نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 19-4-2015
السنة الثامنة
العدد: 2788
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل الخامس:
ملف اضطرابات الإرادة (19)
ملاحظات شخصية من واقع الممارسة والثقافة(1)
حين أتكلم عن “ثقافتنا” لا أخص بالذكر ثقافتنا العربية أو الإسلامية أو الشرقية، وإنما أتكلم عن “الثقافة الأخرى”، فقد سادت فى العقود الأخيرة هجمة تجميعية تلفيقية ملتبسة تحت اسم “العولمة”، وهى قيمة اقتصادية ثقافية استعمارية تبشيرية كاسحة، ترتدى أقنعة متعددة وفيما يلى بعض ما يوضح هذه المسائل التى يتناولها هذا الملف، وبالذات هذه النشرة.
الثقافة الأخرى ليست عولمة مضادة لكنها ببساطة هى “أخرى”!!، وهى:
- ثقافة الحياة مقابل ثقافة السيطرة.
- ثقافة العقول المتبادلة المبدعة مقابل ثقافة العقل الأوحد الطاغى.
- ثقافة الوعى مقابل ثقافة الرأى.
- ثقافة الناس مقابل ثقافة الفرد.
- ثقافة الإيمان مقابل ثقافة الأوصياء على الدين.
- ثقافة التطور الإيقاعحيوى المستمر مقابل ثقافة نهاية التاريخ.
لن أدخل فى تفاصيل أى من ذلك، وأنصح من يريد أن يطلع على بعض ما أقصد أن يرجع إلى النشرات(2) (العولمة ونوعية الحياة)، (هم يحتاجوننا بقدر ما نحتاجهم) أو إذا أراد أن يرجع إلى منظومة متكاملة فسوف يجدها فى كتاب العظيم أ.د. عبد السلام المسدّى باسم “العولمة والعولمة المضادة”(3).
بصراحة حين رجعت إلى الكتاب وجدت أنننى خططت أغلب ما فيه، وكتبت تعليقات إعجاب وتلمذه، لأننى من حوالى أكثر من عشر سنوات كنت مدعوا لمناقشته فى دار النشر والمجلة “سطور”(4) بفضل كرم صدق المسئولة د. فاطمة نصر رئيسة التحرير.
سوف أقصر حديثى فى هذه النشرة على المنهج الذى ارتضيته: وهو البدء من مرضاى ومن ثقافة ناسى الحقيقيين ثم ألتقى بالسعى أو بالصدفة مع ما يدعم ما وصلنى .
هذه الثقافة الأخرى من المنظور التطورى:
ما دمنا قد انتبهنا إلى أن هناك إرادة لا تصل إلى الشعور، ربما تكون أقرب إلى إرادة الحياة الذى اعتبرتها جزءًا لا يتجزأ من فضل الله على من ينجح فى امتحانات التطور نوعا بعد نوع، مع أن النتيجة لم تكن فى صالح أغلب الأحياء، فالذى بقى هو واحد فى الألف فقط، هذه الحقيقة العلمية التى أكررها باستمرار، هى حقيقة وعلمية، وأنا لم استغربها فالذى لا ينجح يرسب، هذه بديهية، نعم لم تزعجنى لكنها أنذرتنى، وودت لو أنذرت كل بنى نوعى وخاصة من بيدهم الأمر والنهى والقرش والطيارة بلا طيار والثورة والصواريخ الحاملة لها ولغيرها، ما علينا(5).
أعود إلى ما يسمى “القصدية” التى اشار إليها “دانيال دينيت”، باسم “القصدية” أو الغائية التى أرددها كثيرا دون تفصيل، أو “التوجّه” الذى سبق أن وصفته فى مقابل الإرادة فى بداية هذا العمل أثناء مناقشة معالم الصحة النفسية (نشرة: 25-12-2007 “أنواع العقول وتعدد مستويات الوعى”) الله سبحانه خلق الحياة لتبقى ونظّمها بقوانين التطور لتستمر، لم يخلقها عبثا ولا دون تمهيد للسعى على هذا الطريق المفتوح للكادحين كدحا، المحبين للحياة والأحياء، المتوجهين إلى وجهتهم المنغرسة فى تركيبهم البدنى من الفيروس حتى الإنسان إلى ما بعده(6)، لكن هذا الواقع التطورى الشديد البساطة البالغ الوضوح وصلنى من مرضاى ومن اجتهادى، ومن ثقتى بمن اجتهد بما يقدِرُ وما يحاوِلُ أن يحقق به ما نبض فى “كله”(7)، وصلنى من أكثر من مصدر وتدعم مؤخرا بهذه الإنجازات العلمية التى تلوح للكائن البشرى أن أمامه فرصة لتصحيح مساره، ومن هذا المنطلق سوف أحاول أن أقصر حديثى على ما وصلنى أنا وزملائى من خبرة عملية تعد بأن تدعم كل ما استطعت أن أجمعه أو أطلع عليه من هذه المسألة الشديدة الحساسية البالغة الأهمية.
خرجت من خبرتى خلال النصف قرن من الممارسة (إلا ثلاث سنوات) بما يمكن أن أضعه فى الخطوط العريضة التالية:
- لا ينفصل الإيقاع الحيوى عند الإنسان عن الإيقاع الحيوى فى الكون عامة.
- إن الصعوبة التى أشرنا إليها فى مقام كيف أن العلاقة بين البشر تستلزم تحمل الغموض فى مواجهة ضرورية تناقض الوجدان الإيجابى بما يترتب عليه من آلام حافزة للاستمرار فى معاناة الحفاظ على العلاقات بين البشر دون الهرب منها أو اختزالها، (نشرة:2/2/2015 من تناقض الوجدان إلى “تحمل الغموض” إلى الإبداع) أو سوء تأويلها، جاءت هذه المواجهة حية ماثلة أثناء العلاج الجمعى حيث عايشت أننا فى هذا العلاج ننتمى إلى الوعى الجمعى الذى يتخلق تخليقا أثناء الانتظام فى العلاج، أكثر من انتمائنا إلى الوعى البينشخصى بيننا وبين بعضنا البعض، مع أننا نبدأ منه طبعا، نعم نبدأ من الوعى البينشخصى، ولكن فى ظروف تسمح لنا أن نتجاوز ما نشأنا عليه حتى أَمْرَضَنَا وفشلنا فى انتمائنا لبعضنا البعض أشخاصا منفصلين عن الجماعة وحلت الألفاظ المفرغة، والصفقات السطحية، والأراء المعقلنة، محل جدل الوعى مع الوعى، وقد وجدت أن هذه الصعوبة العلاقاتية يحلها الانتماء إلى الوعى الجمعى فى المجموعة مما أكد لى ما يصلنى من ثقافتنا قبل أن تُشوه أو تُمسخ بالتقليد والتسطح والتبعية.
- إن حركية الانتماء إلى الوعى الجمعى فالكونى تتعلق ببرنامجين أساسيين هما من برامج التطور البنائية الأول: برنامج الدخول والخروج(8)، والثانى: برنامج جدل التشكيل بين التناقضات.
- انطلاقا من ثقافتنا الخاصة هذه وصلت إلى ما سبق أن أوجزته فى (نشرة:1/3/2015 اضطرابات الإرادة: من منظور الإيقاع الحيوى- الإرادة عملية متغيرة مع نبض الإيقاع)، ومع أننى أرى أن الرجوع إليها ضرورة لمن يريد أن يتابع هذه الفروض الحالية معنا.
إن الثقافة التى أنتمى إليها، والتى تأكدت من طبيعة معالمها أثناء ممارستى لمهنتى حوالى نصف قرن، منها أربعة عقود فى ممارسة العلاج الجمعى قد تدعمت مؤخرا فى متابعتى لما يستجد فى علوم التطور والبيولوجية العصبية والوعى الكوانتى(9) كل هذا سمح لى أن أطرح فروضا أكثر تحديدا فيما يتعلق بإشكالية الإرادة (والإبداع والحرية فهما لا ينفصلان).
إن الثقافة الممتدة عبر دوائر الوعى تستلزم من أهلها أن يضعوا فى الاعتبار كل الوسائل الممكنة لدعم الجدل التفاعلاتى بين مستويات الوعى الفردى فالجمعى فالجماعى إلى الوعى الكونى إلى الوعى المطلق إلى الغيب، وهذه مسألة – كما ظهرت لى فى ممارستى وتجربتى وحولى – ليست مسألة فلسفية ولا هى حتى مسألة دينية فقط، لكن إذا تكلمنا عن المتغير العلاجى فى العلاج الجمعى فسوف نجد أنه يرتبط بمدى نجاح تخليق الوعى الجمعى خلال مدة العلاج (أثنى عشر شهرا مرة أسبوعيا فى حدود الخبرة التى أتحدث عنها وأنطلق منها)(10).
