نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 19-12-2015
السنة التاسعة
العدد: 3032
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية الفصل السابع:
ملف الاضطرابات الجامعة (15)
عودة إلى اضطرابات الزمن: “كعرض أو مرض”
المقدمة:
لا بد أن أقدم اعتذارى – كالعادة – لكل من يتابعنا مع أن عشمى فى تحمله يعفينى من الاعتذار، فقط التمس له العذر إذا كان قد نسى أننا مازلنا نقلب صفحات ما أسميناه “الأساس فى الطب النفسى” فإذا به الأساس فى الطبيعة البشرية وانحرافها ونقدها للإسهام فى إعادتها إلى ما هو “ربى كما خلقتنى”.
نحن الآن فى فصل اسميته الاضطرابات الجامعة تمييزا عن اضطرابات الوظائف الممكن تحديدها مثل اضطرابات الكلام والتفكير والاحساس وغيرها، وللتذكرة فقد جمعت تحت ما اسميته “الاضطرابات الجامعة” كلا من اضطراب الوعى والبصيرة والتمييز والزمن، ثم سوف ننتقل إلى اضطرابات الذات واضطراب الواحدية بعد ذلك.
بالنسبة للزمن فقد استدرجتنا محاولة الإحاطة بطبيعة أبعاده كل النشرات القريبة السابقة، وأعتقد أنه قد آن الأوان للعودة إلى ما يسمى اضطرابات الزمن المحددة، خاصة تلك التى نفحصها فى الممارسة الإكلينيكية، مع اعترافى بصعوبة بالغة فى تقديم المعلومات أقرب إلى الطريقة التقليدية، لكن هذا ما زال وفاءً للوعد الذى وعدته لزملائى الأصغر حين بدأت هذا العمل “الأساس فى الطب النفسى”!!
وبعد
نعم، تبدو العودة صعبة بعد ان ترامت بنا الأبعاد ونحن نفرق بين الوقت والزمن، ثم ما أجريناه من تجريب على الزملاء وعلى شخصى فى النشرات الخمس الماضية، فنعود والعود صعب، لكن أيضا: العود أحمد: نعود لنحدد كيف نتعامل مع اضطرابات الزمن حين نضطر إلى ترجمتها إلى أعراض مرضية محددة، ما أمكن ذلك.
قبل ذلك أرجو ألا ينسينا ذلك ما اضطررنا للتوسع فى عرضه لأنه أصل أيضا وأصلا فى الممارسة الحياتية عامة والإكلينيكية خاصة، وخاصة أن العلوم المعرفية الأحدث فالأحدث أصبحت قادرة على صياغة ما قدمناه من فروض فى مفاهيم واقعية بلغة علمية حديثة مفيدة مهما كانت صعوبتها.
مثلا: لعل المتابع لمجمل ما افترضناه انكشف له ولنا عن أهمية ومغزى التوقف عند أجزاء أجزاء الثوانى، كما لعله قد لاحظ أن قبول هذا الاحتمال لابد أن يعمِّق مسئوليتنا، وفى نفس الوقت يطمئننا ويدفعنا مع مرضانا (وغيرهم) إلى مزيد من المسئولية والتفاؤل والإيمان، وقد عرضنا بعض الإشارات لمثل ذلك ليس فقط فى هذا العمل (الأساس فى الطب النفسى) وإنما حيثما أتيحت الفرصة المعرفية لذلك: مثلا: فى حوارات النفرى (نشرة 16-12-2015) أو حالات وأحوال (نشرة: 15-12-2015) وغيرها، ألم نذكر مثلا: أن ما يسمى رؤية الله (عموما وفى الخبرة الصوفية الحقيقية فعلا) إنما تتم (حين تتآلف كل طبقات الإدراك ومستويات الوعى معا) فى مثل هذا الجزء من الثانية (راجع حوارى مع مولانا النفرى) وأن هذه الخبرة فد تكون كافية للانطلاق منها إليه دون ترجمتها إلى ألفاظ بل ودون الإشارة إليها أصلا أو حتى الحديث عنها؟
من أهم ما يعين على مواصلة العلاج عامة والعلاج الجمعى خاصة هو تصديق أن ثمة خبرات بالغة الضآلة تجرى بين المشاركين فى هذا العلاج من خلال جدل الوعى البينشخصى فالوعى الجمعى، علما بأن هذه التغيرات لا تُرصد فى شكل اختفاء الأعراض أو التغير النوعى المرصود فى أى مجال من مجالات السلوك، لكنها هى هى التى تتراكم وتتفاعل وتتجادل حتى يظهر التغيير النوعى الدال على استئناف مسيرة النمو البشرى نحو ما خلق له.
