نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 17-3-2013
السنة السادسة
العدد: 2025
كتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (8)
من منظور ثقافة مصرية عربية
الأساس فى العلاج الجمعى
علاقة العلاج الجمعى بالعلاج النفسى الفردى
مقدمة :
المسؤول اليوم (الأحد) عن هذه النقلة التى تبدو ضرورية هو إلحاح ابنتى “منى يحيى”، وابنتى “نهى صبرى” على إنجاز كتاب العلاج الجمعى أولا، يتكرر ذلك كلما سافرت إحداهما أو كلتاهما إلى الخارج لحضور مؤتمر أو ندوة أو ما شابه، وإذا “بالخواجات” يسألون أيهما عن العلاج الجمعى المصرى (أو في مصر، المهم فى ثقافة مختلفة)، فيطفو الإلحاح علىّ، ويتسارع الاستعجال من جديد.
استجابة لهذا الموقف قررت – كما اعتدتم- أن أستأذن كتاب “الأساس فى الطب النفسى”، وآخذ منه يومه الأسبوعى مؤقتا، لأضمه إلى هذا العمل المستعجل عن العلاج النفسى، وقد تم ذلك بدءا من اليوم، لأنه مع عودة ابنتى من سفرتها الأخيرة للولايات المتحدة (وكندا)، عاد الإلحاح يلح، وكنت بالمصادفة قد انتهيت من فصل الإدراك الذى شغل مئات الصفحات في النشرات، ووعدت فى آخر نشرة فيه الأسبوع الماضى أن أبدأ هذا الأسبوع فصل “التفكير”، فسمح لى ذلك أن أقفز إلى المهمة الجديدة ، وما دام ليس عندى قراء ثابتين متابعين، فكله محصل بعضه، وعلى المتظلم أن يلجأ إل “منى”، و”نهى”.
وهكذا أستعبط وأستأذن كتاب الأساس، وأستأذن من يتابعنا إن وجد، أن يسمح بتأجيل “فصل التفكير” حتى ينتهى كتاب العلاج الجمعى إذا انتهى !!
لكن عندَك يا مُنى، أليس كتاب “فقه العلاقات البشرية ، شرح ديوان أغوار النفس”، والذى صدر تباعا فى نشرات هنا فى الموقع هو في صميم العلاج الجمعى ؟؟ ، وقد تم تماما، وبلغت صفحاته المئات؟ ، فهل قرأتيه يا ترى؟ وهل قرأه، أو قرأ بعضه زميلاتك، أو زملائك؟ إن يقينى أن أحدا من جمعيتكم لم يقرأه، يسمح لى بأن أقتطف بعض ما جاء فيه فيما يتعلق بالعلاج االجمعى، دون شعور بالحرج للتكرارا.
ليس مهما إن كنتم قرأتموه أم لا، فأنا لا أكتب لكم كما تعلمين، ولا أكتب للخواجات أيضا
فلمن أكتب؟
حذّرى (فزّرى)
سلام ، أبوك ومحبك: يحيى
علاقة العلاج الجمعى بالعلاجات الأخرى
ثانيا: بالعلاج النفسى الفردى
العلاج النفسى هو العلاج النفسى، بل إن كل علاج للمرض النفسى هو علاج نفسى، سمى كذلك أو سمّىَ بغير ذلك، فالمسألة هى : تعديل فى السلوك، يصاحبه عادة تغيـّر فى تشكيل المخ، (وليس بالضرورة في كيميائه أو محتواه)، من خلال حوار جدلى حى، بين وعى إنسان فى مِحنة، أو فى إعَاقة، أو فى وَقفة، و وعى إنسان لهخبرة، يحذق مهنة، يتبع منهجا مفتوحا. إن أية عملية بين البشر تتوافر فيها هذه المواصفات، وإن لم تعلن، يمكن أن تعتبر نوعا من العلاج النفسى.
الرائع هذه الأيام هو ما يجرى من محاولات ناجحة لإثبات الصلة الوثيقة بين تغيير السلوك بهذا القصد المسمى “علاجا”، يصح ذلك أيا كانت طريقة التواصل بين إنسان وإنسان، أى بين تشكيلات تواصلات الأمخاخ البشرية معا ، بحيث يمكن افتراض إمكانية “زرع برامج يبولوجية جديدة” باستمرار، وقد أشرت فى نشرة الأسبوع الماضى إلى كتابين شديدى الأهمية بهذا الصدد، ووضعتهما في الهامش، لكننى أفضل اليوم أن أضعهما فى المتن مع ترجمة العنوانين إلى العربية وهما:
1) Louis Cozolino, Ph.D. The Neuroscience of psychotherapy.
Building and Re-Building the Brain. 2002 w.w.Norton& company N.Y.
العلم العصبى لما هو “العلاج النفسى” : بناء وإعادة بناء المخ
2) Norman Doidge, M.D. The Brain that Changes Itself .2007 Penguin Books.
المخ الذى يغيّر نفسه
ودعونى أعترف أننى لم اقرأ أيهما قراءة شاملة، ولا حتى قراءة انتقائية، لكن ما اضطلعت عليه من صفحاتهما، مستهديا بالمحتويات، قالت لى الكثير عن توجههما.
تميز الكتاب الأول بتنظيرة الحصيف لطبيعة المخ، مدعما بما تيسر من حجج ونتائج أبحاث تقنية داعمة للفروض، وخاصة فيما يتعلق بالمطاوعة العصبية، وقدرة المخ على التشكـّل وإعادة التشكـّل حسب التعلم والخبرة والتواصل وغير ذلك، لا بد أننى تعجبت، لكن الآن أكثر، حين لم أجد ما يشير (حتى الآن) فى أى منهما إلى العلاج الجمعى تحديدا.
حين أخبرت إبنى الأكبر وصديقى الأستاذ الدكتور رفعت محفوظ عن فرحتى بهذين الكتابين رد علىّ ببساطة ” ألم تكن تعلمنا كل هذا منذا سنة 1974، أنا حين أدرس مثل هذه المواضيع، أذكر لطلبتى هذه الحقيقة بكل يقين وبساطة”، بصراحة أنا لا أذكر ما قلته تفصيلا عن مطاوعة المخ بالذات، مع أننى أشرت إلى بعض ذلك حتى فى مراسلاتى مع الصديق أ.د. محمد شعلان سنة 1969، وأنا لا أعيد ذكر ذلك لأحدد فضل السبق، فهذا أمر ثانوى مقارنة بروعة المعرفة فى ذاتها أيا كان مكتشفها أو معلنها.
أريد أن أعترف أن مثل هذا الموقف “بناء، وإعادة بناء، المخ”، لم يصلنى بالوضوح الكافى، إلا بعد أن اكتشفت أن العلاج الذى أمارسه عموما، والعلاج النفسى خصوصا، هو مواز للنقد الأدبى الذى يعيد تشكيل النص ليكون نقدا بحق، وبالتالى يكون العلاج هو إعادة تشكيل النص البشرى، الأمر الذى أضفت إليه مؤخرا ليكون “إعادة تشكيل النصّين البشريين، وذلك فى حالة العلاج النفسى (الفردى) باعتبار أن المعالج الحقيقى هو الذى لا يقوم بتشكيل مخ المريض إلا إذا سمح للمريض، مهما كان ف موقف المتلقى الأضعف، أن يشارك فى إعادة تشكيل ذاته من جهة، وأيضا فى احتمال إعادة تشكيل المعالج نفسه من جهة أخرى (نموا وخبرة). هذا المنطلق أكد لى “مطاوعة المخ”، وأننا لا نغير السلوك فحسب، وإنما نغير التركيب أيضا، ونعيد برمجة بعض البرامج ناهيك عن زراعة برامج جديدة فى كل من المريض والمعالج على حد سواء، ثم إننى اكتشفت بعد ذلك أن هذا البناء، وإعادة البناء لأمخاخ المجموعة ككل، متضمنا مخ كل فرد على حدة، هو الذى يتم فى العلاج الجمعى بشكل أكثر حركية وحرية وفاعلية، وكأننا نبنى معا مخا جمعيا، لعله هو الذى أسميته “تخليق الوعى الجمعي”.
