الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية الفصل السابع: ملف الاضطرابات الجامعة (17) ‏الواحدية‏ ‏والذات‏ ‏والجسد‏ أولا‏: ‏اضطرابات‏ “الواحدية‏”

الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية الفصل السابع: ملف الاضطرابات الجامعة (17) ‏الواحدية‏ ‏والذات‏ ‏والجسد‏ أولا‏: ‏اضطرابات‏ “الواحدية‏”

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 26-12-2015

السنة التاسعة

 العدد: 3039

   الأساس فى الطب النفسى 

 الافتراضات الأساسية الفصل السابع: 

ملف الاضطرابات الجامعة (17)

‏الواحدية‏ ‏والذات‏ ‏والجسد‏

أولا‏: ‏اضطرابات‏ “الواحدية‏”

من‏ ‏بين‏ ‏المحكات‏ ‏التى ‏تُقيّمَ‏ ‏بها‏ ‏الشخصية‏  ‏والصحة‏ ‏النفسية‏: ‏بعُد‏ ‏الواحدية، ‏أى  ‏أن‏ ‏الشخص‏ ‏السوى ‏يحضر ونتعامل معه ‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏ ‏باعتباره‏ “‏وحدة‏ ‏متكاملة‏” (‏غير‏ ‏منقسة‏ ‏أو‏ ‏متعددة‏) ‏فى ‏لحظة‏ ‏بذاتها، ‏وخاصة‏  ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بالفعل‏ ‏الإرادى ‏والسلوك‏ ‏العام‏.‏

ومما‏ ‏يحافظ‏ ‏على ‏الواحدية‏ ‏فى ‏الأحوال‏ ‏العادية‏ ‏هو‏: ‏قوة‏ ‏الفكرة‏ ‏الغائية‏ ‏المحورية‏ ‏التى ‏تجمع‏ ‏تنظيمات‏ ‏الذات‏ ‏حولها، ‏وهذا‏ ‏مرتبط‏ ‏بتوجُّه‏ ‏الطاقة‏ ‏النفسية‏ ‏معا‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يضمُّ‏ ‏الذات‏ ‏إلى ‏كيان‏ ‏متسق‏ ‏هادف، ‏وباستعمال‏ ‏اللغة‏ ‏التركيبية‏ ‏لوصف‏ ‏منظومات‏ ‏الذات ‏(‏مثلا‏ ‏منظومات‏ ‏الأنا، مستويات الوعى، حالات العقل…إلخ) ‏فإن‏ ‏الواحدية‏ ‏تتحقق‏ ‏بغلبة‏ ‏منظومة‏ ‏واحدة‏ ‏تقود‏ ‏بقية‏ ‏المنظومات‏ ‏فى ‏وقت‏ ‏بذاته، ‏وهذا‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الشخص‏ ‏ثابت‏ ‏الصفات‏ ‏أو‏ ‏غير‏ ‏مرن، ‏لأنه‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏أخرى، ‏وحسب‏ ‏الموقف، ‏تقود‏ ‏مجموعة‏ ‏المنظومات‏ ‏منظومة‏ ‏أخرى ‏مناسبة‏ ‏وهكذا‏، ‏كما‏ ‏أن‏ ‏الواحدية “تتفكك” ‏فى ‏الأحوال‏ ‏العادية‏ ‏فى ‏نشاط‏ ‏الحلم‏ ‏مثلا.‏

