نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد : 5-4-2015
السنة الثامنة
العدد:2774
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل الخامس:
ملف اضطرابات الإرادة (15)
ترجيح إرادة تضخيم الذات على حساب إرادة الحياة
(مثال: اضطراب الشخصية)
اعتذار:
اكتشفت للأسف أننى تناولت موضوع الإرادة بكثير من التفصيل فى نشرات سابقة فى هذا العمل، صحيح أنه لا يوجد تكرار، لكن وجب علىّ الاعتذار لحين أجمع أطراف الموضوع معا فى النشر الورقى بإذن الله.
مقدمة:
فى هذه النشرة سوف أحاول عرض بعض تنويعات قمع أو تفريغ الطاقة الحيوية اللازمة لدفع النبض الإيقاعى فى اتجاه النمو، وكمثال سوف أعرض لاضطرابات الشخصبة كنموذج يقع – تقريبا- بين السواء والمرض:
وينطلق ذلك من فرض يقول:
إذا كان المخ هو مفاعل للطاقة والمعلومات من خلال الإيقاع الحيوى المستمر، فإن الإيقاع الحيوى وهو ينظم الطاقة ويجددها ويفعلن المعلومات ويشكلها، هو فى نفس الوقت يحتاج إلى الطاقة الحيوية لاستمرار دفعه والحفاظ على دوام نبضه فى اتجاه البناء النمو(التطور).
وسوف أتناول بعض صور إعاقة طلاقة الطاقة فى مسارها الطبيعى: إرادة الحياة، وما يترتب على ذلك من تشكيلات أنواع اضطراب الشخصية نتيجة لقمع هذه الطاقة الحيوية، أو إفراغها فى اتجاه غير النمو: الإبداع الذاتى.
وفيما يلى بعض ذلك.
أولاً: قد يتوقف “النضج نتيجة تنشئة” رخوة سائبة مسئولة عن تدعيم الاعتمادية الرضيعية طول الوقت، وبالتالى يتم التثبيت عند السلوك النكوصى من البداية دون أدنى تدريب على التدرج على مسار تحمل المسئولية وتغير نوع العلاقة بالآخر، أو التدريب على تحمل الألم والمشاركة الايجابية، وهذا ما تتصف به ما يسمى بالشخصية الاعتمادية Dependant Personality، وبعض أنواع الشخصية الهستيرية، والشخصية المتذبذبة انفعالياEmotionally Unstable P. Hysterical P..
ثانيا : الإعاقة بالافراط فى استعمال الميكانزمات طول الوقت: يتجسد ذلك مثلا فى الشخصية الشيزيدية Schizoid Personality، والاكتئابية Depressive Personality، والوسواسية Obsessive Personality ، والبارانوية Paranoid Personality، وغير ذلك.
فى هذه الحالة تحول هذه الميكانزمات الراسخة النشطة دون أى تغير نوعى، وهذا يحرم الشخص أثناء نموه من أية بصيرة مغامِرة، فتنحبس طاقة النمو بداخله وهو يوظفها للمنع فى صورة مزيد من شحن الميكانزمات فلا يتبقى منها شىء لدفع النمو، وقد تنحبس هذه الطاقة وراء هذه الميكانزمات لمدة طويلة أو مدى الحياة، وهذه الميكانزمات عادة لا تنكسر إلا بذهان مُـخَـلخـِل، أو إبداع مفاجئ، ويحدث هذا التقزيم بالميكانزمات نتيجة الكبت المتلاحق، أو العقلنة الغالبة((1)) والإسقاط المستمر، كأمثلة.
وينتج عن ذلك غالبا الشخصية الاكتئابية، والشخصية الوسواسية، أساسا، لكن هذه الإمراضية تساهم أيضا فى تكوين اضطرابات شخصية أخرى.
ثالثاً : الإعاقة بإجهاض النبض بإفراغ الطاقة الحيوية نزويا باستمرار كلما تجمعت بأى قدر يمكن أن يسهم فى الدفع، فتنطلق الطاقة فى فراغ بلا ضابط ولا منظم ولا هدف. ومثال ذلك الشخصية الانفجاريةExplosive P. ، والشخصية العاصفية Stormy P..
