نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 6-9-2015
السنة التاسعة
العدد: 2928
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل السادس:
ملف اضطرابات الوعى (37)
المصداقية بالاتفاق(1)
التساؤلات كثيرة كثيرة، أنا شخصيا وجدتها تغمرنى من جديد وأنا أحاول أن أوصل هذه الصعوبة المنهجية إلى “من يهمه الأمر”، وإذا كنت شخصيا، وأنا متبنيها، لم أصل إلى إجابات حاسمة لهذه الأسئلة، ولا أكف عن العودة إليها، فماذا يمكن أن يكون حال المتلقى إلا أن يواصل الإبداع معى جنبا إلى جنب.
قلت فى النشرات القليلة السابقة إننى تعرفت على الحلم من النقد الادبى (حكيا وشعرا)، وقد تأكد لى ذلك وأنا أعيد قراءة التجربة النهائية (البروفة) للطبعة الثانية لكتابى “عن طبيعة الحلم والإبداع”(2) حين تأكدت أن المسألة فى هذا العمل قد تجاوزت مجرد النقد بالمعنى الشائع، إذ أنها شملت ما يمكن أن يقابل تنشيط “الوعى البين-شخصى” بين وعى المبدع الأول ووعى الناقد، حين وجدت أن ما أسميته “تقاسيم على اللحن الأساسى” (الفصل الثالث) لم يكن نقدا تقليديا، بقدر ما كان تطبيقا على فكرة أنه “لا يُنْقَدُ الشعر إلا شعرا”، وبما أننى اعتبرت هذا النص المحفوظى أقرب إلى الشعر منه إلى القص أو الحكى، فقد أثار عندى ما يقابله فكانت التقاسيم.!! بمعنى أن أنسج إبداعا على إبداع ، هو أولى من التفسير والتأويل.
فى نفس الوقت حين رجعت إلى تجربة “نعمل حلم” التى جرت فى العلاج الجمعى – نشرة 22/9/2010: “نحن نؤلف أحلامنا” تجربة من العلاج الجمعى “نعمل حلما”: “هنا والآن” ونشرة 28/7/2013: العمل بالأحلام فى العلاج الجمعى(1) ونشرة 29/7/2013: العمل بالأحلام فى العلاج الجمعى (2)، وجدتنى قد بدأت بالتدخل – دون قصد مسبق- فى حلم الطبيبة المتدربة زميلتى، وكأننى أشارك فى إبداع حلمها، تعديلا، وتساؤلا، واقتراحات، (أنظر نشرة 28/7/2013) ليس هذا فحسب، بل إن عددا من المرضى تدخلوا فى أحلام زملائهم، وأحلام الأطباء بنفس الطريقة التى اكتشفتُ الآن – وأنا أعيد القراءة- أنها يمكن أن تكون إثباتا لأمرين:
الأول: أن وعى الحلم يمكن أن يـُستجلب بإرادة نسبية فى وسط وعى اليقظة، لأكثر من شخص معا
الثانى: أن ما يسمى الوعى البين-شخصى(3) يمكن أن يُـستثار من خلال وعى أقرب إلى وعى الحلم، اسهل وأجهز من تنشطيه بوعى اليقظة.
وبالعودة إلى التجربة (البروفة) النهائية للطبعة الثانية لكتابى السالف الذكر، اكتشفت أيضا أن نجيب محفوظ، بوجه خاص، يدرك بشكل عميق هذه المنطقة المشتركة بين الحلم والإبداع، وقد اقتطفت وصفا لذلك قاله فى حديثه للأهرام الذى أشرت إليه فى النشرة السابقة الأسبوع الماضى نشرة 31-8-2015 “أحلام محفوظ تنطلق من: إبداع الشخص العادى” حتى كادت تصريحاته وبصيرته تعلن ما يكاد يطابق ما ذهبت إليه فى فرضى القائل: “إن الشخص العادى مبدع لأحلامه بطبيعته، سواء ما يحكيها منها (وهى على مستوى أقل إبداعا) أو ما لا يعرفها تفصيلا ولا حتى إجمالا، لكنه يعيش ناتجها (الإبداعى:نماءً) مهما ضؤلت نسبته، وقد وجدت فى بقية الحديث الذى أدليت به عن هذه الأحلام لنجيب محفوظ(4) ما يوضح كثيرا من النقاط التى أجملتها ففضلت أن انشره كله ربما على نشرات متتالية، فيما عدا الفقرة التى اقتطفتها منه الأسبوع الماضى، ربما اتضح الأمر أكثر قليلا.