وقبل‏ ‏التعرض‏ ‏لاضطرابات‏ ‏الواحدية‏ ‏المتعلقة‏ ‏بمفهوم‏ ‏تعدد‏ ‏الذوات، وتعدد مستويات الوعى ..إلخ، ‏ ‏لابد‏ ‏هنا‏ ‏من‏ ‏التنويه‏ ‏على ‏أن‏ ‏مفهوم‏ ‏الأنا‏ ‏عند‏ ‏فرويد‏ ‏هو‏ ‏مفهوم‏ ‏محدود‏ ‏بعض‏ ‏الشىء، ‏وأن‏ ‏استعمال‏ ‏لفظ‏ حالة الذات أو حالة العقل أو مستوى الوعى ‏تركيبيا‏ ‏يمتد‏ ‏ليشمل‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ -‏ بلغة‏ ‏فرويد‏- ‏أن‏ ‏يقع‏ ‏فى ‏ما‏ ‏أسماه‏ ‏اللاشعور، ‏وهو غير ما‏ ‏نشيرإليه‏ ‏باعتباره‏ “وعى” آخر، ‏أو‏ ‏تنظيم‏ ‏آخر، فبينما‏ ‏الـ”هو”‏ ‏عند‏ ‏فرويد‏ ‏يمثل‏ ‏طاقة‏ ‏غريزية‏ ‏منطلقة شُوَاشية‏ ‏لا‏ ‏شعوريا، ‏فإن التعدد التركيبي يتجاوز ذلك إلى اعتبار الكيانات الداخلية، واختلافها نوعيا، وتطوريا،واقعا داخيا حاضرا له معالمه الجاهزة ، مما يجعل اختزاله إلى ما هو “كيان شُـوَاشىّ بدائى غير منضبط: اختزالا معطلا بأخف تعبير.

26-12-2015_1

‏الاضطرابات‏ ‏المتعلقة‏ بالواحدية‏:‏

أولا‏: ‏الافتقار‏ ‏إلى ‏الواحدية‏ ‏فى ‏اللحظة‏ ‏الراهنة‏:‏

الواحدية‏ ‏ليست‏ ‏مطلوبة‏ ‏بالمعنى ‏الدائم‏ ‏أو‏ ‏المنغلق‏ ‏الجامد، والافتخار “بالشخصية القوية” أصبح مجال مراجعة نقاش شديدين، والحرص على الثبات على المبدأ يكاد يصبح نقيصة بالمقارنة بالحرص عى ان تظل الشخصية فى حالة التخلق المستمر(1)،‏فهى ‏تهتز‏ ‏قليلا، بل كثيرا، ‏ ‏فى ‏الظروف‏ “الفسيولوجية‏” العادية‏ ‏مثلما‏ ‏يحدث فى الحلم ‏ ‏أثناء‏ ‏النوم‏ ‏النقيضى (نوم الريم)  بالذات(2)

‏وأيضا‏ ‏قد‏ ‏تحدث‏ ‏خلخلة للواحدية ‏ فى مرحلة التفكيك الإيجابى تحضيرا لإعادة التشكيل فى عملية الإبداع،

26-12-2015_2

أما  ‏فى حالة المرض فإن المسألة تتجاوز هذه التعتعة إلى نوع من الإدراك المتوسط أو الجسيم حين يستشعر‏ ‏الشخص‏ ‏خبرة‏ ‏تغير‏ ‏الذات، بمعنى واضح ومستمر نسبيا، يحدث هذا أحيانا فجأة أثناء النظر فى المرآة، وأحيانا بدون ذلك، وقد يتكلم المريض على انه مختلف عن ذى قبل، دون تفاصيل، وقد يكون ذلك لأنه أدرك التغيّر دون تحديد التغير إلى “من”، كما قد يتمادى حتى يعلن أنه لم يعد هو نفس الشخص، وكل هذا سبق أن أشرنا إليه فى اضطرابات إدراك الذات فى فصل الإدراك، لكننا نضيف هنا أنه لكى يعد هذا الشخص مضطربا من منظور الواحدية، فإنه يشترط أن يتمادى هذا الشعور مع وجود اليقين الأولى باستمرار الشخصية الأّولى مهما تغيرت وأضيف إليها هذا الشعور الجديد الذى قد يستمر لبعض الوقت، أو قد ينقلب إلى ضلال التعدد وأنه لم يعد واحدا، بمعنى أنه‏ ‏أصبح‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏واحد، ‏أو‏ ‏أنه‏ ‏يشعر‏ ‏وكأنه‏ ‏يتبدل‏ ‏بين‏ ‏واحد‏ ‏وآخر‏.

وهنا ينبغى أن ننبه إلى ضرورة التفرقة بين هذا الاضطراب هكذا، وبين ما يسمى “ازدواج الشخصية، أو تعدد الشخصية” (3)لذى هو انشاق تبادلى فى الوعى سبق أن أشرنا إليه فى موضعه.

