نشرة “الإنسان والتطور”
الثلاثاء: 16-2-2016
السنة التاسعة
العدد: 3091
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية الفصل السابع:
ملف الاضطرابات الجامعة (36)
الطبنفسى التطورى الإيقاعحيوى (5)
Biorhythmic Psychiatry
مقدمة:
بعد أن رحت أتأمل فى جدول المقارنة الذى نشر أمس، وجدت أن الفروق أكبر مما كنت أتصور، وبالرغم من أن تنظيرى فيما يسمى النظرية التطورية الإيقاعحيوية محمل بجرعة عالية من التطور، إلا أن الفروق – من خلال الجدول – أكدت لى أن البعد الإيقاعحيوى أكبر بكثير، وفيما عدَا “نظرية الاستعادة” وما قست عليها من قياسات دورات أصغر فأقصر لما هو الايقاعحيوى، فإن علاقة النظرية ببرامج التطور بدت لى أضعف بكثير، وعلى الرغم من من علمى بأن القياس الذى بنيتُ عليه قراءة مستويات الإيقاعحيوى لا يمكن إثباتها بطرق البحث التقليدية، إلا أن الممارسة الإكلينيكية تظل مبنية عليها طول الوقت.
لكل ذلك رأيت اليوم.
أولا: أن أعلن الاكتفاء باسم الطبنفسى الإيقاعحيوى بديلا عن الطبنفسى التطورى والإيقاعحيوى وحتى لو ظلت النظرية بنفس اسمها القديم النظرية التطورية الإيقاعحيوية.
ثانيا: أن أبدأ بتقديم نبذة تاريخية / شخصية، عن مسار تطور فكرى (ممارستى) قبل مواصلة تقديم هذا الطب أساسا، أكثر من التركيز على النظرية.
نبذة تاريخية/ شخصية:(1)
لم تكن المسألة اختيارا بحتا، منذ ما يقرب من نصف قرن وأنا أعيش معهم، بينهم، فيهم فىّ، وكنت حين بدأت قراءتى فى مدارس علم النفس المعاصرة، وكان الكتاب شبه مقرر فى دبلوم التخصص (حوالى سنة 1960)، تأليف وودورثWoodworth ، رحت أتعجب من كثرة هذه المدارس وتنوع رؤيتهم لما هو إنسان، وكنت كلما قرأت مدرسة وجدت أنها صحيحة، فإذا انتقلت إلى أخرى وجدت أيضا أنها صحيحة، فثالثة ورابعة وهكذا، إلا فرويد العظيم، هو الذى كان يثيرنى فأرى أن مدرسته صحيحة أحيانا وشاطحة أحيانا، لكن الذى أعجبنى فيه بوجه خاص هو أنه كان قادرا على التغيـُّر، فثم فكر فرويدى باكر، وآخر متأخر، وكان من أحسن أفكاره الباكرة – وقد تنكر لها – وهى التى لم تنشر إلا بعد موته هو المشروع The project ، ثم أعجبنى فيه أيضا شجاعته التى اقتحم بها الموت، أعنى ”غريزة الموت”، ثم قيل أنه تراجع عنها قبل أن يموت، أما فرويد الشخص المهزوز الذى يغمى عليه حين يشتد خلافه مع كارل يونج، فقد وصلنى منه ضعفه البشرى، وبصراحة لم أتأكد من علاقاته واعتماده على الهيروين كما قيل، لكنه ظل عندى فرويد العظيم الذى احترمه ولا أتبعه.
وكان سيدنا يونج من أطيب من عرفتهم حتى الانبهار وهو يغور غورا إلى النماذج الأولية ولا يتردد فى السباحة فى اللاشعور الجمعى.
أما الأستاذ (الخُوجَهْ) العنيد ألفرد أدلر فقد مثل لى التحدى والمدرسية التى يكاد يزعم من خلالها أن ”التربية” قادرة على أن تصلح ما أفسد الدهر، والوراثة أيضا!!