ثم إننى اكتشفت أيضا أننى كنت أحيانا أقرأ أحلامه من خلال محاولاتى فى الإبداع قبل سنوات من قيامى بنقد أحلامه الإبداعية، وهكذا أضيف لى بعد آخر يمكن أن يضم منهجيا إلى ما يسمى “المصداقية بالاتفاق” لكن الاتفاق هنا ليس فى الرأى وإنما فى الكشف والتشكيل.
وإليكم مثالا واحدا لبعض ذلك:
جاء فى الأصداء فقرة بعنوان “اللؤلؤة” فحضرتنى قصيدة قصيرة جدا بنفس الأسم من واقع محاولاتى الإبداعية المتواضعة السابقة أيضا، ففسر لى ذلك فكرة التقاسيم التى جاءت فى الفصل الثالث، وهذا ما أقدمه اليوم وهو إبداع سابق، فساهم فى نقد إبداع لاحق،
وهاكم المثال كما ورد تماما:
– اللؤلؤة(5)
”جاءنى شخص فى المنام ومد لى يده بعلبة من العاج قائلا: تقبل الهدية. ولما صحوت وجدت العلبة على الوسادة. فتحتها ذاهلا فوجدت لؤلؤة فى حجم البندقة. بين الحين والحين أعرضها على صديق أو خبير وأسأله: “ما رأيك فى هذه اللؤلؤة الفريدة؟”.
“فيهز الرجل رأسه ويقول ضاحكا:،”أى لؤلؤة.. العلبة فارغة”. وأتعجب من إنكار الواقع الماثل لعينى.
ولم أجد حتى الساعة من يصدقنى. ولكن اليأس لم يعرف سبيله إلى قلبى.”
القراءة:
الحلم – كما سبق أن أشرت من قبل ليس هو بالضرورة ما يحدث أثناء النوم، ولكنه “العالم الآخر” بشكل ما، وحلم هذه الفقرة يكشف عن تركيبة بشرية أساسية وعميقة، وفى نفس الوقت هى من أبعد المناطق عن الدراسة والبحث، والفرض الذى أطرحه لقراءة هذه الفقرة يقول:
إن الوجود البشرى، مهما عرفنا أبعاده ومراميه وتركيباته وأقطابه لايحكمه وينظمه – فقط – ما نعرف عنه، لأن ثمة منطقة مجهولة تـسـقط أحيانا إلى الخارج (منذ الفاكهة المحرمة فى الجنة حتى حكاوى الأساطير)، أو تظل قابعة فى الداخل (نسميها أحيانا “الذات” ونظل نبحث عن تحقيق الذات دون تحديد عادة لأى ذات تلك التى نحاول تحقيقها) أو هى -هذه المنطقة الأخرى- تـُفعلن لتعيد تنظيم “الممكن من المتاح”، وهى هى مصدر طاقة الإبداع المتجدد باعتبار أن الإبداع هو البحث المتصل فى اتجاه استكشاف مجهول ليصبح معلوما جزئيا يؤدى إلى مجهول أكبر، معلوما ناقصا، فمجهول أكبر، وهكذا..، وهذه المنطقة الأساسية والمحورية والخاصة ليس لها اسم، وهى مرتبطة ارتباطا وثيقا -من وجهة نظر هذا الفرض- بمفهوم الغيب، وعندى أن الإيمان بالغيب (تدينا) هو من قبيل الاعتراف الذاتى بهذه المنطقة الأساسية الجاذبة الموجـهة المفجـرة المجهولة، وهى منطقة، أو مساحة، أو جوهر، بدون اسم: اسماها سعد الله ونوس ”الماسة”، وأسماها محفوظ هنا “اللؤلؤة”، وهو نفس الاسم الذى أطلقته عليها فى قصيدة قديمة لى لم تنشر، ويبدو أن جذب هذا الاسم يرجع لأن اللؤلؤ يكمن داخل جوف القوقع، والناظر من خارج لايراه أصلا رغم أنه هو المطلوب أولا وأخيرا.