وفى ‏بداية‏ ‏الذهان‏ ‏تظهر‏ ‏معالم‏ ‏هذ‏ ‏الازدواج‏ (‏أو‏ ‏التعدد‏)، ‏وكثيرا مما‏ ‏تنتمى بدايات بعض أعراض‏ ‏شنايدر‏ ‏من‏ ‏الصف‏ ‏الأول إلى هذه الظاهرة  ‏التى  ‏يستقبلها‏ ‏المريض‏ ‏بخبرات‏ ‏تتراوح‏ ‏بين‏ ‏الوعى ‏المباشر، ‏والإسقاط‏ ‏النسبى، ‏والصور الخيالية‏ ‏الصريحة، ‏وذلك‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏تنقلب‏ ‏هذه الخبرات‏ ‏إلى ‏ضلالات‏ ‏وهلاوس‏ ‏معقلنة‏ ‏وثابتة

وثم ‏عرض‏ ‏آخر له‏ ‏علاقة‏ ‏باضطرابات‏ ‏الواحدية‏ ‏وهو‏ “إدراك‏ ‏الذات‏ ‏المتعين، بمعنى  أن المريض يشعر أن ذاته منفصلة عنه وتسير خلفه أو بمحاذاته، وهى ظاهرة تعلن تعتعة الواحدية، وليس لها علاقة، مرة أخرى، بازدواج الشخصية، لكنها ‏إعلان‏ ‏لهذه‏ ‏التعتعة‏ ‏الباكرة‏ ‏التى ‏تنذر‏ ‏ببداية‏ ‏فقد‏ ‏الواحدية‏ ‏مع‏ ‏درجة‏ ‏بسيطة‏ ‏من‏ ‏الإسقاط”

وقد حضرنى تفسير خاص بعد نشرة حوارى مع النفرى (نشرة 16-12-2015) حول توحد مستويات الوعى (نشرة 24-5-2015) فى لحظة متناهية الصغر كشرط لخبرة من يعيش كادحا إلى وجهه تعالى دون أى زعم برؤيته، وهو أن هذه الواحدية ممكنة لبعضنا إن أخلص الكدح كجزء من لحظة غير قابلة للوصف أو الحكى، وأن لها علاقة بمعايشة أنه “لا إله إلا الله” حيث يربط التوحيد بشكل غير مباشر بالواحدية غالبا، وبالتالى فإن ما يحافظ على الواحدية‏ هو توجه‏ ‏الطاقة‏ ‏التكاملية‏ ‏الضامة‏ ‏المسئولة‏ ‏عن‏ ‏استمرارية‏ التوحيد، إلى غاية واحدة جامعة ضامة دون إلزام الوصول إليها

  ‏هذا‏ ‏علما‏ ‏بأن‏ ‏هذه‏ ‏الطاقة‏ ‏تعتمد‏ ‏على ‏أمرين

‏الأول‏: ‏كفاءة‏ ‏الفكرة‏ ‏المركزية‏ (مثلا: لا إله إلا الله!) ‏بتنظيماتها‏ ‏الملتفة‏ ‏حولها‏ ‏والمنجذبة‏ ‏إليها‏،

‏والثانى: ‏هو‏ ‏قدرة‏ ‏منظومة‏ ‏الذات‏ ‏القائدة‏ ‏لغيرها‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏بذاتها‏ ‏على ‏أن‏ ‏تستبعد‏ ‏ما‏ ‏عداها،

استبعاد ما ليس كذلك:

ثمَّ خلط يأتى من استعمال تعبير انفصام الشخصية مرادفا للفصام، فيصل إلى العامة على أنه ازدواج للشخصية، فى حين أنه انشطار أكثر منه ازدواج ، حتى لو خرج من شرخ هذا الانشاطار إسقاطا أو تفعيلا تنظيمات أخرى بديلة بدائية أو شواشية أو مُبْتدعة.