رابعاً : الإعاقة بتكرار النص (السكريبت) ضد الإرادة الظاهرة، وذلك بتواصل تكرار نفس السلوك أو الفعل أو الوجدان طول الوقت بلا هدف مختلف، وبرغم نفس النتيجة مهما كانت مُـحبطة أو فـَاترة،، لكن هدفنا خفيا يكمن عادة وراء ذلك هو إعاقة إرادة الحياة ومن ثـَمَّ النمو لحساب تضخم الذات الذى يظهر فى شكل اضطراب الشخصية السالف الذكر، كما يحدث فى الشخصية الوسواسية أيضا، وكذلك فى الاغتراب القهرى الذى قد يطول فيه النص إلى أيام وأحيانا شهور أو سنين، دون تعلـّم من الخبرة السابقة، أو تغير كيفى نحو النضج، وهذا عامل محتمل فى كل أنواع اضطراب الشخصية بدرجات مختلفة.
خامسا: الاعاقة باغلاق نبض النمو فى استعادة دائرية مغلقة أولها فى آخرها، وذلك بتكرار دورات بأكملها وليس مجرد تكرار النص (السكريبت).
وتتميز هذه المجموعة بالتبادل النوابى بين قطبين يمثلان نوعين متضادين من السلوك، وينشأ عن هذا التبادل العنيف توقف النضج لإنهاك الطاقة فى حركة دائرية مغلقة بدلا من إطلاقها فى حركة لولبية متصاعدة. وذلك حيث أن كل نبضة نمائية يحل محلها نبضة جسيمة متبادلة بغير انتظام حتمى بين السلوك وعكسه، وكل نوبة تنتهى حيث بدأت بلا زيادة ولا نقصان، مما يعوق أى تقدم فى النضج، وتشمل هذه المجموعة: الشخصية الفرحانقباضية، (التناوب بين الفرح والانقباض) والشخصية المغيرانسحابية، (التناوب بين الإندفاع السلوكى والانسحاب من المواقف) والشخصية الشكاحتوائية(التناوب بين فرط الشك، وفرط الثقة غير المبررة عادة نتيجة لاحتواء الآخر تماما).
سادساً : الافتقار (والتنازل) عن الطموح أصلا وذلك فى الشخصية غير الكفءInadequate Personality .
يعتبر الطموح سمة من سمات الشخصية أكثر منه فعلا إراديا فى ذاته، وعادة ما يردد العامة أن تحقيق الطموح الكبير يحتاج إلى إرادة بحجم الطموح المعلن، لكننا نادرا ما ندرج غياب الإرادة سببا فى ما يسمى فقر الطموح لأن هذا الأخير يظل فى خلفية الإمراضية كسمة للشخصية أكثر منه فعلا أو وجدانا، فى حين أن ما يظهر هو زعم بإرادة العكس. وهى شخصية لا تنقصها الكفاءة ولا الذكاء ولا المهارة، ولكن صاحبها لا يوظف أيا من ذلك فى تحقيق ما ينتظر منه أو فى دفع نموه، أو يـُتوقع له، وأحيانا ما يبدو مثل هذا الشخص فخورا بعدم طموحه، كدليل على عدم الطمع، ومن فرط وقوفه فى آخر الصف، قد يشك الآخرون فى قدراته، ويفترضون عجزه أو عدم كفاءته، لكن هذا الشخص حين يوضع فى موقف فيه ضغط حقيقى، أكثر مما به وعود بإنجازته، قد تظهر قدراته الكامنة بشكل يختلف تماما عن مزاعم عجزه، وقصوره، وفى كثير من الأحيان يوصف هذا الشخص فى البيئة المصرية خاصة بأنه “طيب” أو متواضع، لكن تكمن وراء ذلك عادة عوامل كثيرة مثل الخوف من تقييم الغير له، والخوف من المنافسة أو توقع الفشل، وكل هذا لا يندرج تحت اضطراب الإرادة بشكل مباشر، لكنه قد يكون نتيجة عجز خفى فى الإرادة على مستوى الإمراضية.
وبعد
بعد كل هذه الحيرة والتداخل هل نتنازل عن فخرنا – كبشر – ونحن نزعم أننا كائنات أرقى تتمتع بحق المشاركة فى توجيه وصنع مصيرها، وهل توجد مميزات خاصة فى ثقافتنا تساعدنا على تحمل مسئولية ما نزعم من حمل الأمانة، وتعيننا أن نكون أقرب إلى ما خلقنا الله به وعليه.
هذا ما سنحاول أن نختم به هذا الباب غدًا.
[1] – هذه البصيرة المعلقنة تبدو أحيانا وكأنها معرفة بالذات قصورها وقدراته، لكنها إذا انقلبت عقلنة فهى ميكانزم أخبث من ميكانزمات العمى والكبي، فهى ، بصيرة معطلة أكثر منه كشف دافع.