فإذا انتقلنا إلى علاقة العلاج الجمعى بالعلاج الفردى من حيث بعض تفاصيل الممارسة من واقع خبرتنا، فيمكن ذكر بعض معالم ذلك فيما يلى:
- بالنسبة لخبرتى الشخصية التى مهدت لممارستى العلاج الجمعى، ذكرت فى النشرة السابقة مراحل ذلك، وضرورته، وأنصح بالرجوع إليها Link
- لا ننصح عادة بأن يمر المريض بمرحلة العلاج الفردى قبل العلاج الجمعى، ولا يشترط ذلك
- لا نرفض أن يلتحق مريض مرّ بمرحلة العلاج الفردى بالعلاج الجمعى، سواء يكون قد حقق من خلاله ما أراد هو أو معالجه، أو كانت النقلة نتيجة لنوع من الإحباط قل أم كثر
- تعتبر النقلة من العلاج الفردى إلى العلاج الجمعى أزمة نمو بشكل أو بآخر، لأن ما اعتاده المتعالج فرديا من السرية، وطلاقة البوْح، وخصوصية العلاقة، هو على النقيض مما يحدث فى العلاج الجمعى غالبا، ويمكن تشبيه هذه النقلة بالنقلة من العلاقة الثنائية التى يعيشها الرضيع منذ الولادة مع أمه، إلى العلاقة الأخوية والأسرية التى يمارسها تدريجيا بعد ذلك، لكن النقلة فى العلاج من العلاقة الثنائية إلى العلاقة الجمعية تكون أكثر تأزيما وصدْما
- ليس بالضرورة أن يكون المعالج الفردى السابق هو أحد المعالجين فى المجموعة التى التحق بها المريض المنتقِل، بل إن الغالب ألا يكون هو هو، وإن جاز غير ذلك (كما حدث معى فى بعض الحالات: أنظر بعد)
- يحتاج الأمر إلى التدرج مع المريض المنتقل من الكلام إلى الفعل، ومن الحكى إلى المواجهة، ومن الماضى إلى الحاضر، وهذا أمر يستغرق وقتا أطول مما يحتاجه المريض الذى دخل إلى العلاج الفردى مباشرة
- أحيانا قد يحتاج بعض المرضى أثناء العلاج الجمعى، إلى جلسات فردية تدعيمية ، خاصة فى فترات المرور بمأزق حاد، أو ظهور أعراض جديدة، أو ظروف جديدة تحتاج إل دعم خاص
- ينصح عادة أن يكون المعالج الفردى في هذه الحالات هو أحد المعالجين فى المجموعة
- يكون اللجوء إلى الدعم بالعلاج الفردى (وليس بديلا عن العلاج الجمع ف نفس الوقت) لمدة محددة يتفق عليها
- إذا تعذر أن يقوم بالعلاج الفردى أحد المعالجين فى المجموعة، فلا بد من تعاون شبه إشرافى (إشراف القرين) بين المعالج الفردى والمعالج الجمعى للفترة المحددة لمثل هذا الاستثناء
- لاحظنا أنه فى حالات تزامن العلاج الفردى مع العلاج الجمعى، يمكن أن تجهَض النقلات التى تتم فى العلاج الفردى، ما لم يكن المعالج متابعا لمراحل نمو المجموعة، وهذا الفرد في المجموعة بشكل ما، ذلك لأنه قد يتمادى التحاور فى العلاج الفردى كلاما وتفسيرا إلى درجة العقلنة، والبعد عن الـ”هنا والآن”، وهو ما قد يفسد ما تم إنجازه فى العلاج الجمعى
- تعتبر المتابعة الفردية المتباعِدة نوعا من العلاج الفردى قصير الزمن، وتسرى عليها ما يسرى من ملاحظات سالفة الذكر فيما يتعلق بالعلاج الفردى عموما.
- إذا لزم الأمر، يستعان فى كل الحالات وحسب كل حالة، تشخيصا، ومأزقا ومرحلة علاج (نمو) : بالعقاقير المناسبة، بحسب ما ذكر فى النشرة السابقة عن علاقة العقاقير بالعلاج الجمعى، حيث تسرى المبادئ العامة على العلاج الفردى، (وأيضا على العلاج عامة).
- لا توجد قاعدة تقول : إن العلاج الجمعى أفضل من العلاج الفردى، أو العكس ، فكل حالة مرهونة بكل ظروفها فى أوقات مختلفة
- التنقل فيما بين العلاج الجمعى والعلاج الفردى غير مفيد، بل هو ضار، ولا يعتبر ضمن إيجابيات ما يسمى “برنامج الدخول والخروج”In-and- out- program
- ليس مهما أى أنواع العلاج الفردى تسرى عليه كل هذه القواعد، لكن الملاحظ أن هذه المدرسة تعد العلاج السلوكى والمعرفى، خاصة المتضمـَّن مع التأهيل أو العلاج الفردى، متمما للعلاج الجمعى، فأحيانا يشترط فى العلاج الجمعى، منذ البداية، أو فى مرحلة باكرة ، أن يمارس المريض عمله العادى تحت كل الظروف، وأحيانا يتخلل أيام الاسبوع تردد محدود على مستشفى نهارى مع تواصل منتظم بين المنظومتينن ، وهكذا
- العلاج الفردي الذى يكاد يكون مناقضا للعلاج الجمعى الذى نمارسه هو التحليل النفسى التقليدى، وهذا ليس مرادفا للعلاج الجمعى من منظور التحليل النفسى.
- الذى يساعد فى النقلة الضرورية من العلاج الفردى إلى العلاج الجمعى هو الالتزام المتدرج حتى الإلزام شبه الدائم بمبدأ “هنا والآن”
- نحن نبدأ اللقاء في العلاج الجمعى بسؤال يطرح على الجميع يقول “مين اللى عايز يشتغل”، ونصر على استعمال كلمة “يشتغل، حتى نفرّق بينها وبين “مين اللى عايز يتكلم”، ويكاد هذا يعلن ومن البداية أهم الفروق بين العلاجين
- يحدث الطرح transference فى العلاج الجمعى مثلما يحدث فى العلاج الفردى، خاصة إذا كان قائد المجموعة من النوع جاهز الحضور المتداخل معظم الوقت، ولكن الطرح وارد فى العلاج الجمعى مع غير القائد، فيما يسمى “الثنائية” pairing ، ويـُحَل الطرح داخل المجموعة باحتوائه والتفاعل من خلاله بآليات العلاج الجمع العادية، ويكون حله أسهل فى العادة، ما لم تحدث مضاعفات خارج المجموعة.
- بعد انتهاء مدة المجموعة بانقضاء الزمن المتفق عليه (فى خبرتنا اثنا عشر شهرا) لا يوصى صراحة لأى فرد بذاته، باستكمال علاجه إذا لزم الأمر بشكل محدد، علاجا فرديا، أو فى مجموعة جديدة، أو بامتدادا التأهيل ..إلخ، ولا يوصى أيضا بمنع ذلك بزعم الخوف من إهدار ما تم إنجازه ف العلاج الجمعى.
أكتفى بهذا القدر اليوم، لأعرض غدا بعض النماذج التى وردت فى كتابى السالف الذكر “فقه العلاقات البشرية” لمزيد من الأمثلة والتوضيح بهذا الشأن بالذات.