“نشرة” الإنسان والتطور
22 – 1 -2008
العدد: 144
الأسرة والثقافة والطب النفسى والإدمان (2)
طقوس “السُّبُوعْ”، وجدلية الانفصال/الاتصال
الأسرة الإنسانية هى المجتمع الصغير الذى يحتضن الناشئ فترة احتياجه لرحم اجتماعى ينمو فيه سنين طويلة، وظيفة هذا المجتمع ليس مجرد إضافة حسابية لوظيفة أفراده، مثل أى وسط، الأسرة هى كيان ضام له شخصيته الكلية التى تتجاوز مجرد مجموع أجزائه.
هل يمكن للفرد البشرى أن ينشأ بدون أسرة؟
إذا كان يمكن للجنين أن ينمو تسعة أشهر ويولد بدون رحم لأم تحتويه فيصله من خلالها مشروع مقومات الوجود ثم يولد ليكون، إذا كان هذا ممكنا فإنه يمكن للكائن البشرى أن يوجد وينمو بدون أسرة.
هل كان لغرينوى” – بطل رواية العطر لزوسكند – أسرة أصلا؟ أو فى أى وقت؟ وحتى النهاية؟ هل كان له رحم آصلا تحمله أمٌّ لها أحشاء وعضو اسمه الرحم؟ أم أن الأم نجحت فى محو ما قامت به الفسيولوجيا والطبيعة رغما عنها، هذه الأم القاتلة أبناءها، لم تُتَحْ لها فرصة قتل هذا الأبن الأخير قبل إعدامها، هى سمحت أن يتقيَّأه رحمها وسط بقايا السمك والعفن والقذارة.
لأن جرينوى لم يكن له أسرة هو لم “يكن” أصلاً، ثم هو لم يكن أبدا،
كل المهارات والنبوغ والعبقرية والتأله والقتل، لم تحقق له وجوداً بشريا أبدا،
قَتَلَ العذارى ليخلّق من أرواحهن عطراً يؤلهه فيغنيه عن أن يكون له أسرة ليكون بشرا، فلم يحقق إلا العدم الساحر الذاهل.
فى النهاية استعادوه أكلة لحوم البشر إلى رحم الناس حين التهموه حيا فى مقبرة الأبرياء، “ولأول مرة يشعرون أنهم فعلوا شيئا عن حب”!!
مازلت أتساءل عن مغزى هذه العبارة التى انتهت بها الرواية، وعندى لها عدة تفسيرات غير ما حضرنى الآن، حضرنى أنهم ربما بفعلهم هذا، قد أرجعوه قسرا إلى رحم البشر من جديد، لعله يجد البداية داخل الناس، بشرا يولد بسماح، ويُستقبل برؤية، فى أسرة (رحم اجتماعى) يتخلق فيها ومعها وبها، ليكون أحد أفرادها وليس إله زائفا معبودا فى فراغ الضياع والعدم.
الخلاصة :
أن من ليس له أسرة، من ليس له رحم اجتماعى من البشر، فهو لايكون أبداً
الافتراضات الأساسية
الافتراضات الأساسية لتكون الأسرة أسرة (صحية) بالمعنى المتقدم أى “رحماً اجتماعيا”، يمكن عرض بعضها فيما يلى:
- والدية مسئوله.
- مجال معرفى
- تواصل نمائى
- حماية مرفأية (من مرفأ)
- ولادة سليمة (سماح بالاستقلال)
- علاقة ممتدة
أولا: معالم الوالدية (الجزء الأول):
يطلق لفظ الوالدية على الوالدة والوالد، وهذا أفضل من أن يطلق على الوالد والوالدة، فالأم ذات الرحم البيولوجى النفسى معا، هى الأقدر على تحمل مسئولية النقلة إلى الرحم الاجتماعى (1) (الأسرة)، وقد ركزت مدرسة العلاقة بالموضوع، وهى المدرسة التحليلية الإنجليزية (ميلانى كلاين – جانترب – فيبيرن) على دور الأم فى القيام بهذه النقلة الصعبة والأساسية، وبرغم سلامة هذا التوجه من حيث المبدأ، إلا أن هذه المدرسة بالغت فى تحديد دور الأم حتى كادت تلغى دور الأب فى السنين الأولى، وهذا يعتبر عندى من أول التشوهات التى يمكن أن تلحق بالرحم الاجتماعى (الأسرة)، كما بالغت هذه المدرسة أيضا فى نفى أو التهوين من دور البعد البيولوجى (التطورى فيلوجينيا، ووراثيا) بما ذلك اعتبارها أن الفكر الفريدى هو بيولوجى أساسا.
