دورية نجيب محفوظ
العدد الثانى: ديسمبر 2009
المجلس الأعلى للثقافة
الأسطورة الذاتية: بين سعى كويلهو، وكدْح محفوظ
ذات يوم (أو ذات ليلة) تطرق الحديث معه إلى مسألة الاقتباس، حين تتكرر نفس “التيمة” من أكثر من مبدع، حتى يختلط الأمر على العامة، وأحيانا على بعض النقاد، أن ثم اقتباسا، أو أكثر من ذلك، قد قام به مبدع سطوا على إبداع سابق. لست متأكدا إن كان هذا الحديث قد جرى ونحن نناقش مئذنة جلال (صاحب الجلالة) فى ملحمة الحرافيش، أم كان يدور حول مشاكل أخرى، أو شبهات أخرى، قال لى شيخى بهدوء ما معناه: إن هذه قضية زائفة غالبا، حيث أنه يمكن أن يوجز كل الإبداع الروائى فى حكاية واحدة فى بضع كلمات، وحين يتناولها المبدع، فإنه يخلّقها من جديد بتشكيل آخر، وإيقاع آخر، بنبض آخر، وحين بدا له أننى لم أفهم بدرجة كافية، أردف ما معناه: ماذا فى الدنيا يمكن أن يحدث، لم يحدث قبلا!!: واحد أحب واحدة، فخانته أو لم تخنه، أو خانها هو، فصبرت، أو انتقمت، أو هجرت وتربصت، أو كادت تفعل أيا من ذلك، فتراجع أو هاجر هو،..وخلاص، هات بعد ذلك عشرين أو ما شئت من مبدعين، وانظر كيف سيتناولون هذه الحكاية نفسها، كل بطريقته، وسوف تجد أنه لم يشبه أحدهم الآخر لو كانوا مبدعين بحق، (هذا ما وصلنى مما قال، وليس بحروفه).
لا أذكر ماذا كان موقفى تحديدا، يبدو أننى لم أوافق بسهولة، إلا أننى تذكرت كيف أن مرضاى، مهما اتفق التشخيص، وتوحدت الأسباب، وتماثلت الأعراض، يستحيل أن يشبه أى منهم أى آخر من كل ملايين المرضى المتماثلين فى التشخيص، قلت فى نفسى: كيف غاب عنى هذا والمريض مبدع فاشل أجهض إبداعه بانسحابه وهزيمته، فكيف أتصور أن المبدع الناجح هو أقل قدرة على أن يخلق من التماثل ما هو أصيل جدا، بإبداعه المتفرد جدا؟
هكذا تعلمت من شيخى بعد أن دهشت، وبعد أن تذكرت، وبعد أن انتبهت، ففهمت ما سمح لى إدراكى أن أفهمه
ذات مرة أخرى: قلت له: “يبدو أن المبدع لا يبدع إلا ذاته” فقال لى ما معناه” هذا صحيح تقريبا، لكنه لا يكون صحيحا فعلا إلا إذا تذكرنا أن المبدع لا يعرف ذلك ولا يقصده تماما،، فهو يكتشف نفسه، ويكشف عنها من خلال إبداعه، أى حالة كونه يبدع فعلا، أى أنه لا يرصد ذاته أو يصورها بل يتعرف عليها وهى تنطلق منه”، ثم أضاف ما معناه: إن الذى يصور نفسه تماما هو لا يبدع ذاته، وإنما يحكى شخصه، ومثل هذا الشخص لا يكتب إلا عملا واحدا، لأنه شخصٌ واحد، وقد يكون هذا العمل صادقا تماما، وقد يكون جميلا وأصيلا، لكنه لا يستطيع أن يكتبه مرتين، ولنفس السبب هو قد لا يستطيع أن يكتب غيره.
فهمت أكثر، وقلت فى نفسى: هذا هو.
عاودنى سؤال آخر لم أطرحه عليه وأنا أعد الأطروحة الحالية، سألت نفسى هذه المرة: فماذا عن المبدع الذى نستنتج من مجموع إبداعه، أنه لم يقل، ولا يقول، إلا جملة واحدة مفيدة، هى هى، فيبدو للقارئ المتعجل، أو الناقد السطحى، أنه يكرر نفسه؟ وهل يا ترى ثَمَّ فرق بين شخص المبدع وذاته، وقضيته الوجودية المحورية، درى بها أم لم يدرِ؟
ثم خطر لى تساؤل له علاقة بكل هذا يقول: فماذا عن “الأسطورة الذاتية” وأين تقع بين كل هذا؟
وهل ثمَّ فرق بين تخليق الذات، والبحث عن الذات، والبحث عن الأسطورة الذاتية أو معايشتها، وأخيرا تخليق الأسطورة الذاتيه وإطلاق مسيرتها؟ ثم صياغة كل ذلك، أو أىٍّ من ذلك: إبداعاً؟
من هنا بدأت فروض هذه الأطروحة
الأسطورة وإبداع الذات
الأسطورة – بصفة عامة- هى الأصل عندى (لا أتكلم عن الأسطورة الذاتية تخصيصا)، وعلى قدر خصومتى مع ما يسمى التاريخ، وأعنى به علم التاريخ، وأْكَدمة التاريخ (من أكاديمى)، وتسجيل التاريخ، واعتبارى أن كل ذلك – على أحسن الفروض – ليس إلا “وجهة نظر”، أقول على قدر ضخامة هذه الخصومة، اكتشفت تصالحى مع الأسطورة باعتبارها التاريخ الأكثر دقة، اعتبرتها الأصل الذى يمكن أن يهدينا إلى مسار التاريخ وأسراره بمصداقية أدق موضوعية.
كيف هذا وأنا لم أدرس أيا من الأساطير كما ينبغى، ولا حتى كما لا ينبغى؟
أرجع مرة أخرى إلى منهلى الأصلى، فأكتشف أننى أقرأ مرضاى، باعتبارهم “نصا بشريا“، تعرى حتى كشف عن “أسطورته الذاتية”، (وأحيانا عن اسطورة البشر، وما قبلهم) بشكل أو بآخر، المريض للأسف لا يستطيع أن يعيش أسطورتة الذاتية بإيجابية وهو فى نفس الوقت لا يستطيع أن يتنازل عن محاولة إعادة تشكيلها، فلا هو حققها، ولا هو تراجع عن المحاولة، فاختلطت الأمور عليه، فهو المرض (مما لا مجال للاستطراد إليه الآن).
هذا بالنسبة للمريض (العقلى بالذات = المجنون)، فماذا عن الشخص العادى؟
أعتقد أن أغلبهم – أغلبنا – تنازل عن أسطورته الذاتية، عن الاعتراف بها، فضلا عن العمل فيها، أو إعادة تشكيلها.
وماذا عن المبدع؟
وهل الإبداع الحق إلا النموذج الأحدث فالأحدث لإطلاق أسطورة المبدع الذاتية تشكيلا فى إبداعه، كلّ بالأداة التى يتقنها، إلى المدى الذى يستطيعه؟!!
كويلهو ومنبع خبراته فى روايتين:
ماهى حكاية “الأسطورة الذاتية” التى تكرر ذكرها عشرات المرات فى رواية باولو كويلهو “السيميائى” أو “الكيميائى” أو ساحر الصحراْء؟ ما علاقتها بالأسطورة عامة، وبالدين، وبالتطور، وبالسحر، وبالخرافة، وبالجنون، وبالإيمان، وبالله سبحانه؟
لماذا انتشرت رواية السيميائى التى تتناول البحث فى، وعن، “الأسطورة الذاتية” بهذا التواتر؟ انتشرت كل هذا الانتشار! بكل تلك اللغات؟ لا أظن أن السبب هو تميزها الأدبى الخاص، ولا بساطة الحكى مع ثراء الخيال. أين هى – بمقايس النقد التقليدية – من مائة عام من العزلة (جارثيا ماركيز) أو العطر (باتريك زوسكوند) أو ملحمة الحرافيش أو ابن فطومة أو كثير من أحلام النقاهة (محفوظ)؟
رجحتُ أن سبب انتشارها قد يرجع إلى أنها ظهرت فى وقت مناسب (من تطور الإنسان المعاصر، فى الغرب خاصة) لتعلن الاعتراف بوجود عمق خاص للوجود البشرى، يشغل مساحة أساسية من تركيبه، ومع ذلك يكاد العلم المؤسساتى، والفكر السلطوى، والمنطق الأرسطى وما شابه ينكرونه أو يصنفونه خرافة لا معنى لها، أو ردة دينية بدائية (خصوصية) ضارة غالبا.
الأسطورة تاريخا هى جزء جوهرى من تاريخ تطور الوعى البشرى، وقد قامت بدور رائع فى تسجيل وتشكيل مراحل هذا الوعى حتى وصل إلى ما هو عليه، إلى ما بعده، ثم كادت تنال جزاء سنمار بإهمالها أو إنكارها أو تشويهها. لن أعرج إلى تجلياتها طوليا. فلن أناقش – بشكل مباشر– علاقتها التاريخية بما نحن فيه الآن عامة، ولاعلاقتها بما آل إليه الدين خاصة، سوف أكتفى بوضع فرض يمكن من خلاله أن نقرأ كويلهو من موقعه الشخصى، ومن خلال روايته السيميائى معا، كما يمكن أن نفهم كدح محفوظ الإبداعى فى عمل مواز هو “رحلة ابن فطومة” وهو يحتوى أسطورته الذاتية يتمثل من خلالها رحلة البشرية إلى الوعى الكونى، فوجه الحق سبحانه وتعالى، وهى القيمة التى شغلت حيزا كبيرا جدا من إبداعه الفائق، وكأنها حكاية واحدة لها تجليات متعددة، رائعة متنوعة معا.
مدخل بيولوجى:
يحمل الإنسان تاريخه البيولوجى والمعرفى (أو إن شئت الدقة: البيولجى/المعرفى”) بشكل يستحيل إنكاره، ناهيك عن التنكر له، وهو لا يكون جديرا بهذا التاريخ إلا إذا تحمل مسؤوليته ليواصل انطلاقه. وصل الإنسان بعد رحلة طويلة من المعاناة، والقهر، والانتصار، والهزيمة، والفخر، والتحايل، والاستغلال، إلى موقع يسمح لوعيه أن يحيط بعدد من المتناقضات دون تناقض، وذلك فى عملية جدل متصل، لا يعى منها إلا بعض جوانبها بعض الوقت، وإذا كنت قد فضلت الأسطورة العامة كمصدر له مصداقية أكبر من علم التاريخ، فإننى أقرأ الكائن البشرى الفرد، المتمزق خاصة، باعتبار انه قد سجّل فى كل خلاياه (وليس فى خلايا مخه فحسب) تاريخ تطوره كله، ناهيك عن تاريخ تطوره إنسانا، ثم تاريخ نموه شخصا فريدا، وقد أتاحت لى مهنتى هذه الفرصة بوجه خاص حتى صرت أسمى علاجى مريضى “نقد النص البشرى” بمشاركة النص (المريض) شخصيا فى إعادة تشكيله (نقدا) علاجيا.
تناقض رائع:
يعيش الإنسان المعاصر تناقضا من أهم ما يميزه فعلا: ذلك أن إنسان اليوم هو شديد التفرد وهو يحاول أن يحقق نفسه مؤكدا أنه ذات مستقلة جدا، لها معالمها الفريدة التى ليس كمثلها أحد، ذات مستقلة عن العالم (وعن الآخر) وعن الكون من حيث المبدأ، مع السماح بالتفاعل على شرط أن يؤكد هذا التفاعل تفرده أكثر فأكثر إذْ يزيد من تعميق معالم ذات محدودة المعالم هى “هو”، وكأن كل فرد معاصر (خاصة فى الغرب) قد قرر أنه لكى يكون “ذاته” فلا بد أن يكون كونا مستقلا كاملا بلا نقصان، هذا من حيث المبدأ، يصاحب كل ذلك وتدعمه أوهام الحرية، وضلالات القدرة الفريدة، ومزاعم الاستقلال، وفى نفس الوقت يجد كل فرد نفسه أنه لا يمكن أن يكون إنسانا إلا بتفاعله مع آخر من نوعه، ومن ثم مع آخرين، إلى حركية وجوده فى شبكية وعى جماعته، وما بين الحرص على تفرده، وضرورة اندماجه فى جماعات، فثقافات، فى شبكة من العلاقات لا تنقصها درجة من الوعى، شبكة متداخلة ينسجها توجه البشر معا توجها ضاما: يترجح الانسان المعاصر اقترابا وابتعادا، رفضا وانتماء، رغبة وخوفا، مع احتمالات جدل متصاعد متجدد، يستوعب هذا التناقض الانسانى الرائع.
هذه المواجهة بين تأكيد التفرد إلى أقصاه، وبين حتمية التواصل فالامتداد إلى ما بعد مداه، هى- فى تقديرى- منبع (ومصب) ما يمكن أن يسمى “الأسطورة الذاتية” للكائن البشرى: من وجهة نظرى،
فكيف صورها كويلهو فى رحلة “الشاب”، (سنتياجو) وكيف قدمها محفوظ فى رحلة قنديل محمد العنابى: ابن فطومة؟
نبدأ بكويلهو:
كويلهو انتبه من واقع ثقافته إلى: كيف بالغ انسان عصره فى تعميق ما شاع تحت اسم “تحقيق الذات” (1) أو “تأكيد الذات” (2)، حتى تنامت فرديته على حساب انتمائه إلى “آخر” من نوعه على ناحية، اللهم إلا فى قبوله بالالتزام بتنظيمات اجتماعية سلوكية محكمة، والأهم أن هذه المبالغة فى التركيز على “تحقيق الذات، جاءت أيضا على حساب علاقته بالطبيعة والكون والمطلق بشكل أو بآخر، اهتم الإنسان المعاصر الغربى (خاصة) أكثر فأكثر بأن ينظم حياته من خلال القوانين والمواثيق ليؤكد حقه فيما أسماه حرية (وتوابعها وبدائلها وتزييفاتها) لكى يعيش كائنا اجتماعيا سياسيا فى حدود ما اتُّفق عليه من نظم معلنة مكتوبة، على أن يمارس “بقيته” بطريقة خاصة: بعضها سرى جدا، سواء فى الحلم أو بعض الخرافة أو بعض “الممارسة” الدينية المختارة، السرية أحيانا، والمؤلفة ذاتيا فى أحيان أخرى، لكن يبدو أنه تمادى فى تبرير وتدعيم هذه المناهج والأبجديات الممنطقة ظاهرا، والمعقلنة تعليلاً، التى تؤكد هذا الترجيح لجانب من وجوده على حساب الباقى، ليكن، فهذا جيد بشكل ما، يقوم بوظيفة ضرورية إلى حدٍّ ما، أما أن يصبح ذلك هو غاية المطاف ونهاية السعى لدرجة استبعاد التاريخ، وتسطيح العمق، وإهمال تنوع وسائل الاتصال فيما بين البشر، فهذا هو ما أدى إلى كثير من المضاعفات المعاصرة، فى صورة المعاناة أو الاغتراب أو المرض.
لكن يظل الإنسان إنسانا مهما انحاز “بندول” ترجيحاته إلى هذه الناحية أو تلك، ومن هنا تبدأ رحلة كل فرد على حدة فى جدل متجدد لحل هذه الإشكالة بين تحقيق وتأكيد الذات بما هى، كما هى، من ناحية، وبين حركية احتواء تاريخها، وإعادة تشكيلها متجددة منطلقة، من ناحية أخرى.
أين كويلهو (فى السيميائى بالذات) من كل ذلك؟
تسارع سعى المبدعين من البشر، كل فى مجاله، فى محاولة مراجعة المنهج وتطوير الإبداع أملا فى تجاوز خلاق إلى ما يمكن أن يحافظ على تنامى المسيرة البشرية، بدءا من اختراقات المنهج فى مجال العلم فى توجه نحو علم حقيقى أعمق وأشمل وأكثر انفتاحا، إلى تنشيط دور الشعر فى إحياء حركية اللغة وتخليق الوعى إلى غير ذلك، وكان من البديهى وجود ضحايا ومضاعفات. تظهر بعض هذه المضاعفات على المستوى الفردى فيما يسمى الجنون، وعلى المستوى السلطوى العولمى فى مجالات حروب الإبادة، وأشكال الإرهاب الفوقى والجماعاتى والرسمى، ثم على المستوى الأشمل فى تمادى الاغتراب وتهديد البيئة والانفصال عن الطبيعة واحتمال الانقراض.
قرأت كويلهو وروايتيه: “السيميائى”، و”فيرونيكا تقرر أن تموت”، من هذا المنطلق.