ثم اختم كل هذه المقدمة التى كادت تسحبنى الناحية الأخرى: بالتذكرة بأن هذه التغيرات المتناهية الصغر هى أصل التطور وبقاء الأنواع كما أشار سليفانو أريتى(1)
ثم ننتقل – بصعوبة – إلى بعض موضوع اليوم تحديدا
مستويات اضطرابات الزمن:
لن نعود إلى استعمال كلمة “الوقت” بعد ذلك، لمنع الربكة، خاصة وقد وصلنا مدى التداخل بين “الزمن” و”الوقت” سواء حسب أغلب المصادر المتاحة أو حتى بالاستعمال العادى الشائع فى ثقافتنا الشعبية،(نشرة 31-10-2015).
والآن
بالنسبة للطب النفسى يتم تقييم اضطرابات الزمن على مستويات مختلفة.
المستوى الأول هو الذى يرتبط بقدرة المريض على تقييم الزمن الذى يمر عليه، والذى يعيشه سواء تم ذلك فى بؤرة وعيه، أم على هامش درايته، وإلى أى مدى يقترب ذلك من الزمن، العادى المسجل بالساعة (وفى النتيجة)، ويدخل العجز عن معرفة الزمن وعن الخطأ فى تقدير العلاقة بالزمن ضمن ما سبق أن أشرنا إليه فى باب الانتباه والوعى، تحت إسم التوهان مثلا، ولن نكرر هنا أن علاقة المريض بالزمن وتقييمه له هى غير القدرة على تحديد الزمان (التاريخ/الساعة/الآن) التى ترتبط بالوعى والتمييز أكثر.
هذا المستوى إنما يتعلق أيضا بقدرة الشخص (أو المريض) على تقدير الوقت الذى يمضيه فى عمل ما، أو فى نشاط ما على حساب آخر، وأيضا قد يدخل فيه نوع تعامله مع الزمن كقيمة موضوعية حياتية جوهرية خاصة، وهذا يؤدى إلى المستوى الثانى للعلاقة بالزمن.
المستوى الثانى يخص اضطرابات الزمن بصفته متغير كيانى مستقل (البعد الرابع) له علاقات متعددة بأبعاد الوجود الأخرى فى الصحة والمرض، والزمن فى هذا المستوى هو من أهم الأبعاد التى لها علاقة بالواقع الموضوعى، ويمكن اعتبار الحياة برمتها أنها وحدة من الزمن المحدد النهاية، وكل الأبعاد والوظائف التى سبق تناولها من أول الإدراك حتى الحكم على الأمور والبصيرة مارين بالوجدان والإرادة إنما يكمن الزمن فى مركزها بشكل أو بآخر.
والمتاح من اضطراب هذين المستويين يظهر من خلال خبرة المرضى الذاتية،وكيف يصفون ما طرأ على وعيهم بالزمن، وماذا يقولون فيه،أو يشكون منه، وهم يستعملون مصطلح الوقت والزمن، كما يظهر أيضا من خلال تقييم الفاحص لهذا البعد بمقاييسه العلمية، وهذان البعدان يمكن أن يكونا هما المقابل – على الرغم من عدم الدقة- لما يسمى البعد الذاتى والبعد الموضوعى على التوالى.
وفيما يلى بعض التشكيلات (الاضطرابات) الهامة:
أولا : الاضطرابات المتعلقة بالشعور بالوقت (إدراك الوقت)
مرة أخرى نتذكر كيف يسرى الوقت مستقلا واثقا دون أن نرصده بوعى محدد عادة، كما يتداخل مع كل الوظائف الأخرى بعيدا أيضا عن بؤرة الوعى الظاهر. ولو أننا حاولنا أن نَعِى مرور الوقت خاصة حين نركز على تتابع وحداته الصغيرة (والمتناهية الصغر جدا جدا جدا) لسارعنا بإنكار أهمية هذه الوحدات المتناهية الصغر من الزمن مع أنها هى الأصل ويمكن أن نلاحظ أنه بمجرد أن يتقدم بعد الزمن ليحتل موقعا متقدما من الوعى، فإن ذلك قد يشير إلى احتمال درجة من الاضطراب بشكل أو بآخر. (أنظر بعد)
ويمكن أن نعدد بعض مظاهر اضطراب الشعوربالزمن فيما يلى:
1- الشعور ببطء مرور الوقت ( ركود الزمن) حتى توقفه:
هنا يشكو المريض من أن الزمن لا يتحرك وأنه يعد الساعات أو الدقائق، وأنه فى الليل ينتظر – بلا طائل- طلوع النهار، وبالنهار ينتظر غروب الشمس، وهكذا، وقد يعزو ذلك إلى البطء العام، فى حالة الاكتئاب، ولكنه يمكن أن يكون له دلالة خاصة على مدى الضجر من الرتابة والوعى بالاغتراب، ومثل هذا المريض (أو حتى الشخص العادى) ينتظر عادة أى تغيير يرفعه من وهدة الانهباط الراكد فيركز على مرور الزمن لحظة بلحظة فيزداد شعوره بتباطئه، وأحيانا ما يقر بعض المدمنين أنهم إنما يتعاطون هذا العقار أو ذاك فى محاولة كسرهذا الجمود الراكد.