وحين ذهبت إلى فرنسا (1968-1969) لعام واحد: حضرت بانتظام مع ”هنرى إى” Henry Ey بالذات (جنبا إلى جنب مع حضورات متقطعة “لجان ديلاى”Jean Delay، مكتشف أول عقار ضد الذهان، وأعظم عقار حتى الآن (الكلوربرومازين) وكذا حضرت قليلا جدا لقاءات “جاك لاكان”Jacques Lacan شخصيا (ولم أفهم شيئا)، وقد كان كل هؤلاء الثقات يتناوبون الحضور وعرض الحالات وحلقات النقاش فى نفس القاعة فى مستشفى “سانت آن” بالحى الثالث عشر فى باريس، جذبنى من كل هذا ”هنرى إى” وهو ينبه أن مسألة اللاشعور الفرويدية هذه هى أقل من الإحاطة بالإنسان، وأنه ينتمى إلى -أو لعله صاحب مدرسة- “علم نفس الشعور”، حيث يعتبر أن الشعور (الوعى Consciousness) هو الرائد، و ما دون ذلك يتبعه أو لا يتبعه، وكان النموذج الذى يحتذيه هنرى إى فى رؤيته لترتيب مستويات الشعور، ومن ثـَمَّ منظومات الدماغ، هو نموذج الفيلسوف طبيب الأعصاب “هوجلج جاكسون” Huglig Jackson الذى علمنا منذ القرن التاسع عشر كيف أن المخ البشرى مرتب بشكل هيراركى متصاعد، وأن الأعراض التى تظهر فى اضطرابات الجهاز العصبى هى مجموع فشل المستوى الأعلى، بالإضافة إلى ظهور (إطلاق Release) المستوى الأدنى (الأقدم تطوريا)، كما طمأننى هنرى إى إلى ما خطر لى أثناء الممارسة عن علاقة الصْرع بوجه خاص بالأمراض النفسية، وأيضا أعاد لى ثقتى بأن كل هذه المدارس، أقرت أم نفت، هى ذات جذور بيولوجية، فقد كان يطلق على فكرة مصطلح “البيولوجية الدينامية”Organo-dynamism ولست متأكدا إن كان اسماه بــ “النظرية” أم لا.
وفى فرنسا أيضا أتيحت لى الفرصة لظروف شديدة الخصوصية (ذكرتها فى موضع آخر فيما يشبه السيرة الذاتية(2) أن أقرأ كتاب “جانترب” عن: “الظاهرة الشيزيدية والعلاقة بالموضوع والذات”(3)فانفتح لى أفق لم أكن أحلم به فى نقد فرويد من ناحية، والتعرف على ميلانى كلاين Melanie Klein وفيربيرن Fairbairn (محلل جانترب) من ناحية أخرى، وظللت وأنا أقرأ هذا الكتاب ملتهما صفحاته أتعجب على خيال هؤلاء الناس وهم يربطون كل شيء تال بعلاقة الطفل بأمه فى الشهور الأولى وهو يمر بأطوار بالمواقف المختلفة من الشيزيدية إلى البارنوية إلى الاكتئابية، ليظل متأثرا بموقفه الأول هذا طول حياته، بسبب موقف أمه منه بالذات فى هذه المراحل، وهى الموضوع الأول، فى هذه الأشهر الباكرة، وبالرغم من اقتناعى بسلامة الأفكار ودقة الملاحظات وحبكة الخيال، إلا أننى كنت متحفظا طول الوقت على أن يكون موقف الأم أساسا هو المسئول عن مدة ومدى وآثار التوقف فى هذه المحطات النمائية التى اسمتها هذه المدرسة بالمواقع، وهى الموقع الشيزيدى Schizoid Position والموقع البارنوى Paranoid Position، فالموقع الاكتئابى Depressive Position (وذلك بعد أن عدّل جانترب الترتيب) من هنا بدأت نقلتى إلى البحث عن جذور هذه المواقف فى الفكر التطورى، وأننا نرثها أساسا من أسلافنا الأحياء، وأنها تختلف شدة وضعف حسب جذورنا التطورية، وأيضا حسب التاريخ الوراثى الأقرب، وأن دور الأم هو دور تدعيمى لهذه المواقع الواحد تلو الآخر، وذلك باختلاف موقفها وطريقة علاقاتها بالكيان الطفلى النامى.
وحين رجعت إلى الوطن، ومنذ أوائل السبعينات وجدت نفسى فى رحاب سلسلة أخرى من المدارس الأحدث كان من أهمها مدرسة التحليل التفاعلاتى Transactional Analysis لصاحبها الدمث إريك بيرن(4)، الذى لم يعرف كيف يستثمر هذا الفتح الهائل فشوهه تلاميذه بالتبسيط والتسطيح، ثم ”ساندور رادو” صاحب الفكر الهيراركى البيولوجى المتناغم، ويقفز صديقى (من القراءة وليس شخصيا) سلفانو أريتى Silvano Arieti [5] إلى وسط سوق المدارس دون أن يصنف نفسه كصاحب المدرسة خاصة، لكنها تصلنى باعتبارها المدرسة المعرفية الإرادية Cognitive Volitional Theory وإن كانت شهرة أريتى أكثر هى من خلال كتابه العظيم “تفسير الفصام”Interpretation of Schizophrenia، ثم وصلنى – ربما مصادفة – كيف أن شولمانShulman [6] من خلال كتابه “مقالات فى الفصام” Essays in Schizophrenia قد عزى إلى “أدلر” Alfred Adler وعلم النفس الفردى مفهوما غائيا يعطى لأعراض الفصام معنى ودوراً، ولم أكن قدأدركت باكرا أن أدرلر يمثل كل هذه الغائية التى التقطها شولمان، فإذا به يرسم مسيرة الفصام على لسان رحلة فصامى وكأنه اختار كل مرحلة ليحقق بأعراضه وتفككه وتفسخه وانسحابه ما لم يستطع أن يحققه فى صحته التى اعتبرها الفصامى: اغترابه، وهذه الغائية هى من أساسيات الفكر التطورى.
وبعد
هكذا ظللت أمارس مهنتى طول الوقت وأنا محاط بكل هذه الأفكار الهادية المضيئة، آخذا من كل منها ما يناسب مريضى فى وقت بداته لمرحلة بذاتها لهدف بذاته، أحاول أن استمع للأعراض أكثر من استماعى للشكوى والمطالب، وأحاول أن أفهم وظيفتها أكثر من تركيزى على تسميتها، ثم أحاول أن أحقق لها وظيفتها بالسبيل السليم بدلا من تماديها فى التدهور إلى المآل المرضى السلبى مستعملا فى ذلك كل المتاح من معارفى وخبراتى بلا استثناء.
ثم لحق الطب النفسى التقليدى ما لحقه من “عولمة” مغيرة (بعد أمركية خبيثة) كادت تشككنى فيما أفعل رافعا لواء ما أسموه النموذج الطبىMedical model ، لكننى واصلت نقدى وتعلمى من مرضاى لأتبين أكثر فأكثر أن الطب النفسى قد انساق وراء فروع الطب الأخرى فى حكاية توحيد اللغة وزعم اللاأيديولوجية، وزعم اللانظريةAtheoretical حتى ضاعت معالم كل شيء لحساب وصف سطحى تصنيفى ليس له فائدة عملية إلا أن نتفق،
نتفق على ماذا؟ ليس مهما، المم أن نتفق.
أين الهدف ؟ أين الإنسان ؟ ماذا نفعل ونحن نعالج ؟
لنصل إلى ماذا؟ يعنى ماذا؟
كل هذا توارى فى خلفية وعى الممارسين ما دمنا قد اتفقنا والسلام، على الاسم، والسبب الكيميائى، وأحيانا فك العقد الباكرة.
أين المعنى؟ أين التاريخ الحيوى؟ أين الوعى المطلق؟ أين الله معاً.
الخلاصة:
هكذا وجدت نفسى أمارس طبا يحتاج أن أرصد معالمه، وقد أنظـّر له
وتمضى عشرات السنين لتتاح الفرصة لهذا الطب أن يجد له اسما، ولهذه النظرية أن تسجل منتظمة، ولهذه المحاولة أن تعرض بشكل أكثر تفصيلا ودعما تحت مسمى:
الطبنفسى الإيقاعحيوى.
أدعو الله أن أستطيع.
[1] – كتبت هذه الكلمة حوالى سنة 1980، وسوف أقدمها كما هى لأناقش ما تغير أو تطور فيها فيما بعد.
[2] – ترحالات يحيى الرخاوى الجزء الثانى “الموت والحنين”، مطبعة المدينة، الطبعة الأولى 2000، الفصل الخامس ص 209
[3] – Harry Guntrip, Schizoid phenomena, object-relations, and the self , Published 1969 by International Universities Press in New York .
[4] – Eric Berne, Transactional Analysis in Psychotherapy in 1961
[5] – Silvano Arieti , Interpretation of Schizophrenia (first edition, 1955)
[6] – Bernard H Shulman, Essays in schizophrenia, Baltimore, Williams & Wilkins, 1968