كويلهو – شخصاً – عاش الرعب من هذا التنميط والميكنة والإملاء الحرفى التى يفرضها علينا المجتمع المعاصر، فرفضها جميعا حتى جُـنَ مكررا ودخل (أو أدخل) مستشفى الأمراض العقلية ثلاث مرات، ثم إنه انضم إلى الهيبيز، فالسحرة، وخرج من كل هذا مبدعا متميزا بسيطا مجتهدا، أفرز إبداعات متواضعة، بغض النظر عن انتشارها، وحين أراد أن يسجل بعض خبراته تلك: هم بكتابة سيرته الذاتية لكنه لم يكملها ولم ينشرها (وحسنا فعل!!)، لكنه أثبت بعض آثارها أروع وأعمق وأبسط فى السيميائى، وبدرجة أقل فى: “فيرونيكا ” مع أن المتوقع كان العكس، رواية “فيرونيكا تقرر أن تموت” جرت أحداثها داخل مستشفى للأمراض العقلية، وهو له خبرة أكثر من مرة – بفضل مرضه- فى التواجد فى هذا الوسط بالذات، ومع ذلك جاءت رواية فيرونيكا أكثر سطحية لا أكثر بساطة.
على النقيض من ذلك، لم يحضر المرض ولا أعراض أى اضطراب نفسى فى السيميائى بشكل مباشر أبدا، كما أنه جهّل اسم البطل إلا فى أول صفحات الرواية وآخرها، فكان يتحدث عنه طول الوقت باسم “الشاب”، وكأنه قصد بذلك أن يخلع عنه صفته الشخصية المجسدة فى شخص بذاته له اسم محدد (اسم علم)، فهو إما يُحضره بضمير الغائب، أو بصفة “الشاب” طوال الرواية، ربما ليمثل “أى شاب” من هذه الثقافة المعنية.
الرواية تبدو صريحة من البداية باعتبارها بحثا عن الذات الحقيقية القابعة داخلنا، بعد أن تغطت بما ألبسها الأهل منذ الولادة، ثم بما غطتها قوانين المجتمع وقواعد نحوه وصرفه ولغته وقِيِمَهْ بعد ذلك. “البحث عن الذات” هو التعبير الشائع الذى يصف المحاولات “الاستبطانية” (3) لرؤية نفس الشخص من الداخل، وهو تعبير برغم شيوعه ليس من آليات النمو الطبيعى لأن به جرعة من “العقلنة”(4) تعطل بشكل أو بآخر حركية الخبرات النمائية الأعمق، يتبادل مع هذا التعبير تعبير آخر وهو “تحقيق الذات”، وهو يشير إلى عملية لاحقة أو مكملة للبحث عن الذات، لكنها أيضا ليست كافية للإحاطة بحركية جدل النمو تكاملا، كويلهو شخصيا حاول أن يفرق بين ثلاث مستويات: البحث عن الذات، والبحث عن الأسطورة الذاتية، ثم معايشتها، إلى أن هذه التفرقة وردت فى الحوار أكثر مما يمكن أن يستنتجه القارىء أو الناقد فى عموم السياق، حيث كان تركيز السرد يؤكد أن هذه الذات الداخلية الحقيقية هى الكنز الخاص الموعود به فى الرواية (وعند أى منا)، وهذا أيضا ماذهب إليه المترجم “بهاء طاهر”، وهو مبدع رائع، فى مقدمة الترجمة حيث ذكر بالنص:
“… السعى إلى تحقيق الحلم” الذى يساوى فهم وتحقيق الذات“
(التنصيص من عند المترجم، والخط التحتى من عندى)
الرحلة الممتدة التى واكبنا فيها الكاتب عبر الرواية كلها، والتى أُسقطت فى الخارج جغرافيا، لم تخدعنا أبدا، فهى لم تكن سوى رحلة إلى الداخل كما نبهنا توماس مان فى افتتاحية ثلاثية “ذات التوجه الأسطورى، يوسف وأخوته” وهو يقول:
“…عميق جدا بئر الماضى، ألا يحق لنا أن نسميه بلا قرار؟.. وكلما غصنا أعمق، توغل بحثنا، وكلما هبطنا فى العالم السفلى للماضى ازددنا تنقيبا وبحثا لنتبين أن الأساسات الأولى للإنسانية بتاريخها وثقافتها تنشكف على أنها فى ذاتها لا غور لها…”.
هذه النهاية التى اشار إليها توماس مان ليست هى النهاية المطلقة، فهى تتضمن دعوة إلى البدء من الصفر فعلا، فليس بعد الغوص فى التاريخ الأعمق لوجودنا حتى صفره، إلا البدء فى إعادة تشكيله،
رحلة “الشاب” فى السيميائى كانت بحثا فى الماضى بكل قوانينه السحرية، وقواعده الحُلمية، ومفاجآته الخارقة، لكن مع يقين باكتشاف كنز وراء كل هذا، هو الذات الحقيقية، وحتى لا أظلم كويلهو، فإن مجرد اختيار اسم السيميائى عنوانا هو دليل على أن المسألة عنده ليست مجرد “بحث” عن كنزٍ تنتهى عملية البحث بالعثور عليه فقط، حتى لو كان بداخلنا، وإنما يشير الاسم- فى أصل تعريفه، إلى السعى لتحويل المعادن الرخيصة (التافهة) إلى ذهب، وهو ما يقابل الدعوة إلى الانتباه إلى إمكانية تحويل ما نحمل بداخلنا من تاريخ بيولوجى نعتبره ثانويا أو تافها، إلى واقع قائم واعد قادر على أن يشارك فى الفعل، فهو ثروة حقيقية فينا ولنا،
جماع كل هذا هو فى واقع الأمر الأسطورة الذاتية لكل منا، إذن فقد وُفق كويلهو فى استعمال عنوان “السيميائى” أكثر من توفيقه فى التركيز على البحث عن “كنز مخبوء”، وربما فكرة “البحث” لا التخليق هى التى جذبت نظر المترجم القدير حتى قال فى مقدمته:
“… هذه المرة نحن بالفعل فى رحلة بحث عن كنز حقيقى قيل إنه مخبوء فى الصحراء… ” … “وكلمة الكنز هى المدخل الصحيح لرؤية السيميائى“
(الخط الاسفل من عندى)
إشارة كويلهو، فى الحوار، وليس فى مجمل السياق، إلى أن المسألة هى معايشة للأسطورة الذاتية وليست بحثا عنها لم تكفِنِى لتوضيح الفرق، لأن إعادة تشكيل الذات ليست مجرد معايشة الأسطورة الذاتية بقدر ما هى “تخليق لها”، ثم إن كويلهو قد انتهت معايشته للأسطورة الذاتية “للشاب” عند الفرحة باكتشافها، وقبولها، ومن ثم القدره على تحويل ذواته (مستويات وعيه، أعماق تاريخه) المنسية بلا قيمه، إلى كنز من الذهب واللآلىء النادرة، وهذا يتفق تماما مع ثقافة كويلهو، ورسالة روايتة، وهو أمرٌُ جيد على أية حال.
نقلة إلى ابن فطومة
الشاب عند كويلهو بدأ رحلته بحثا عن بديل لما نشأ فيه وفرض عليه من حياة دراسية راتبة، ومستقبل تقليدى، انطلق، مجذوبا بداخلٍ، أكثر ثراء وأجمل وعدًا، يناديه، مدعوما من خارجه بتنويعات مختلفة من السماح والدعم والقبول، ساعيا إلى تحقيق ذاته بكل مستوياتها ما أمكن ذلك. لا أنكر أن تحقيق ذات الشاب لم يقتصر على تأكيد ما هو، ولا على البحث عن داخله فردا، فكان به قدر ليس يسيرا من السعى إلى المعرفة
“… كان يحلم منذ صباه الباكر بأن يعرف العالم”..