الانتقال من رحم الأم إلى رحم الأسرة عملية ليست بهذه البساطة، فالطفل داخل رحم الأم يمثل لها دعما، وتفوقا، وتألها بشريا طيبا،
ولنا أن نتوقع –أو نتصور- أنه بانفصال هذا الدعم الداخلى (السرى) عنها يحدث ما يلى:
(أ) إنها تقاوم الانفصال، فى نفس الوقت الذى تفرح به وتنجزه،
ولعل آلام الوضع هى إعلان عن هذه المقاومة، فى حين أن نجاح الوضع هو إعلان السماح بهذا الانفصال.
(ب) إنها لا تصدق هذا الانفصال بسهولة، وتكاد لا توافق عليه، حتى بعد أن يتم، لكنها تدعمه، فهى تحتاج إلى شحذ وعى الادراك، وإطلاق مزيد من قدرات السماح فى محيط من الأمان، حتى تصدق –جدا- أن هذا الانفصال هو حدث رائع آمِنٌ لصالحها، وصالح من انفصل عنها.
دلالات طقوس (الولادة) وبَعَيْدها
أولاً: أثناء الولادة وبعيدها
قمت بقراءة طقوس “السبوع” والولادة فى مصر من هذا المنطلق على الوجة التالى:
1- قبيل الولادة وأثناءها تحضر أم داعمة للأم الوالدة (سواء كانت الأم الحقيقية أو أى أم بديلة)، مما يتيح لها أثناء طلق الولادة أن “تتقطف” على صدر أمها، وهى مسندة ظهرها إليها فى ثقة كافيه، وقد قرأت ذلك باعتباره بمثابة الدعم الخارجى وهو يطمئن الوالدة إلى أن خروج الدعم الداخلى منها لن يخل بتوازنها لأن هناك فى الخارج من يسندها ويساندها.
2- أثناء الولادة يتواكب ويتناوب الألم مع السماح حتى ينتصر إعلان الخلق، وللأسف فإن الاستسهال الطبى التوليدى الأحدث فالأحدث يحرم أغلب الأمهات المعاصرات من هذه الخبرة الهامة، بإعطاء تخدير خفيف أو بالإكثار من عمليات القيصرية لأسباب ليست دائما موضوعية فى هذه الفترة.
3- تعد الأم الكبيرة لابنتها الوالدة فرخة بأكملها (لا يصح أن تُجزَّأ أو تقطع أو يشاركها فيها أحد) لتأكلها “بحالها” وحدها، وكأنها رمز لملء الفراغ الذى تولّد عن خروج الطفل (الداعم) كاملا، برمز كيان كامل أعدته أم الوالدة.
4- يتم إعطاء فرصة سبع أيام كفترة انتقالية تتعرف فيها الأم على ما حدث لعلها تتأكد – بصعوبة وفرحة معا – أن مَنْ كان بداخلها أصبح الآن منفصلا عنها، وهنا تقوم الرضاعة الطبيعية بدور رائع، ليس لمجرد تغذية الطفل بما هو حقه الطبيعى، ولكن أيضا بالتدرج مع الأم، لقبول الواقع الجديد، من خلال الحركة اقترابا وابتعادا، الطفل ملتصقا بثديها يوصل إليها أنه مازال جزءا منها، لكنه ليس كذلك طول الوقت، فهو سرعان ما يبتعد، أو يُبعد بعد الرضعة، ربما أدى إلى إقناع الأم أولا أن الخروج ليس معناه الانفصال القاسى، وإنما هو يعنى بداية رحلات حركية النمو ذهابا وإيابا!.
طقوس السبوع
يأتى بعد ذلك دور احتفالية السبوع الرائعة، وقد قرأتها على الوجة التالى:
بعد السماح للأم بهذه الأيام السبعة لتتعرف من خلالها على ما حدث، يقوم الوعى (الشعبى/الأسرى) بما ينبغى لدعم ذراع الانفصال، بما يسمح أن يكون ذراع الوصل أسهل حركية وأنجح نماءً. يدرك الوعى الشعبى أن الوالدة مازالت لا تتبين واقع الانفصال بما يكفى، أو الأرجح أنها لا تريد أن تعترف به، (وقد تكون فى قرارة نفسها لا تريد أن تسمح به أن يتم جدا)، وفى نفس الوقت هى حريصة على أن يتمادى الانفصال إلى غايته ليرتد إليها وهكذا.
يمكن افتراض أنه فى الأحوال الأقل طبيعية أن بعض الأمهات، مع كل رضعة، يتصورْن إمكان استعاده الطفل إلى الداخل، ومع كل تغيير (غِيَار) لملابس الطفل هى تستعيد السماح له بالتواجد منفصلا عنها، ومن هنا – مرة أخرى، تتعمق حركية السماح والاسترجاع، التى سوف تستمر بعد ذلك طول العمر كما سيأتى ذكره فى يوميات لاحقة.
اكتشفت أن طقوس السبوع قد صاغها الوعى الشعبى لمساعدة الأم على مزيد من الوعى الموضوعى بفعل الانفصال، كل طقوس السبوع تقريبا يمكن إيجازها فى الفرض التالى:
“إنها لإبلاغ حواس (وحركة) الأم، أن ما كان بداخلها أصبح الآن منفصلا عنها، وأن عليها أن تقبل، ذلك وأن تتأكد من ذلك، وأن تفرح بذلك، فتسمح به لأنه بداية حركية تعيد إليها ما أنجزته على مستوى آخر فى رحم الأسرة.
نقرأ تطبيقات الفرض على الوجه التالى
أ- إن وضع الرضيع فى غربال تحمله الأم أثناء التجوال بالمنزل إنما يعلن للأم أن مكانه لم يعد بالداخل (بشهاده الشهود الهائصين من حولها).
ب- إن دق الهون – مع الزغاريد والفرحة – إنما يبلغ سمع الأم أن هذا الكيان (الذى قد يبكى لسماع الدق) أصبح خارجها (بشهادة الشهود أيضا).
جـ- إن اللف بالوليد فى أرجاء المنزل حجرة حجرة، يبلغ الأم أنه بالتأكيد أصبح خارجها، ليس فقط فى سريره (أولفته) بجوارها، ولكنه أصبح خارجها فى كل مكان فى البيت.
د- ثم تأتى أهم خطوة حين يوضع الطفل على الأرض وتخطيه الأم ذهابا وجيئة سبع مرات، لعلها تتأكد المرة بعد المرة أنه أصبح، وبالرغم من أنه بين ساقيها، إلا أنه أصبح خارجها وأن الحركة الدؤوب، ذهابا وجيئه من جانبها أولا، ثم من جانبه لاحقا، هى هى التى سوف تنظم العلاقة وتؤكد الانفصال الطبيعى بينهما ليتخلق نوع آخر من التواصل الحركى الإيقاعى.
هذه هى بعض معانى تلك الطقوس الدالة، والتى حرُمت منها كثيرات من أمهات اليوم، بلا أى مبرر إلا التراجع عن عاداتنا سواء إهمالا أو تقليداً لعادات غيرنا، أو نتيجة للافتقار إلى منطق نفعى جاهز واضح يبررها.