كذلك يحدث خلط بين العامة (وفى الإعلام كثيرا) حين يوصف تغير مزاج الشخص من النقيض إلى النقيض عى أنه فقد للواحدية، وهو ليس كذلك لأن فقد الواحدية الذى يكشف عن التعدد إنما يحدث فى نفس اللحظة وليس بالتبادل، وهكذا ينبغى أيضا  ألا نعتبر سرعة تقلب المزاج هو فقد للواحدية، بل إنه طبع سائد ولابد أن يقبل أحيانا كمزية للتفاعل المتغير مع الأحوال المتغيرة

26-12-2015_3

 إذن فالعجز‏ ‏عن‏ ‏الحفاظ‏ ‏على ‏الواحدية‏ ‏على ‏البعد‏ ‏الطولى (‏أن‏ ‏يظل‏ ‏الفرد‏ ‏واحدا‏ ‏على ‏طول الخط)، ليس اضطرابا وليس مرضا،  فليس معنى ‏الحفاظ‏ ‏على ‏الواحدية‏ ‏أن‏ ‏يظل‏ ‏الفرد‏ ‏ثابتا على ما هو عليه.

ومن المقبول والمتوقع ‏ ‏أن‏ ‏الواحدية‏ ‏تهتز‏ ‏مرحليا‏ ‏فى ‏أزمات‏ ‏النمو‏ ‏لتعاود‏ ‏تماسكها‏ ‏متى ‏تخطى ‏الفرد‏ ‏أزمة‏ ‏النمو‏ ‏إلى ‏تميزه‏ ‏الجديد‏ ‏فى ‏المرحلة‏ ‏التالية‏ ‏وهكذا‏.‏

وهكذا‏ ‏نخلص‏ ‏إلى ‏القول‏ ‏بأن‏ ‏اهتزاز‏ ‏الواحدية‏ ‏أو‏ ‏ضعفها‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يعتبر‏ ‏مرضا أو عرضا‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏توفرت‏ ‏الشروط‏ ‏التالية‏ ‏

 (أ‏) ‏أن‏ ‏يحدث‏ ‏التفكك‏ ‏فجأة‏ ‏ودون‏ ‏إعداد‏ ‏أو‏ ‏توقع‏ ‏ ‏

‏(‏ب‏) ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏التغير‏ ‏الناتج‏ ‏عن‏ ‏ذلك‏ ‏كبيرا‏ ‏وفى ‏اتجاه‏ ‏معاكس أو على الأقل مغاير

‏(‏جـ‏) ‏أن‏ ‏يعانى ‏الفرد‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏النقلة‏ ‏معاناة‏ ‏شديدة

‏(‏ء‏) ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏المسافة‏ ‏بين‏ ‏الذوات‏ ‏المتفككة‏ ‏كبيرة‏ (‏من‏ ‏منظور‏ ‏تركيبى ‏ينعكس‏ ‏فى ‏السلوك‏)‏

‏(‏هـ‏) ‏أن‏ ‏يترتب‏ ‏على ‏هذا‏ ‏التفكك‏ ‏درجة‏ ‏جسيمة‏ ‏من‏ ‏الإعاقة‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏رصدها‏ ‏كميا‏ ‏وموضوعيا

‏(‏و‏) ‏أن‏ ‏يطول‏ ‏التفكك‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تستوعبه‏ ‏أزمة‏ ‏نمو، ‏وبالتالى ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏له‏ ‏ناتج‏ ‏ولافى ‏أعلي.

 

[1]  التعبير الذى أعجبنى بالإنجليزية هو  always  in the making، ونظرا لافتخارى بلغتى ، وغيرتى من أى لغة أخرى تتجاوز قدراتها، فقد بحثت عن ما يقابل هذه اللاحقة ing  فى العربية ولم أجدها، فقررت أن أستعمل حقى فى النحت ، وأدخلت استثناء لأداة التعريف أن تدخل على الفعل المضارع فصار المقابل أن الشخصية السوية هى التى فى “الْـيـَتـَكـوّن باستمرار”!!

[2] – يمكن الرجوع إلى ملف الأحلام لو سمحت (نشرة 19-7-2015) و(نشرة 20-7-2015) و(نشرة 26-7-2015)

[3] – وهو ما نبهنا إلى استبعاده  فى حالة “محمد طربقها فى آخر نشرة أو اثنتين  (نشرة 21-12-2015) و(نشرة 22-12-2015)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *