثولوجى: هامش 3)
[5]– حتى المعلومات الموروثة من الأسرة أو من النوع- هى قابلة للتعتعتة والتحريك; فمزيد من التمثيل، وأعنى بالتمثيل مايقابل العملية الحيوية التى تقلب العناصر الأولية البسيطة إلى التركيب العضوى الحى المركب لتصبح جزءا لا يتجزأ منه، وهو ما يقابل الأيض البنائىMetabolism، وبالنسبة للمعلومة فى المخ فإن هذا الفرض المتضـمن فى النظرية السالفة الذكر يعامِـل المعلومة مبدئيا كجسم غريب مُـدخل، ثم يأخذ الإنسان فى هضم وتمثيل هذا الجسم/المعلومة ـ مع كل نبضة حيوية، على كل المستويات لتواصل النمو، وتغـير النوع معا . إن هذا البعد له علاقة بالأنماط الأولية Archetypes عند يونج Jung، كما أن له علاقة بظاهرة “البصم” Imprinting. عند لورنز وتينبرحن بوجه خاص.
[6]– هذا الاصطلاح “المخ/الجسد” هو تحديث أدخل بدلا من التركيز على ” المخ” فى صورة الفرض الأولى وإن كان استعمال لفظ المخ سيغلب حتما إلا أنه سوف يعنى دائما هذه الوحدة المشتملة “المخ/الجسد”، تأكيدا لما كشف عنه العلم المعرفى الأحدث لدور الجسد فى التفكير والإبداع!
[7]– غائية الحلم تعنى هنا أنه ليس عشوائيا مطلقا، كما أنه ليس أساسا “تحقيق رغبة” كما شاع عن فرويد خطأ وصوابا، وإنما أعنى بالغائية هنا تحقيق برمجة تنظيمية مكملة لغائية اليقظة فى تجليات الوجود. (دليل الطالب الذكى (للكاتب) الجزء الأول (1982) القاهرة ص94- 99 دار الغد للثقافة والنشر).
[8]– أستعمل كلمة الوعى هنا ـ مبدئيا ـ بمعنى تركيبى محدد; فهى تعنى أية: “منظومة بنيوية ، متناغمة فى مستوى بذاته، تصبغ كل نشاط المخ وحركية محتوياته بصبغتها وقوانينها على كل المستويات ، كل فى موقعه من تطور ودورات النشاط، وتبادل التنظيم”، وعلى ذلك فكلمة الوعى هنا لا تشير بالضرورة إلى إدراك معرفى أو حسى فى حالة اليقظة، فثمّ “وعى النوم” و “وعى الحلم” و”وعى اليقظة”. من هذا المنطلق أنبه إلى رفضى للاستعمال الشائع لكلمات مثل اللاوعى، واللاشعور (انظر للمؤلف دليل الطالب الذكي- الجزء الأول ص 235) هذا وقد تطور عندى مفهوم الوعى بعد ذلك حتى عدلت عن الاكتفاء بأن يكون الوعى بمثابة وساد للوظائف الأخرى، ذلك أنه ليس أرضية لمحتوى غيره، بقدر ماهو هو متداخل فاعل طول الوقت على مستويات متعددة متداخلة ومتبادلة ومتجالة معا.
[9]– ستتكرر كلمة “بسط” “Unfolding” طوال هذه الدراسة، لذلك يلزم أن يتضح معناها وتتبين استعمالاتها بشكل كاف ومحدد منذ البداية، حيث أعنى بها “الطور النشط”ُ فى دورة الإيقاعية الحيوية لحركية المخ، وهو الطور الذى تُـَقـلْـقَـل فيه المعلومات المدخلة والسابقة التى لم يكتمل تمثيلها بوجه خاص، وذلك بغية استكمال تنظيمها وتناغمها واستقرارها حتى المواءمة الولافية والتمثيل”. إن نشاط المخ يتراوح بين طورين (آخذين حركة القلب كنموذج قياسى): طور التمدد Diastole، حيث تكون العملية التحصيلية هى الغالبة (وهو مايقابل طور ملء عضلة القلب بالدم) ثم طور الاندفاعية Systole، وهو مايقابل انقباض عضلة القلب لدفع محتوى القلب إلى الدورة الدموية فى سائر أنحاء الجسد. (تعبير “ما يقابل” لا يعنى مثل) لكننا إذا قبلنا مضطرين فكرة التمدد مجازيا فى نوابية المخ ، فإن كلمة الاندفاعية لاتصلح حتى أن تكون مجازا. لذلك سوف نستعمل هنا كلمة بسط Unfolding، لتفيد التنشيط الدورى، وفى الوقت نفسه تفيد فكرة “الاستعادة”، بمعنى أن يستعيد نشاطٌ ما أطواره السابقة بالترتيب نفسه، ليضيف إليها ما لم يكتمل فى الطور الحالى بولاف جديد، وهو ما كان الطور السابق يعده به (تطوريا) . إن هذا هو ما يقول به، ما سمى بالقانون الحيوي Biogenic Law،(نظرية الاستعادة Recapitulation Theory) من حيث إن الأنتونجينيا (تاريخ تطور الفرد) تعيد الفيلوجينيا (تاريخ تطور النوع)، ثم التطبيقات القياسية اللاحقة على وحدات أصغر فأصغر، (الماكروجينيا – الميكروجينيا)، وفى المرض تجرى الاستعادة أيضا ولكنها تتحول إلى نبضة مجهضة أو متفجرة (هامش 3).
[10]– يستعمل لفظ “الجنون” عند معظم الذين يكتبون فى النقد أو الإبداع استعمالا فضفاضا لا يجوز، وخاصة بعد تعدد تصنيفات الذهان (الجنون Psychosis) إلى عشرات الأنواع، لذلك أحدد من ناحيتى أن الجنون العضوى التشريحى المباشر مستبعد فى هذه الدراسة (مثل الخرف أو الجنون الناتج عن أورام فى الدماغ..إلخ). إن ما أعتبره الجنون الأم أو الجنون الأصل (إن صح هذا التعبير) الذى يرد فى هذا الفصل، وفى كل الفصول هو الفصام بكل مراحله، وبالذات فى شكله التفسخى Disorganized وأحيانا التدهورى Deteriorated مضافا إليه – أحيانا– بعض أنواع الجنون الأخرى التى ليست سوى محاولة بديلة للحيلولة دون التمادى فى التفسخ والتدهور بأشكال أقل إمراضية (وإن كانت أخطر أحيانا) من العملية الفصامية(دراسة فى علم السيكوباثولوجى هـ3) وتحديد الجنون فى هذا السياق الحالى بأنه “الجنون النشط” يشير إلى نوع الجنون ذى الأعراض الإيجابية مثل: الهلاوس والضلالات والتفسخ النشط، والهياج، فى مقابل الجنون المندمل أو السلبى الذى هو أقرب إلى الانسحاب والهمود والتبلد والتخثر، أو لتقريب الأمر للقارئ: فإن الجنون النشط هو أقرب إلى مرحلة إضرام الحريق، أما الجنون المندمل فهو أقرب إلى الرماد المتخلف بعد الحريق ، كما أن العملية الذاهانية المؤدية إلى التفسخ الفصامى هى المراد بها الجنون أساسا، وهى العملية التى تصل فى نهايتها الأخطر إلى نوع من التدهور السلبى الذهانى أيضا، لكنه أبعد ما يكون عما يراد به حين نستعمل لفظ الجنون فى هذه الدراسة بوجه خاص.
[11] – أنظر مثلا: يحيى عبدالدايم: تيار الوعى والرواية العربية المعاصرة، “فصول”، المجلد الثانى، العدد الثانى 1982 ص 158، ثم انظر تعبير أدونيس “إنه يرفع الواقع إلى مستوى الحلم”، أو “فالأحداث التى تجرى فى هذا المسرح تشبه الأحداث التى تجرى فى الحلم”، ” وهى لذلك كأحداث الحلم” (ص187) ثم “بل هو الحلم”، “الحلم هو ذلك الزمن الآخر الذى يختلف عن الزمن ” (ص202) “أدونيس زمن الشعر”، دار العودة، 1979.
ومؤخرا (2005) يمثل ما يصدره نجيب محفوظ تباعا بعنوان “أحلام فترة النقاهة” نقلة مركزة متواصلة تسمح بتناول هذه الظاهرة بشكل تفصيلى، وبرغم أن نجيب محفوظ لجأ إلى هذا الشكل مضطرا (مع الاعتراف بأن إرهاصاته ظهرت فى أعمال سبقت، وخاصة أصداء السيرة الذاتية)، إلى أن طبيعة هذا الإبداع الأخير تؤيد الأطروحة الحالية بشكل يكاد مباشرا ، برغم أن معالمها (معالم الأطروحة) قد ظهرت فى إنتاج محفوظ قبل عقدين على الاقل من توالى صدور أحلام فترة النقاهة، وسوف نعود لذلك لا حقا فى المتن، وفى الملحق، وفى الهوامش على حد سواء.
[12] – سيجموند فرويد: تفسير الأحلام. ترجمة مصطفى صفوان (1981)، القاهرة، دار المعارف
[13] – يقول فرويد “… فإذا رويت أحلامى. لم يكن مفر من أن أطلع نظرات الغرباء على أكثر مما كنت أود أطلاعهم عليه….. (ثم يضيف).. ومما يـلزم فى العادة كاتبا هو من رجال العلم وليس بشاعر” (تفسير الأحلام-الترجمة العربية-ص31).
هنا أود أن أعلن من جانبى رأيا مناقضا لما يقوله فرويد: إن عطاء فرويد شاعرا هو العطاء الذى بقى، وأن بعض من يتصور أنه يعلى من قدره إذ ينفى عنه هذه الصفة (صفة الشاعر) قد يكون سائرا فى الاتجاه العكسى تماما، حتى لو استلهم هذا النفى من تأكيد فرويد نفسه.وقد ذهب “جاك لاكان” إلى مثل هذا الرأى بشكل ما حين قرأ فرويد مبدعا كنص بذاته أكثر منه عالما فى التحليل النفسى.
[14] – التفرد، هى الكلمة الشائعة ترجمة لمصطلح يونج Individuation، وأنا لا أرتاح لهذه الترجمة، بل إن المفهوم الأصلى عند يونج لا يشير إلى التفرد بمعنى تحقيق الذات بقدر ما يوحى إلى أن الرحلة تتخطى هذه الفردية البدئية إلى “عملية التكامل الحتمي للذات بمستوياتها معا فى تشكل مستمر”، وإلى أن نجد حلا فى ترجمة أصلح، وجب التنويه دعوة للاجتهاد.
[15] – فكرة علاقة الأحلام بالدورة البيولوجية قديمة قبل اكتشاف رسام المخ أصلا، وقد نبه إليها فرويد حين ذكر أن فيلسوفا شابا هو “هـ. سفوبودا” حاول أن يستخدم فكرة الدورة البيولوجية التى اكتشفها فليس Fliess (صديق فرويد).. وقال بأن المادة التى يتألف منها الحلم ينبغى تعليلها باجتماع جميع الذكريات التى تختتم إحدى”الدورات البيولوجية”.وبرغم بساطة الاقتراح فالفكرة= =لابد أن تعطى حق السبق بعد الاكتشافات الحديثة التى ثبتت برسام المخ الهربائى ورصده ما يسمى “حركة العين السريعة” أثناء النوم النقيضى الذى هو النوم الحالم. وقد استهان فرويد بهذه الفكرة فى حينها، بل خاف منها على الأحلام وعلى نظريته حيث قال “… ولو صحت آراؤه (فرويد يقصد آراء الفيلسوف سفوبودا) لنفقـت أهمية الأحلام سريعا”، بل إن فرويد قد فرح حين تراجع سفوبودا عن فكرته فقال: إنه (الفيلسوف) قد أرسل يعلنه فيها أنه لم يعد يأخذ نظريته هذه مأخذ الجد (تفسير الأحلام فرويد، الترجمة ص 125).