لكن ما بلغنى هو أن هذا السعى لمعرفة العالم كان يتوقف عند معرفة تصب فى “معرفة الذات” = تأكيداً للذات، فهو لا يتطور إلى التعبير الأحدث “امتداد الذات” الذى تجاوز به “سلفانو أريتى” (5) مفهوم أبراهام ماسلو (6) (7)يكمل الشاب فى نفس الفقرة:
“…بأن يعرف العالم، كان ذلك فى نظره شيئا أهم بكثير من معرفة الرب”
وهو بذلك يحدد غاية ما تسمح به غالبية من ينتمون إلى ثقافته، وهو أمر لا يعيبه بداهة، محفوظ تجاوز فى ابن فطومة مستوى تحقيق الذات إلى “امتدادها”، انطلاقا أيضا من ثقافته، ملبوسا بقضيته –قضيتنا- الجوهرية، محفوظ منغرس طول الوقت فى إعادة اكتشاف رحلة الإنسان فى امتداد وجوده عبر تاريخه الحيوى والبشرى وقد اختصر وتركز وتمثل فى وجوده الفردى إلى الوعى المطلق، نحو وجه الحق سبحانة وتعالى، الحق الواقعى البعيد القريب الواعد طول الوقت،
يبدأ قنديل محمد العنابى (ابن فطومه) من واقعه المصرى المسلم البسيط الذى تجسد لنا من أول صفحات الرواية، وهو نموذج لأى حى تجارى فى مدينة مصرية متوسطة، يعيش فيها تاجر ميسور، يتزوج للمرة الثانية من جميلة صغيرة، وينجب منها إبنا، يُرفض من إخوته الأكبر غير الأشقاء، حتى ينسبونه إلى أمه، بتسميته باسم “ابن فطومة” استبعادا، أو نبذاً، ثم يتطور بنا الحكى، كما اعتدنا من محفوظ، لنصحبه فى رحلة إعادة كتابة تاريخ الإنسان (أو الإنسانية)، بحيث لا يتوقف لا عند تحقيق الذات، ولا عند معرفة العالم، بل يمتد الى ما يريد محفوظ أن يرشدنا إليه، حالة كونه هو شخصيا يحاول ذلك فى إبداعه أساسا، وفى حياته غالبا، هذا هو ما دأب عليه محفوظ المرة تلو الأخرى بكل التشكيلات الممكنة والأدوات المتاحة
إعادة كتابة التاريخ بالتشكيلات الإبداعية المعاصرة هى لعبة محفوظ المفضلة وشغله الشاغل، وقضيته الدائمة، وقد حذقها حتى تجلت فى تجليات شديدة الاختلاف رغم واحدية القضية المحورية،
محفوظ لا يعيد كتابة التاريخ ليعرفنا به أو يحدّثه، أو حتى ليتعرف على نفسه من خلاله، وإنما هو يدعونا لاصطحابه حتى يوصلنا فى معظم محاولاته هذه إلى بوابة “الغيب” ليكمل كل منا مشواره “إليه”، “يأتيه” كل منا بنفسه “يوما ما” “فردًا” بما يتراءى له ويقدر عليه. حتى الجبلاوى بعد أن قتل فى أولاد حارتنا، ترك محفوظ لنا عرفه وهو يحاول إحياءه بشكل أو بآخر، بل إن ما وصلنى من ذلك هو دعوة لكل منا أن يحييه بطريقته وعلى مسئوليته.
الدافع إلى “رحلة ابن فطومة” لم يكن شخصيا أساسا فى محاولة البحث عن الذات أو تأكيد تحقيقها، أو حتى تحقيق أسطورته الذاتية، أو حتى للتعرف والاطلاع على ما هو مختلف كما هو الحال فى السيميائى، وإنما كان الدافع بشكل هو فتح ملف “المعرفة” التى تهدى، أو يأمل أن تهدى، إلى الطريق إلى “دار الجبل”، لا يوجد فى الرواية فصل مستقل بعنوان “دار الجبل”، مقارنة بسائر فصولها مثل: “دار المشرق” أو “دار الحلبة” أو “دار الغروب”، ومع ذلك فقد كان واضحا منذ البداية أن هذه المعرفة التى تحفز ابن فطومه لا تكتمل بتحقيق الأسطورة الذاتية مهما كانت هى الكنز الذى ليس كمثله شىء مثلما الحال عند كويلهو فى حالة سنتياجو، ولا هى تقتصر على معرفة العالم الواقعى، ولا هى تكتفى بإعادة اكتشاف التاريخ، وإنما هى خطوات إثر خطوات، وكشف ونقد ومخاطر نحو معرفة الطريق إلى دار الجبل (وليس بالضرورة الوصول إليها)، ثم إن قنديل لا يتوقف عند ذلك، بل يوظف هذه المعرفة المتنوعة الممتدة فى الاستفادة فى تصحيح أوضاع الناس، بدءًا بناسه عند عودته.
لم ينشغل قنديل (ابن فطومة) بنفسه أساساً، ولا بكنزه الداخلى يبحث عنه ليتحقق لو أنه وجده، ولا هو انشغل بالتفتيش فى جواهر أعماقه، هو لم يشد الرحال ليتعرف على أى من ذلك. وإنما كان يطلب المعرفة الهادية الموجِّهه إلى دار الجبل، حتى يتمكن من أن يرجع ليصحح ناسه (والناس) ما أمكن ذلك، بدا ذلك واضحا منذ البداية (ص 19)
نقرأ هذا الحوار مع أمه: فى حضور استاذه، شيخه،
ونظرت إلى استاذى مليا وقلت:
– سأزور المشرق والحيرة والحلبة .. ولكنى لن أتوقف كما توقفت (أنتَ) بسبب الحرب الأهلية التى قامت فى الأمان، سأزور الأمان والغروب، و”دار الجبل”،
ثم يردف:
“.. أريد أن اعرف، وأن أرجع إلى وطنى المريض بالدواء الشافى”
المعرفة عند قنديل لها وظيفتها الفاعلة، هى معرفة مطلقة وفى نفس الوقت هى متوجهة امتدادا نحو تحقيق أسطورة ليست ذاتية تماما، هى أسطورة عامة مطلقة، انطلاقا من ذاته “إقرأ”، قنديل (ابن فطومة) لم يكن فردا يبحث عن ذاته ليحققها إلا بقدر ما تمثل هذه الذات حضور “كل شىء” فى كيان فردى: هو جماع الحلم/الواقع فى فرد بذاته ممتدا إلى الناس (ناسه، ومن ثَمَّ عامة الناس) إلى رحاب المطلق.
يضيف قنديل مباشرة لنفسه:
…”واستحوذ علىّ الحلم وتلاشى الواقع، وتراءت دار الجبل لعين خيالى كنجم معشوق يعتلى عرشه وراء النجوم…”
ثم إنه يحدد بعد ذلك مباشرة معنى “الكدح” بقوله
“…فنضجت الرغبة الأبدية فى الرحلة على لهيب الألم الدائم”
أحاول منذ عشرات السّنين من خلال كل خبرتى الإكلينيكية ومسئوليتى التعليمية والتدريبية أن أوصل إلى زملائى وأبنائى وبناتى طالبى العلم وصبية الصنعة، أن أوصل أبعاد إيجابية هذه النوعية من “الألم الخلاّق”، أحاول ذلك بما تيسر لى من أبجدية الأعراض ولغة الطب النفسى الأحدث، فأعجز، ثم إنى أحاول أيضا أن أشرح فى مجالات أخرى معنى الكدح فى “كادح إلى ربك كدحا” فلا تسعفنى الألفاظ، ثم أفاجأ هنا شاكرا متعلِّما: كيف صاغها محفوظ شعرا محكما على لسان قنديل هكذا:
“…فنضجت الرغبة الأبدية فى الرحلة على لهيب الألم الدائم”
أليس هذا هو “الكدح” إليه “تحديدا”!!؟،
لا يستدرجنا التركيز على غاية الرحلة الأقصى أن ننسى أن دافعها كان حافزا شخصياً أيضا، كان إحباطا عاديا، واقعيا، مؤلما:
“خاننى الدين، خانتنى أمى، خانتنى حليمه”….
(حليمة خطيبته التى اختطفها منه، وتزوجها غصبا، الحاجب الثالث للوالى)
كما كان ثَمَّ حافز عام فى نفس الوقت، فهو منذ البداية يرى ما حاق بناسه:
– ساءنى الظلم، والفقر، والجهل
منذ بدأت الرحلة والمعرفة تتأكد أنها الغاية والوسيلة معا، ليست فقط معرفة الذات، وإن لم تغفلها أبدا، ولكنها معرفة شاملة مسلسلة، آملة أن تؤدى إلى “طريق دار الجبل“. يبدو أن محفوظ شك فى قدره تلقينا تركيزه على أن يكشف لنا أن هدف رحلة حياتنا، وغاية البشرية، بعد المعرفة ومن خلالها هى الاهتداء إلى طريق دار الجبل، فراح يكرر فى كل دار (كل فصل) تقريبا أن هذه هى غايته الجوهرية، خذ مثلا :
فى “دار المشرق” يحدد لصاحب الفندق “فام” أنه (ص27):
– دار الجبل هى الهدف الأخير من رحلتى
فيرد “فام”
– وهى هدف الكثيرين ولكن أسباب الرزق حجزتنى عنها
إذن: فهى ليست الأسطورة الذاتية” بقدر ما هى الاسطورة البشرية.
وفى نفس “دار المشرق” يعود محفوظ يؤكد من خلال ابن فطومة (ص 39) هو يقول لابن “حمديس” قائد الرحلة ……
“مايهمنى حقا هو دار الجبل”
فى دار الحيرة، يدور حوار بين ابن فطومة والحكيم ديزنج، يكشف لنا عن صورة أخرى مزيفة لدار الجبل حين يعلن الحكيم ديزنج أن قوانين دار الحيرة (وهى تسمح بتعليق رؤوس المتمردين تتدلى من هامات الأعمدة معلقة بهدف الزجر والتأديب): يقول الحكيم ديزنج لابن فطومة فى يقين.
– “دار الحيرة هى دار الجبل” (ص69)
وهو يعنى بذلك أن الملك (الإله) يحقق أقصى ما يطمح إليه الإنسان من سعادة
ويتذكر ابن فطومة ما يجرى فى وطنه (دار الوحى) ويسأل أستاذه مغاغة الجبيلى عن بعد
“أيهما أسوأ يا مولاى، من يدعى الألوهية عن جهل أم من يطوع القرآن لخدمة أغراضه الشخصية؟
أوردت هذا المقتطف الطويل نسبيا لأبين أن دار الجبل التى شدت ابن فطومة منذ البداية يمكن أن يسرق اسمها دون حقيقتها أى مدع، أو جاهل، أو مزيّف ناكر لها بإطلاق، سواء بسوء استعمال اسم الحقيقة ليخدم عكسها، أم بتأله إنسانى تميزى طبقى مغرور ينفيها.
وفى “دار الحيرة”، أيضا بعد أن يستولى الحكيم ديزنج على “عروسَه،” زوجة ابن فطومة، بالقوة ويسجنه بتهمة ملفقة، يأتيه فى السجن ( ص 79)، صوت لم يحدد مصدره يدير معه حوارا يقول:
– لكن ثمة بلدان أفضل
هى نفسها لا تعرف الرضا
فيتساءل ابن فطومة عن ما يعرفه عن “دار الجبل”
فيرد الصوت:
– ليس أكثر مما يقال من أنها دار الكمال
وحين وصل إلى “دار الحلبة”، (حيث ترتع الحرية) وصف الشيخ حمادة نظامهم بأنه
– “نظام فريد لن يصادفه أبدا”
فيتساءل قنديل (ابن فطومة):
– ولا فى دار الجبل؟
فيؤكد الشيخ حمادة السبكى أنه لا يعرف شيئا عن نظام دار الجبل ولا يستطيع أن يقارنها بأى بنظام ليترك الباب مفتوحا إلى الغيب.
وفى حواره مع الحكيم مرهم فى دار الحلبة أيضا، يؤكد أن حبه للمعرفة، هو السبيل إلى تحقيق هدفه الأساسى. (ص 104)
– لست من علماء وطنى ولا فلاسفته، ولكنى محب للمعرفة ومن أجل ذلك قمت بهذه الرحلة
يرد عليه الحكيم (؟) (كما يتبادر لكل من يقدس المعرفة للمعرفة)
– فى هذا (فى طلب المعرفة) ما يكفى،
ثم يردف متعجبا.
– وما هدفك من الرحله؟
فيؤكد ابن فطومة من جديد أن هدفه هو
– زيارة دار الجبل
فينبهه الحكيم مرهم إلى احتمال شطحه، وأن العقل أغناهم عن مثل كل ذلك حين يؤكد “أن دار الحلبة، قد قدست العقل الذى أغناها، قائلا:
“.. من آمن بعقله أغناه عن كل شئ”
ولا نتصور أن سيطرة العقل وسجن الحواس هى ظاهرة حديثة لم تظهر إلا مع غرور وغطرسة نظام دار الحلبة، مرتع الحريه – بتعريفهم- فقد نتذكر حوار جرى فى دار المشرق (ص 47) مع كاهن القمر، حين احتج ابن فطومة على تأليههم القمر، وهو يؤكد أن إلهنا (إله ابن فطومة)
– … فوق العقل والحواس
فيرد الكاهن:
– إذن فهو لا شىء
وهذا يقابل تماما ما قاله الحكيم مرهم فى دار الحلبة
– من آمن بعقله أغناه عن كل شىء
دار الجبل ليست حلما طوبائيا:
قنديل يواصل حديثه مع الحكيم مرهم ليؤكد ما يفيد أن الوصول إلى دار الجبل ، وإمكان معرفة بعض أسرارها، هو وسيلة أيضا حين يقول:
– دار الجبل ليست بغايتى الأخيرة، ولكنى أرجو أن أرجع منها إلى وطنى بشئ يفيده،
وفى “دار الأمان” (حيث الضبط والربط البوليسى الشمولى) نكتشف أن دار الجبل لم تكن حلما طوبانيا، وأنه ليس مستعد بعد أن يكتشف بعدها عن الواقع، وأنها ليست إلا حلما، مستعد أن يبدد الحلم،
نقرأ كيف يجرى الحوار مع ساميه، زوجته الثانية (ص114)
وذكرتنى بمشروعى النائم، أيقظتنى من سبات الراحة والعسل، من الحب والأبوة والحضارة، وقلت كأنما لأستحث المستنيمة للواقع:
– سأكون أول من يكتب عن دار الجبل
فقالت ضاحكة:
– لعلك تجدها ابعد ما يكون عن الحلم
فقلت باصرار:
– إذن أكون أول من يبدد الحلم ..
ويجرى مثل ذلك فى حوار آخر حين راح فلوكه (حارسه، بل مُرَاقِبُه) يعاير ابن فطومة إذ سأله فلوكه بعد حوار قصير
– إذن لم كانت الرحلة إلى دار الجبل
فيقول قنديل:
– العلم نور
فيسخر منه فلوكه
– فهى رحلة إلى لا شىء
السجن الحسى فى دار المشرق، ثم الموقف العقلى الاختزالى فى دار الحلبة، يتكاملان، ليؤديا إلى الموقف العدمى الإنكارى هنا فى دار الأمان “فهى رحلة إلى لاشىء)
يتحدى محفوظ (ابن فطومة) ويواصل
وبعد (1)
خشيت منذ البداية أن أتعسف فأسارع بأن أربط بين اسم شيخه واستاذه الثائر الحر اليقظ ” الجبيلى” (مغاغة “الجبيلى”) وبين “الجبلاوى”، ثم بينهما وبين دار “الجبل”، (فمن يقبل ذلك الربط فله ذلك).
من البداية ومنذ أن أشار له شيخه الجبيلى أن زيارة دار الجبل كانت “أهم هدف لرحلته” هو (رحلة استاذه) يسأله قنديل وما “خطورة دار الجبل”، (ص10) فيرد الشيخ
– “نسمع عنها الكثير، كأنها معجزه البلاد، كأنها الكمال الذى ليس بعده كمال”…،
نلاحظ بعد ذلك أن أحداً فى الرواية لم ينجح أن يصل إلى “دار الجبل” فعلا ليكشف لنا عن وجهها الذى يبدو أنه ليس كمثله شىء، الوحيدة التى أُعلن نبأ وصولها فى نهاية الرواية(ص 154، علما بأن آخر صفحة هى 162) كانت “عروسة”، زوجته السابقة وأم أولاده الأُوَل، وهى التى اصبحت بوذية بزواجها من بوذى بعد انفصالها عنه ثم تحررها، أقول: كان وصول عروسه إلى دار الجبل مرتبطا أيضا “بالألم” (الكدح)
هكذا يخبره الشيخ الذى التقاه قرب نهاية الرحلة فى دار الغروب، والذى نفى أنه حاكم هذه الدار
“لا حاكم لهذه الدار، أنا مدرب الحائرين، (ص 150)
ثم أخبره بمصير “عروسة” قائلا:
– لقد سبقْتْ إلى دار الجبل!
فسأله فى دهشة
– وفقت إلى خوض التجربة؟
فقال باسما
– بفضل ما عانت من آلام (ص 154)
فهو “الكدح الذى يمكن أن يوّصل “إلى دار الجبل”، وليس مجرد “البحث” الذى يوصل إلى الكنز بالداخل، سواء كان تأكيداً اللذات، أو معايشة الأسطورة الذاتية، مثلما كان الحال عند الشاب فى السيميائى.
كنزٌ آخر: القوة الكامنة
بصريح العبارة، يعترف محفوظ بهذا الكنز الداخلى فى كل منا، لكنه ليس كنزا من ذهب الذات وجواهرها، تكتمل به راحة البال وتحقيق الذات، بل هو كنز من القوى الكامنة أغير به حالى، وأدفع به مسارى، وأصحح به مسار ناسى (فالناس)، قرب آخر حوار مع الكهل الذى التقاه فى آخر دار الغروب “كهلا أبيض الشعر مرسل اللحية، صامتا ناعسا أو غائبا متوحدا بلا قرين أو قرينة”، فى الجنة بلا ناس(148) دار هذا الحوار:
– كل شىء يتوقف عليهم، انى أدربهم بالغناء لتمهيد الطريق، ولكن عليهم أن يستخرجوا من ذواتهم القوى الكامنة فيها.
فقلت بحيرة:
– لم أسمع مثل هذا الكلام من قبل .
– هذا شأن كل جديد.
فسألته بضراعة:
– ما معنى أن استخرج من ذاتى القوى الكامنة فيها؟
– معناه أن فى كل إنسان كنوزا مطمورة عليه أن يكتشفها خاصة إذا أراد أن يزور دار الجبل.
كنز ابن فطومة هو قوى كامنة نكتشفها إذا أردنا أن نواصل إلى دار الجبل لتصب فى الناس وكنز الشاب فى السيميائى هو ذاته الداخلية الرافضة
البداية
محفوظ أنهى رحلة قنديل محمد العنابى (ابن فطومة) بعنوان يقول “البداية” (وليس النهاية) مقارنة بعنوان كويلهو “خاتمة” (الختام العادى لأى عمل!)
أوضح محفوظ فى هذه “البداية”: كيف أن قنديل يزمع أن يواصل رحلته إلى الجبل الآخر
“… ووقفنا أسفله ننظر إلى أعلاه فوجدناه يعلو على السحب ويتحدى الأشواق”.
هكذا تنتهى الرحلة “بأن تبدأ”.
ويتركنا محفوظ وكل واحد فينا يشعر أن عليه أن يواصل رحلته فردا، فى الممر الضيق الذى لا يتسع لناقة أو جمل،
إلا أن المسألة هكذا قد تبدو أنه أنهأها باعتبارها قضية فردية، حتى لو كانت هى البداية، وليست النهاية، وهذا ما أحاول أن أنفيه طول الوقت، فها هو قنديل لا يترك المسألة غامضة، فهو يعلن الخاطر الذى يجعل الوصول إلى دار الجبل، ومعرفة بعض أسرارها، هو من أجل الناس، بدءًا بناسه وليس نهاية المطاف، فها هو يتجه بدفتر رحلته:
“…. إلى صاحب القافلة ليسلمه إلى أمى أو إلى أمين درا الحكمة ففيه من المشاهد ما يستحق أن يعرف، بل فيه لمحات عن دار الجبل نفسها تبدد بعض مايخيم علينا من ظلمات، وتحرك الخيال لتصور ما لم يعرف منها بعد”.
(ربما مما ليس كمثله شىء).
وهل فعل محفوظ طوال حياته مبدعا غير ذلك؟
هكذا ينهى محفوظ رحلة ابن فطومة ويفتح الباب إلى المطلق المجهول الرائع اليقين
نهاية (بداية) رحلة ابن فطومة شديدة الدلالة: محفوظ بعد أن أوهمنا أنه “جبل” واحد، وأنه نهاية المطاف بعد “دار الغروب”، لوح لنا بجبل آخر أبعد، أروع وعدا، هكذا نكتشف أن الجبل الأول ليس إلا “جنة بلا ناس” برغم الناس اثنين اثنين (ص147) خطوة تمهيدية نحو الجبل الأبعد الواعد الغامض، ويمكن هنا أن نتذكر بحذر شديد “الجبلاوى فى أولاد حارتنا”، وغموضه، وبعده القريب.
يحكى ابن فطومة وصولهم الجبل الأول هكذا:
“غادرت القافلة دار الغروب، كان علينا أن نعبر الجبل صعودا وهبوطا، وواصلنا نسير بالنهار، ونعسكر بالليل، حتى بلغنا السطح بعد انقضاء ثلاثة أسابيع (سطح الجبل الأول)
وهكذا يوهمنا محفوظ أن هذا الجبل الأخضر (لاحظ الأخضر) هو نهاية نهاية المطاف وغاية المراد،
“كان سطحا غزير الأعشاب”، لكن الشيخ قال وهو يشير بيده “هاكم دار الجبل”
إذن فهذا الجبل الأقرب ليس هو دار الجبل، ولا هو نهاية المطاف!!
“كان يشير إلى جبل آخر يفصل بينه وبين الجبل الأخضر صحراء، وعلى سطحه قامت الدار عالية مترامية الأطراف هائلة القباب تنطق بالعظمة والسمو”
وإذا بصاحب القافلة يقول:
“هنا ينتهى سير القافلة يا سادة”.
ولا يصدق قنديل ويحتج قائلا:
“بل تصعد بنا حتى دار الجبل” (الحقيقى الأصلى)
هكذا يتركنا محفوظ دون أن يحكى حتى تصور قنديل عن الجبل الآخر الشاهق الذى “يعلو السحاب ويتحدى الأشواق”
يأمل قنديل فى نهاية “البداية” (النهائية) أن يصل دفتره (إبداع محفوظ) إلى من خَلَفَ وراءه، وبرغم أنه ليس فيه ما يشفى الغليل، بدرجة كافية عن هذا الجبل الأخر، لكن بالدفتر (مثل إبداع محفوظ) لمحات عن دار الجبل بما:
“يخيم عليها من ظلمات، وتحرك الخيال لتصور ما لم يعرف منها بعد”.
نهاية رواية السيميائى بعنوان “خاتمة” (مقارنة)
كويلهو ينهى رحلة الشاب مع السيمائى بعنوان محدد مألوف، هو “خاتمة” (تذكر أن عنوان محفوظ: “البداية” هو غير المألوف وله دلالته المقصودة) وهو يذكر الشاب أخيرا باسمه سنتياجو، ويجعله يحصل على الكنز من حفرة تحت الشجرة، وفى نفس موقع انطلاقه
“وبعد نصف ساعة اصطدم الجاروف بشىء صلب، وبعد ساعة كان أمامه صندوق مُلىء حتى حافته بعملات ذهبية أسبانية قديمة..، وكانت أحجار كريمة.. الخ”،
وكان قد تساءل الشاب عن لماذا أخفى عليه الساحر العجوز أن الكنز هو هنا، وليس هناك، فجعله يقوم بكل تلك الرحلة، وأجاب نفسه عن طريق الريح بلسان الساحر:
“لا.. فلو أننى أخبرتك لما رأيت الأهرام وهى آية فى الروعة”.
وهكذا يظهر الفرق بين تحقيق الذات، ومعايشة الأسطورة الذاتية، تحقيق الذات هو تأكيد لما هو أنت، وهو لا يحتاج إلى كل هذه الرحلة، يكفى أن تتعاظم قشرتك وتتحدد معالمك لتكون أنت ذاتك،
أما معايشة أسطورتك الذاتية فهو يحتاج إلى قبول “بقية” “ما هو أنت”، خلال رحلة الحياة كلها، حتى لو انتهيت إلى أن عثرت عليها هى هى، حيث انت كنزاً رائعا ممثلا لكل ما تصورته عنها.
“الحياة سخية حقا لمن يعيش أسطورته الذاتية، لا لمن يجد كنزه نفسه فى المحل “ذاته”
تتم رحلة السيميائى بقفلة خاتمة طيبة حين يعد فاطمة بعد أن نادته من خلال الريح، أنه
“ها أنذا يا فاطمة إنى قادم”
آخر جملة فى السيميائى، بدت لى هذه النهاية أكثر تواضعا من حلم الإنسان الممتد، وإن كانت نهاية طيبة ضرورية بشكل ما، خيل لى أن كويلهو – هكذا- قد وضع الصحراء، والغزو على الطرف الآخر من الرقة والحب، مع أن الصحراء والحرب والتهديد والموت والمخاطرة كانت من أهم معالم الطريق إلى “روح العالم”، ثم إن نداء فاطمة وتلبية الشاب له بدا نهاية مطاف “تحقيق الذات”، مقارنة بنداء دار الجبل الغامض الواعد لكل الناس بالموعود فردا فردا امتداد الذات إلى المطلق.