وقد يصل هذا الركود إلى درجة الشعور بتوقف الزمن: وهو شعور قد يحكيه أو يتصرف على أساسه بعض المكتئبين أو ذوى الشخصية الشيزيدية العدمية، وقد يحكى المريض عن ذلك، وهو يعلن نوعا من اليأس العدمى أو الموقف الاحتجاجى الساخر الذى يصف الزمن بأنه تكرار اللاشيء.
من أجمل ما وصف به هذا الشعور هو ما سبق أن أوردناه عن امرؤ القيس وهو يصف أحساسه ببطء مرور الزمن:
ألاَ أَيُّـهَـا الـلَّـيْـلُ الـطَّـوِيْــلُ ألاَ انْـجَـلِــي … بِـصُـبْـحٍ، وَمَــا الإصْـبَـاحُ مـنِـكَ بِأَمْثَلِ
فَــيَــا لَــكَ مَــنْ لَــيْــلٍ كَــأنَّ نُــجُــومَــهُ …. بــكــل مُــغــار الـفــتـل شُــدّت بـيـذبل
كَـأَنَّ الـثُـرَيّــا عُـلِّـقَــت فـي مَـصـامِــهـا …. بِــأَمْــرَاسِ كَــتَّـانٍ إِلَــى صُــمِّ جَــنْــدَل ِ
2- الشعور بتسارع الزمن (جرى الزمن):
وهنا يحس المريض أن الزمن يجرى منه أو يجرى به بشكل لم يعتده، وأنه يلهث وراءه مثلا، وبعض مرضى الهوس يحكى كيف أن الزمن يجرى بسرعة لا يملكون ملاحقتها، وقد يصف بعض المرضى الأحداث وهى تتسارع مثل أسطوانة أغنية تلف بسرعة أسرع من السرعة التى سجلت بها، فى حين أنها سجلت بالسرعة العادية مثلا.
وقد يرتبط هذا الشعور بدرجات أقل فى إفاقة نشطة أو مهيجة حين يشعر الشخص العادى، بل الراضى الممتلئ نشوة وفرحة أن الزمن راح يجرى أكثر مما ينبغى، وهو يريد أن يحتفظ بنبض اللحظات الحالية التى يعيشها الآن، ولعل هذا هو ما تغنت به أم كلثوم للشمس فى أغنية ألف ليلة “وأقول للشمس تعالى تعالى بعد سنة مش قبل سنة” (2)
3- الشعور بتـقطع الزمن: قد يشكو المريض فى هذه الحال من أن الزمن يتوقف فجأة ثم يعود للسريان، بسرعات مختلفة عادة، وهى ظاهرة أقرب ما تكون – قياسا- إلى ما سبق شرحه تحت ما يسمى ظاهرة العرقلة فى التفكير وما قد يتبادل معها من نوبات من ضغط الأفكار، وأحيانا يوصف هذا التقطيع مثل الدفق فالتوقف، فالضغط فالانسحاب (أو حسب تشبيه مريض قال: مثل الماء من صنبور تالف يتدفق بعد انقطاع بشكل غير منتظم).
4- اضطراب الساعة البيولوجية: يرتبط مفهوم الساعة البيولوجية بالإيقاع الحيوى، والزمن البيولوجى بصفة عامة، ويتصل بهذا المفهوم (الساعة البيولوجية) تلك الآليات (الميكانزمات) التى تتحكم - مثلا- فى أن ينام الشخص فى الساعة الفلانية بعادة معروفة أو بتوقيت ذاتى (دون ساعة أو تنبيه) مسبق عند بعض الأفراد، وأن يستيقظ فى الساعة الفلانية، ويمكن أن نلاحظ نفس الأمر بدرجة أقل بالنسبة للوظائف البيولوجية المنتظمة والمتناوبة.
ولا يمكن رصد الاضطرابات الخاصة بالساعة البيلوجية مستقلة تماما، وإنما هى ترتبط بالأعراض الأخرى مثل اضطرابات النوم، أو عدم انتظام دورات الطمث، أو عدم انتظام دورات المزاج المرتبط بالفصول هكذا، والمهم فى هذا المقام هو ما يطرأ من تغيير على علاقة كل فرد بساعته البيولوجية، فمثلا شخص اعتاد أن يوقظ نفسه فى الوقت الذى يريده دون منبه، ثم فجأة وجد أنه لم يعد يستطيع ذلك، أو العكس، أن شخصا آخر اكتشف أنه بدأ يتمكن من أن يستيقظ تحديدا فى الوقت الذى يقرره، فهذا وذاك لابد أن يؤخذ فى الاعتبار ضمن متغيرات أخرى.
ونكمل غدًا
[1] – Silvano Arieti: (1976) Creativity The Magic Synthesis. Basic Books, Inc. Publishers، New York, p12.-13
[2] – وقد حضرنى شعر موازٍ قبل أن أتامل هذه الكلمات فى أغنية ألف ليلة لأم كلثوم قلت فيه:
إنما أحيا بأنفاس البشر
مثل همس الليل فى عمق السحر
يا إلهى: أجّل الفجر فقد طاب السهر
إننى أخشى على سرّى طلوع الشمس أو لفح الهجير