من قصيدة اللؤلؤة
صغيرة ومبدعة، تنير قلبى فى ظلام الصومعْة، ألمحُها، أحسـُّـهـا، ألمسُها، أدسُّـها، أذيـبها، أذوب فيها، وبهـا.
أكـونـها، تكونـنى، فأستكين فى دعة.
فى دفـئها: يذوب ثلجى تمحى مخاوفى، فتبعد الغيلان تخـتـفى،
أمد كفى ألمس الأجنة النجوم، فتحمل الرياح حبة اللقاح لؤلؤة، من ظهر لؤلؤة،
خبأتها عنهم جميعا فى حنايا كبدى، ألبستها الأسماء أقنعة: [النبض، حسى، لوعتى، الوهج، فكرى، منتهاى، قبلتى] تبسمت فى سرها تحسستْْ حبلَ الوريد كفُّها،
…………
عبادها، يميل صوب ميلها، يغوص بعـد غربـها، تمتد أذرع المصلوب فى انتظار صـبحها. 20-8-1981
أما لماذا لا يرى الآخرون هذه اللؤلؤة، فربما لسببين، على الأقل: أن صاحبها نفسه يراها بعين اليقين، لا بعين الواقع، فهو لا يراها تحديدا متصلا وإنما حضورا واجبا واعدا، والثانى أنها لا تُرَى أبدا من الخارج وإنما الذى يُرى منها ليس سوى آثارها الإيجابية (الإبداع) أو آثارها السلبية بواسطة محاولة إخفائها بأعراض مرضية، ومن ثم تشويهها أو تفجيرها.
ثم عدت أتوقف عند فقرى الصدى وكيف أن صاحبنا تلقاها “هدية” فى حين أن ما سبق من فرض يؤكد أنها موجودة كامنة واعدة من البداية عند كل الناس بلا استثناء، هناك من يلغيها أصلا، وهناك من يسمع عنها فينكرها، وهناك من يستبدلها بمثيلتها من اللؤلؤ المزيف -خشية السرقة- فلا يتمتع بها أصلا، فلماذا وردت ” اللؤلؤة” فى هذه الفقرة كهدية (من الخارج)؟
تفسيرى لذلك أن الهدية لم تكن هى اللؤلؤة، وإنما “الوعى بها” وبقيمتها وطبيعتها الخاصة الخفية، “البديعة”، مع بقائها بعيدة عن التعرف والتناول.
فنلاحظ التوازى أكثل من التفسير، مع اختلاف التاريخ ونوع الإبداع، (وعذرا للاستشهاد بنفسى)
الخلاصة المرحلية:
أولا: إن النصوص قد تلتقى لإظهار الحقيقة.
ثانيا: إن الإبداع قد يكشف نفس الحقيقة مع أختلاف التشكيلات
ثالثا: إن النقد يكمل النص
رابعا: إن النص يستثير وعى الناقد فينقد إبداعاً على إبداع.
خامسا: إنه برغم العلاقة الوثيقة بين هذه العمليات جمعيا، فإنها ظاهرات ليست متماثلة إلا فى خطواتها الأولى (كما ذكرنا)، لكن هذا لا يمنع أن تكمِّل بعضها بعض.
سادسا: بالنسبة لشخصى، فأنا لم أعد أتبين من أين بدأت فروضى من هذه المناطق جميعا، لكننى على يقين من أننى لم أفرض منظومة بذاتها على الأخرى
ونكمل غدًا الحديث عن إدراك محفوظ لهذه الوصلة الوثيقة بين هذه العمليات المتماثلة المتباينة حتما.
[1] – Consensual Validity
[2] – يحيى الرخاوى “عن طبيعة الحلم والإبداع” (دراسة نقدية فى أحلام نجيب محفوظ) دار الشروق – الطبعة الثانية: قيد الطبع الآن.
[3] – Interpersonal consciousness
[4] – يحيى الرخاوى “أحلام نجيب محفوظ تعد من قبيل المنامات..أم هى أحلام يقظة” مجلة إبداع العدد الأول يناير/مارس 2002.
[5] – يحيى الرخاوى: “أصداء الأصداء” – تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ” (الفصل الثانى: فى مقام الحيرة، والدنيا تضرب تقلب!! فقرة 71) الناشر: المجلس الأعلى للثقافة 2006.