دلائل من أعراض مرضية مألوفة فى فترة النفاس
كثير ما يصيب الأم، فى فترة النفاس أساسا، بعض الأعراض النفسية التى تصل إلى درجة المرض النفسى أحيانا، مما يمكن إرجاعه إلى خلل فى التعامل مع هذه الحركية النمائية دخولا وخروجاً، أو من العجز عن استيعاب جدلية الانفصال/الاتصال، والعجز عن الإعداد لها، ومن ذلك:
أ- تصاب حوالى 60% من الوالدات بما يسمى “كآبة النفاس”، وهو نوع من الاكتئاب الطفيف العابر الذى يزول وحده – دون علاج عادة – خلال حوالى أسبوعين، وقد يكون رمزا لآلام الفراق قبل التأكد من حميمية العلاقة الجديدة وروعتها.
ب- قد يظهر على الأم صعوبة فى تقبل الوليد (أحيانا حتى إعلان الكراهية أو رفض إرضاعه) مما يبدو كأنه نوع من الاحتجاج على هذه الخطوة، وكأن الوليد هو الذى عملها دون استئذان أمه.
جـ- قد تصاب الوالدة بذهان النفاس بأنواعه مما قد يشير إلى نوع من اختلال التوازن، نتيجة للفراغ الذى نشأ من هذا الانفصال دون أن يمتلئ بدعم تعويضى من الخارج، ودون استيعاب أنه ليس انفصالا قسراً هجراً، بقدر ما هو إعادة تنظيم العلاقة من جديد.
ء- حالات قتل (أو الشروع فى قتل) الوليد تحدث مع الذهان الصريح عادة، أو بدون ذلك ليكون هذا القتل (أو الشروع فيه) هو المظهر الوحيد للذهان، وهو أقسى مظاهر رفض الانفصال، (الأمر الذى نشاهده فى دراما القتل من الهجر فى الحب عند الناضجين مع الهوس الغرامى: (مثال: قتل المرحومة ذكرى…وغيرها).
دور الأب
يتجسد تهميش دور الأب فى هذه الفترة تجسيدا واضحا بشكل يحتاج إلى مراجعة، ففى الوقت الذى يمكن أن يُقرأ هذا التهميش على أن دور الأب ثانوى فى هذه المرحلة، يمكن أن يقرأ على أنه تحميل للأم أعباء زائدة مما قد يحرمها من العناية بكيانها المستقل، ليس فقط عن الأب، ولكن أيضا عن الوليد.
بالرجوع إلى المنطلق الأساسى، وأن الاسرة هى الرحم الاجتماعى كمحيط حيوى حقيقى، يمكن أن نتبين أن للأب دورا إيجابيا لا غنى عنه فى إسهامه فى تكامل هذا المحيط الحيوى، وأن قيام الأب بدوره فى دعم هذا الكيان الأسرى (الرحم الاجتماعى) بدءًا بدعم الأم، يفسر كيف أن الأب الآن ينُصح بحضور عملية الولادة، وأن يكون فى المتناول طول الوقت، خاصة قبيل وبعيد الولادة، خاصة لو كانت الأم واعية – دون ألعاب التخدير والقيصرية – حتى تستوعب الأمان المحيط مهما بلغت الآلام الجسدية.
ويمتد دور الأب بعد ذلك بتنظيم مشاركته فى دعم حقيقى بالوقت والفعل والإسهام العملى فى تهيئه مناخ طيب لهذا الرحم الاجتماعى (الأسرة) البديل عن والمكمّل لرحم الأم إلى رحم الأسرة.
أما استمرار جدلية الانفصال/الاتصال بعد ذلك مدى الحياة، فهذا ما سنرجع إليه مادمنا نتواصل ونواصل.
كذلك سوف نواصل عرض معالم الوالدية وغيرها من الافتراضات الأساسية للأسرة من منطلق ثقافتنا خاصة.
[1] – البيولوجى أيضا بالمعنى الأوسع.