هل هذه النهاية الرقيقة الوديعة فى السيميائى هى ما يفسر نهاية المؤلف شخصيا: حيث عاد كويلهو إلى معتقداته الكاثوليكية التى آمن بها والداه” (بعد تجربة روحانية عميقة وحادة)؟ مما قد يفسر أيضا نشاطه مؤخرا فى تمويل رعايته للأطفال اللقطاء وكبار السن ..إلخ؟
كويلهو حقق للشاب “سنتياجو” غايته بمجرد أنه أعاده إلى قواعده ليحفر الأرض فيجد الكنز ثم يناديه صوت فاطمة عبر الريح فيعد بأن يلبى النداء
هذه الخاتمة الرقيقة مقبولة ومهمة، وهى ليست أقل وعداً بالحركة، لكنها على أية حال تركز على مكافأة للفرد الذى غامر لمعايشة أسطورته الذاتية فى حين أن نهاية رحلة أبن فطومة كانت جماعية واعدة، حتى بعد الوصول إلى دار الجبل، واعدة، بالعودة إلى ناسه يتعلمون من رحلة المعرفة والكشف والكدح مفتوحة النهاية.
ملاحظات أخيرة:
أولاً: التحذير من استهال نقد ابن فطومة بفك الرموز:
محفوظ بدأ رحلته إنطلاقا من الوطن إلى دار المشرق، لينتهى بها إلى ابتغاء وجه الحق تعالى دون تعيين أو اغتراب، مرورا بدور الحيرة، فالحلبة، فالأمان، فالغروب، الخوف هو أن يتعجل القارئ أو الناقد المستسهل ترجمة كل ذلك اختزالا إلى رموز تشير إلى مرحل ة الحياة البدائية، ثم دول شيوعية أو رأسمالية أو شمولية فالموت (الغروب) أو غير ذلك، مع أن كل هذا جائز، إلا إنه ليس من فخر المبدع أو من مهمته، أن يقدم لنا ما نعرف، برموز لا نعرفها ليؤكد ما نعرف (لهذا كان تحفظى ومازال على “أولاد حارتنا” برغم روعة التشكيل)
محفوظ هنا قدم لنا أسطورة قنديل العنابى الذاتية حالة كونها فى جدل مع كل الأنظمة المتاحة على أرض الواقع الآنى، وعبر التاريخ المعروف، بما فى ذلك الأساطير كتاريخ، لينتهى وهو يحفزنا أن يخلّق كل منا أسطورته الذاتية بكل ما هو متاح، توجها إلى ما بعدها مما لا يلغيها، بل يثريها، لتصب معرفتنا فى الناس، “إليه” معا.
ثانياً: نقد كويلهو استسهالا أيضا:
رأيت قبل أن أختم أطروحتى أن أشير إلى أننى رفضت بعض ما تواتر من تعليقات ساذجة فرحة بهذه الرواية لمجرد أنه ذكر أهرام الجيزة، أو جعل الفيوم مسرحا، وأن أنبه إلى سطحية الترحيب بنظرته “الموضوعية الحانية” لبعض سلوكيات المسلمين. هذا الموقف أو ذاك قد يمثل موقفا طيبا منه، لكنه لا يمثل الواقع كما جاء على لسان ابن فطومة “ديننا عظيم وحياتنا وثنية”، لا يمكن أن تقارن طبطبة كويلهو على الإسلام والمسلمين بما غاص إليه محفوظ فى عمق إشكالة التعامل مع قضية الوجود الممتد، بدءا بنقد قاس، ورؤية جريئة حازمة لواقعنا الذى وجدنا أنفسنا فيه مسلمين، مزيفين، ونحن نشوه الإسلام بادعائه غالبا.
كويلهو كان مثل سائح أمين يرانا (نحن المسلمين) بكرم واحترام، لكن محفوظ راح يضعنا – كمسلمين – فى بؤرة أسئلة الوجود مثلنا مثل كل الأديان واللا أديان، ربما لهذا انتهى كويلهوا – شخصيا- كاثوليكيا طيبا، وظل محفوظ حتى اقترب من المائة، يكدح إلى ربنا كدحا ليلاقيه، وكلاهما يدعونا أن نسعى إلى تحقيق أسطورتنا الذاتية: الأول “كويلهو”، لتتحقق ذواتنا بالعثور على كنزنا داخلنا فردا فردا، والثانى “محفوظ” لنحقق أسطورتنا الذاتية كجزء من الأسطورة الكونية الواعدة بما لا نعرف ومن ثم الدائمة الكدح إليه، لتصب فى ناسنا، فالناس.
محفوظ، فى ابن فطومة، تحمل مسئولية الحيرة الوجودية التى انتهى إليها الإنسان المعاصر، ولم يحلّها بهذا الحل السحرى الذى يفرح به معظم أهل الغرب “ديكورا” أكثر منه حلا جوهريا، فى حين نتمادى نحن فى سلبياته دون إيجابياته حتى الخرافة.
كويلهو – وهو ابن قومه – راح يقرص أذن ناسه حتى لا يذهب أى منهم بعيدا عن أسطورته الذاتية، مهما بدت سحرا أو لاحت غامضة. ربما لهذا انتشرت الرواية عندهم.
محفوظ فى ابن فطومة يدعو قومه (وكل الناس) أن يتحمل كل واحد منهم مسؤولية إعادة تخليق أسطورته الذاتية، من خلال احتواء تاريخه، واقعا آنيا، ومن ثم إطلاق طاقته الداخلية، فى سعى معرفى متصل، على كل المستويات، ومن خلال كل قنوات البحث، لينشط بذلك جدل التطور امتدادا إلى الوعى المطلق فوجه الحق سبحانه وتعالى.
ثالثاً: عود على بدء
نعود إلى السؤال الذى لاح منذ البداية: ماذا لو فشل أى منا فى تحقيق فتخليق أسطورته الذاتية؟
ماذا لو قبل الواحد منا هذا التحدى بقبول الاعتراف بوجود أسطورته الذاتية، ثم تخلت روح العالم عنه، ولم تتآمر لتحقيقها، كما يقول الشيخ للشاب عند كويلهو فى بداية الرواية الأمر الذى نفاه صاحب القافلة فى نهاية ابن فطومة وأن كل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه، وهو يعلن:
من هو قدر الكدح فليكدح، ومن يشق عليه السير فليرجع مع القافلة.
هكُذا يفتح محفوظ الأبواب لكل الاحتمالات بما فيها الرجوع كلية عن المحاولة: فعليه أن يرجع عن المحاولة من لا يريد أن يعبر إلى دار الجبل كما لاحت كيف لاحت، وغير ما لاحت!!،
ربما تجنب كويلهو ترك الباب الأخير مفتوحا على الغيب نظراً لخبرته الشخصية، فمن يمر بخبرة الجنون ثم يبرأ منها بطريقة فيها بعض الحلم، والمثالية والتسكين، يصبح غير مستعد لمجرد التفكير فى فشل معايشة محاولة تحقيق (لا تحقيق) أسطورته الذاتية.
محفوظ يترك لنا الباب مفتوحا لمواصلة السعى، مع أنه لا ضمان.
“إذ ترامت الصحراء أمانا بلا نهاية، ولم نكد نرى الجبل الآخر”.(ص160)
فشل تحقيق الأسطورة الذاتية، مع فشل التراجع عن المحاولة هو “المرض” فى أخطر صورة.
الجواب عاشه كويلهو شخصيا (مما سبقت الإشارة إليه عن مرضه) كما صوره فى روايته “فيرونيكا تقرر أن تموت”: إن إجهاض هذه المحاولة لتخليق (وليس للبحث عن، ولا تحقيق) الأسطورة الذاتية قد يترتب عليه ليس فقط العدول عنها، كما سمح محفوظ، وإنما التفسخ أمام زخم حركيتها المفسِّخة، أو الانسحاب بعيدا عن المواجهة، فهو الجنون.
لا أعرج إلى جنون كويلهو فأنا لا أعرف عنه شيئا، وهو لا يعيبه أصلا. أكتفى بالوقوف عند جنون فيرونيكا، حيث قدم كويلهو رؤيته للجنون باعتباره تعبيرا رائعا عن رفض النمطية والتكرار واللامعنى (مثل بداية الشاب سنتياجو أيضا)، وفى حين انهزمت جرونيكا، ولو مرحليا‘ فإن سنتياجو الشاب فى السيميائى عملها وانتصر، كما أن فيرونيكا نفسها انتصرت فى النهاية حتى على مرضها الجسدى تماما مثلما انتصر كويلهو شخصيا على مرضه فى حياته الخاصة.
الانتصار بالشفاء المريح (العثور على الكنز) غير الانتصار بالاستمرار والإصرار والأمل فى الوعد، بدفع عجلة النمو وهذا نوع أعمق من الشفاء.
المفهوم الذى قدمه كويلهو هكذا فى فيرونيكا هو مفهوم جيد للجنون، لكنه ليس كل الجنون، فثم جنون أخطر وأعمق مثل ذلك الذى صوره زوسكند فى العطر (مثلا) حين غاص حتى نخاع الدنا DNA منذ الولادة وهو يعلن الانفصال الحاسم عن هارمونية الكون كله، وليس فقط عن البشر فرادى وجماعات، هذا الانفصال عن الكون كله هو الذى يحيل الكيان البشرى نيزكا غريبا دائرا فى فلكه الخاص بما يمثله الجنون المتأله القاتل، كما صوره زوسكند فى رحلة باتيست جرينوى، فى العطر، ربما كان هذا المستوى من الجنون فى عمق ورعب خطورته هو ما يقابل على أقصى الجانب الإيجابى الآخر ذلك الوجود الرائع الواعد الذى يدعونا محفوظ لمواصلة السعى إليه.
رابعاً: مفترق الطرق
يمكن إيجاز تنويعات رحلة الكائن البشرى من خلال كل ما سبق إلى ما يلى:
(أ) تحقيق الذات –اكتشافا- بمعنى تأكيد قبولك نفسك، بنفس معالمك من خلال قبولهم إياك، بما هو أنت، بعد الاعتراف بك وبإنجازاتك وباحقيتك كما وصلتك، فسكنتَ إليها واكتفيت بأن تتأكد أنك أنت بما هو “أنت”. ويبدو أن هذا ما كان فى رحلة الشاب “سنتياجو” فى السيميائى.
(ب) رفضك، ناقدا، التوقف عند ذاتك الظاهرة الجاهزة المنمطة باعتبار أنها ليست بالضرورة “أنت”، وإنما أنت جّماع أسطورة تطورك، الواعد بطبيعة التطور بالتكامل المتواصل، بما يتضمن أن الحياة الحقة هى أن تعيد تخليق هذا الجماع من كل تاريخك، تعيد تخليقه بخبراتك ورحلاتك وكدحك المعرفى الآنى فتتخلق منه أسطورتك الذاتية الدائمة التخلق، فتتحقق ذاتك ضمنا كلما احتجت إلى وقفة تلتقط فيها أنفاسك، لتعاود الرحلة والتشكيك، إلى نهاية مفتوحة، ويبدو أن هذا هو ما تجلى من خلال رحلة ابن فطومة بوجه خاص.
(ج) أن تفشل هذه المحاولة فلا تستطيع أن تحقق ذاتك ولا أن تخلق أسطورتك الذاتية فهو الجنون والتناثر برجعة أو بغير رجعة.
(ء) أخيرا، وآخراً (مع أنه الأغلب): ألاّ تحاول أصلا، وتظل مسجونا فى ذاتك القشرية التى استلمتها من “مخصوص”، أوصاك بعدم فتح المظروف أصلاً، فسمعت كلامه وأطعته، ولم تقم بمثل هذه الرحلة، ولا أية رحلة اللهم إلا مرغما فى أحلامك أثناء النوم وتلك الأحلام التى نمحو آثارها أو ننكرها، أو نُحِل محلها أحلاما “مصنوعة” أولا بأول، (وللأسف فهذا هو اختيار الأغلبية الغالبة).
خامساً: ما بقى أعظم
هذه ليست دراسة شاملة لرحلة ابن فطومة بالذات بقدر ما هى تركيز على الفرق بين مسارين، بالتركيز على النهايتين، بما فى ذلك عروج إلى بعض معالم الخلفية فى كلًّ، وبالذات فيما يتعلق بالفرق بين ثقافتين من ناحية، وبين مبدعين، من ناحية أخرى.
كويلهو يخاطب ناسه أن ثَمَّ حل آخر، قوانين أخرى، علوم أخرى، قواعد أخرى، وأن هذه الحلول ليست سحرية أو خرافية بقدر ما هى تكميلية لها جذورها التى ننطلق منها وبالتالى، نجفّ ونندمل ونغترب إذا نحن انسلخنا عنها.
أما محفوظ فهو يخاطب ربه بدءاً من نفسه إلى المطلق، فهو ينشط حركية التطور عبر التاريخ ليعرف أكثر، فيعود يسهم فى تغيير ناسه، وهو يعلن أن النظم الحياتية مهما اختلفت بالطول (تاريخا) وبالعرض (تنوعا) فالسعى مستمر، والمعرفة ممكنة، والخطأ قابل للتصحيح، وأن تحقيق المراد من كل مرحلة هو ممكن، لكنه مرحلة متجدده إلى “مراد” “فمراد”.. بلا نهاية، وأن انفصال الفرد عن المجموع ليحقق أسطورته الذاتية ليس هو غاية المراد، فهو أمر ناقص يكاد يكون ضد الطبيعة البشرية الأكمل، وأن رحلة الإنسان هى ليست لتحقيق ذاته فردا، ولا حتى لتحقيق أسطورته الذاتية مستقلا، وإنما هى لتخليق وجوده المستمر طولا، بدءًا من تاريخه، وامتدادا إلى ما لا نعرف، وعرضا فى ناسه بكل اختلافاتهم وأديانهم وحروبهم وظلمهم ومحاولاتهم.
قراءتى فى رحلة ابن فطومة لذاتها لم تكن مطروحة فى المقام الأول من خلال هذه المداخلة، فهى رواية شديدة الثراء والحفز، إذ تعيد تاريخ البشرية، وهى أيضا فرصة لإعادة النظر فى الكاتب والقارئ والحباة.
كما قلنا فى البداية إن المبدع الجاد والأصيل هو صانع الأساطير الأحدث، فهو يعيد كتابة التاريخ بوعى معاصر، ليس قاصرا على وعيه الشخصى مهما بلغ تفرد إبداعه، بقدر ما هو استيعاب لوعى ناسه. رواية ابن فطومة مليئة بقضايا كثيرة، تقدم لنا إنارة متعددة الزوايا، وهى تصحح لنا فى نفس الوقت بعض ما شاع عن محفوظ، وآرائه، وكتاباته.
خذ مثلا ما شاع عن محفوظ من رأيه فى المرأة: هذه الرواية تقدم المرأة “أصلا” فى الوجود البشرى، ليس فقط كأم مثل فاطمة (فطومة) وإنما ككيان فاعلٍ، مُبادىءٍ، مبدعٍ مخترقٍ عامل خلاّقٍ، بدا ذلك من أول ظهور المرأة البدائية الأولى فى دار المشرق حيث جعلها محفوظ حرة لا تابعة، هى التى تختار وتنتقى، وهى التى تترك كيف شاءت متى شاءت بمسئولية قادرة، وظل هذا التقدير والتقييم الإيجابى طول الرواية حتى أن الشخص الوحيد الذى وصل فعلا إلى دار الجبل كان إمرأة (عروسة زوجته وأم أولاده الأولين: كانت بوذية بل أصبحت بوذية). كما أن أولوية وضرورة وحق العمل للمرأة تجلت فى دار الحلبة بوجه خاص، أما مسئوليتها فى رعاية الأولاد واستمرار الحياة، والاسهام فى المجتمع فكان فى البداية، ثم طوال الرحلة.
خذ أيضا موقف محفوظ من الجنس أو من العلاقات الأسرية التقليدية، وكيف تعامل معها جميعا بنقد مسئول متنوع متطور بنفس هذا التناول السهل الممتنع.
خذ أيضا موقفه من الدين والسماح فى مقابل تشويه الدين واختزال الايمان وحيرة الإنسان إزاء هذا وذاك فى كل الدور بلا استثناء.
خذ مثلا نقده للتشويه الذى ألحقناه نحن بالاسلام ونحن نستعمله لغير ما هو، فى حين نزعم أننا ننتمى إليه ونطبقه
خذ مثلا موقفه من الحرية، ومن العدل، والحاكم الظالم ومن القهر، ومن إغارة الأقوى للاستلاء على موارده، (حتى كاد يحدد رمزا غزو العراق واحتلال فلسطين واسغلال موارد كل الدول التابعة) خذ مثلا تحذيره من إغارة الأقوى والأظلم على الأضعف والأفقر، وإرغامه على تغيير مبادئه من خارجه، مستعملا كل ما بيده من إعلام وخداع بما فى ذلك الحروب الاستباقية وتنوير الآخرين “بالعافية”، ليكونوا صورة منه.
كل هذا يحتاج إلى عوده وعودة إن كان فى العمر بقية.
[2] – self assertion
[3] – introspective
[4] – intellectualization
[5] – Silvano Arieti (in) Intrapsychic self
[6] – رائد علم النفس الانسانى
[7] – Self expansion