على أن مخاوف فرويد وتراجع سفوبودا لا تلزمنا بالتراجع معهما، ذلك أننا بمراجعة النظريات الأقدم التى أوردها فرويد وفندها يمكن أن نجد كثيرا منها قد عاد إلى الظهور بشكل يحفظ له – بالرغم منه – حق السبق، مثل ما أورده فرويد عن: نظرية اليقظة الجزئية، أو الاستيقاظ الفارقى (تفسير الأحلام ص 109-110). ويهمنا هنا أن ننبه على مبدأ عام يسمح باستقبال أفضل لما يضيفه المبدعون، وهو أن تراجع صاحب النظرية التى لا تملك وسائل إثباتها فى حينها، لاينفى صحة النظرية التى أعلنت دون دليل آنذاك، وإنما قد يعنى دعوة لبحث متواصل لعلنا نجد لاحقا أدوات ومناهج إثباتها، وهذا ماثبت فى كثير من الأحيان حتى فيما يتعلق بأول عمل لفرويد الذى تنكر له فرويد شخصيا ورفض نشره باسمه حتى أنه لم ينشر إلا بعد وفاته، وهو ما يسمى “المشروع” The Project، وهو ما ثبت صحة كثير من أفكاره بعد امتلاك وسائل البحث النيوروفسيولوجية الأحدث وخاصة التصوير المقطعى التشريحى والوظيفي C.T. , SPECT & PECT.. etc.
[16] – يقصد فرويد بتعبير أن الحلم حارس للنوم: أن الحلم يحدث ليستوعب المؤثر القادم من البيئة الخارجية مباشرة، والذى يهدد النائم بالاستيقاظ، فيتخلق الحلم فورا ليحتوى المنبه فى أقصوصة أو رؤية فلا يستيقظ النائم بفضل أنه يحلم، وهذا قد يحدث فعلا، ولكنا نتحفظ على التفسير الفرويدى، بمعنى أن حالة النشاط الحالم هى سابقة ولاحقة للمؤثر الخارجى الذى قد يثير ترابطات خاصة متعلقة بنوعه، وكذلك بمعنى أن تأليف الحلم أثناء الاستيقاظ فى وجود هذا المؤثر يحمل فرصة أن يحتويه لا أن يكون نتيجة له (انظر بعد).
[17]– Foulkes, D. (1978)، A Grammar of Dreams, New York Basic Books, Inc. (P3-18)
انظر أيضا يحيى الرخاوى (هامش 2) : “دراسة فى علم السيكوباثولوجي” خاصة ص637، 638.
[18] – Psychobiological
[19]– من أهم مايساعد فى فهم ما ترمى إليه هذه الدراسة هو تصور الوحدة الزمنية الأصغر وقدرتها على احتواء تأليف مكثف، يبدو ممتدا عند روايته. ولتوضيح ذلك أورد ملاحظتين: الأولى حلم اقتطفه فرويد (حلم مورى 1878) (تفسير الأحلام ص64، 65) “.. كان مريضا يلزم الفراش وإلى جواره أمه، فرأى فيما يرى النائم أن الوقت هو حكم الإرهاب فى عهد الثورة (الفرنسية)، وجعل يشهد بعض مناظر الموت المروعة، ثم دعى للمثول أمام المحكمة، وهناك رأى روبسبير، ومارا، وفوكييه-تانفيل وسائر الأبطال المفجعين لهذا العهد الرهيب، وسأله هؤلاء الحساب. ثم بعد عدة من التفاصيل لم يعد يذكرها، أدين وسيق إلى ساحة الإعدام، يحيط به جمهور لا حصر له. وصعد مورى على المنصة وشده الجلاد إلى العارضة، وانقلبت هذه، وهوى نصل المقصلة، وأحس مورى برأسه ينفصل من جذعه، فاستيقظ فى رعب، فإذا هو يتبين أن رأس السرير قد سقط، فأصاب عموده الفقرى عند العنق، مثلما يفعل نصل المقصلة .
أوردت هذا الحلم لسبب غير السبب الذى أورده فرويد وهو يحاول الربط بين الحدث الخارجى ومحتوى الحلم. إن هذا الحلم يظهر مدى التناسب الظاهرى بين الحدث المسئول عن محتوى الحلم وبين القصة الممتدة كل هذا الزمن، بمعـنى أن سقوط رأس السرير لم يستغرق سوى ثانية، أو بضع ثوان فى حين أن الحلم كما حكى، استغرق كل ذلك الزمن، بما يدعم فكرة تناهى صغر زمن الحلم، وعدم ارتباطه بالزمن المحكى فى محتوى الحلم، فضلا عن ترجيح ما سيأتى به الفرض من أن الحلم قد تأليفه كله مع لحظة الاستيقاظ بسبب سقوط رأس السرير.
الملاحظة الثانية من خبرات شخصية أورد إحداها كمثال:
كنت أقود سيارتى ليلا فى طريق مصر-اسكندرية الزراعى، وقبل كوبرى قليوب العلوى بعشرات الأمتار رأيـتنى وأنا أخطب فى جمع من الناس، وأنادى أخا لى، وأتوعد بعض المارقين، وأسمع أغنية سخيفة ثم أستيقظ فزعا-لأنى كنت مازلت أقود السيارة -وأجد السيارة لاتزال تسير مستقيمة وبسرعة، وأنظر إلى جارى الممتلئ يقظة فلا أجده قد لاحظ شيئا، فأعلم أنى حلمت كل= = هذه الأحداث فى جزء من الثانية، أو أقل أو أكثر قليلا، فأحكى الحلم لجارى فلا يكاد يصدق. أوردت هذا المثال الشخصى لتأكيد زمن الحلم المتناهى فى الصغر من ناحية، وللإشارة إلى عدم ضرورة علاقة محتوى الحلم بالأحداث الخارجية من جهة أخرى. ويمكن ربط هذه الفكرة المزعجة (تناهى صغر لحظة الحلم/ الإبداع) بمفاهيم كثيرة شائعة وصعبة الاستيعاب، مثل مفهوم الميكروجينى (الذى اقتطفه أريتى من فرنر)، و”لحظة” الإلهام عند المبدعين، وربما أصل به لمفهوم “الوثبة” فى إبداع الشعر… إلخ. مما لا مجال لتفصيله هنا، [راجع أيضا هامش (5) بالنسبة لوحدة الزمن]
فى عمل لاحق لى “ترحالات” (مزيج من أدب الرحلات والسيرة الذاتية) مررت بتجربة مشابهة أتيتها فى هذا العمل الجزء الثالث من الترحالات الجزء الثالث القاهرة 2000(ص202) فتأكدت أن الخبرة الأولى فى الطريق الزراعى لم تكن مجرد مصادفة أو تصورا من جانبى.
[20]– كنت قد وضعت اختصارات عربية لطورى النوم، أسوة بالاختصارات الإنجليزية، وهى نوم “حرعس” REM sleep= Rapid Eye Movement Sleep اختصار لـ “حركة العين السريعة”، ثم نوم “بدون حرعس” NREM sleep اختصار الـ “النوم بدون حركة العين السريعة” REM = Non Rapid Eye Movement. لكننى تراجعت عن استعمال هذه الاختصارات فى هذه الدراسة على الرغم من تفضيلى لها، ذلك أن د. أحمد مستجير قد نحت مؤخرا كلمة نوم “الريم” نسبة إلى الحروف الإنجليزية، REM وهى كلمة أسهل مع أن بها – من وجهة نظرى – تغريبا نحن فى غنى عنه، ولكنها أسهل نطقا فتصبح أيسر استعمالا.
[21]– تستعمل كلمتى: المخ ـ الدماغ بالتبادل كمؤشر دال على التركيبة البشرية الرائدة، بيولوجيا، إلا أنها ليست بديلة عن كلمات: الذات ـ الوجود ـ التركيب، باعتبار أن لغة هذا المقال تركز على كلية الكيان البشرى، وإن كان المنطلق المبدئى بيولوجيا كما اسلفنا.
[22] – فى محاولة لإدراك علاقة مستوى اليقظة بتأليف الحلم، فى أطوار مختلفة من عملية الاستيقاظ. قمت بمحاولة تسجيل ذاتى فى أثناء كتابة هذا المقال، كما تابعت بعد ذلك خطوات بحث فى الأحلام كرسالة دكتوراة قام بها د. سيد حفظى وكنت المشرف عليها، وقد حاولنا تسجيل الأحلام فى أثناء الاستيقاظ، وبخاصة إذا عاد الحالم إلى النوم، وأيضا حاولنا التسجيل الفورى بالكتابة، والتسجيل الفورى صوتيا عقب الاستيقاظ بفترة ما، وكذلك التسجيل بالرواية لآخر، ثم الاستعادة…إلا أن نتائج كل هذاه المحاولات لم يقربنى أكثر من فروض هذا البحث ربما لاختلاف الوحدة الزمنية