يصلنى هذا الانتماء إلى الوعى الجمعى(11) فى حركيته التلقائية إلى الوعى الجماعى(12) مع التهيئة التلقائية (دون متطلبات طقوسية محددة) بامتداده إلى دوائر أوسع فأوسع، كل ذلك جعلنى أضع الفروض التالية:
أولاً: إن الإرادة الشخصية ليست منفصلة عن الإرادة الجماعية إلا فى حالات الاغتراب والمرض.
ثانياً: ليس معنى ذلك إلغاء الإرادة الفردية أو الاستهانة بها وإنما هو احترام لهذا الوعى القائم فعلا بين الفرد والآخر: الوعى البينشخصى، وكذلك بين الفرد والجماعة الوعى الجمعى والأخير يتصف بالتوجه الضام الممتد إلى الوعى الجمعى إلى ما بعده.
ثالثا: إن العزوف عن المغالاة فى تقديس قيم مستوردة مثل “إثبات الذات” أو “حرية الرأى” (المنطقى المعقلن) أو “تقديس الكلمة المكتوبة” يقربنا من التناسق التلقائى مع الإرادة الفردية والإرادة الجمعية خاصة فى ثقافتنا بشكل يسمح بتواصل من نوع أعمق وأرحب.
رابعاً: إن التواضع فى تصور معقول للإرادة الفردية يصبح دافعا إلى البحث عن الانتماء للجماعة دون تنازل عن حدود الذات أو عن المساحة الواجب توافرها بين الأفراد.
خامساً: المجموعات التى علمتنى ماهية الثقافة الأخرى ليست من المثقفين ولا حتى من المتعلمين جدا، ولا من الطبقة القادرة على شراء كتاب واحد، اللهم إلا الكتب المقررة إذا كانوا من الطلبة متوسطى الحال، وهى مجموعات تمثل ناسى فى مصر أصدق قليلا من المترددين على عيادتى الخاصة وحتى هؤلاء المترددين على عيادتى الخاصة هم تقريبا من نفس الطبقة ويكملون رؤيتى لناسى حيث أغلبهم من الأقاليم من أسوان حتى رأس الحكمة والعريش ومرسى مطروح والمنزلة.
سادسا: لا بد من التنويه أن أغلب المشاركين هم إما يقيمون فى القاهرة أو ضواحيها أو من بعض المدن القريبة (مثل: الفيوم أو بنى سويف أو المنوفية..الخ)
وبعد: أورد فيما يلى بعض الملاحظات المبدئية العامة:
مقدمة:
جميع اعضاء المجموعة الذين يتكبدون المشقة ويحضرون فى نفس الموعد أسبوعيا لمدة عام كامل (52 أسبوعا قبل خصم الأجازات الرسمية) الساعة 7.30 صباحا وحتى الساعة التاسعة، ويتراوح عددهم بين ثمانية وأثنى عشر (المتوسط عشرة) وهم من الجنسين ويمثلون مجموعة غير متجانسة من الذكور والأناث يعانون من مختلف الأمراض والتشخيصات.
أثناء هذا العلاج، لاحظت استعمال تعبيرات شعبية بسيطة ومباشرة كنت أحس أنها مجرد ثقافة شائعة، لكن مع التركيز على “هنا والآن” انقلبت إلى فعل وتفاعل وحركية وعى ومن ذلك:
(1) تبينت بالتدريج عبر سنوات طوال كيف يتكون الوعى الجمعى فيما بيننا وكيف يحتوى الوعى الذاتى والوعى البينشخصى الذى يبدأ مع المعالج الرئيسى أساسا (شخصى) ثم مع المتدربين المساعدين، ثم مع أفراد المجموعة وبعضهم البعض.
(2) بعد حوالى أربعة أشهر إلى ستة لاحظت أن انتماء الأفراد يتكثف نحو وسط المجموعة بشكل تلقائى مع التركيز على “هنا والآن” وأكثر، وإذا بالكلمات الشائعة التى كنا نستعملها، وما زلنا، يصبح لها معنى أخر وحضور أخر، وبدأنا نشعر (دون أن نعلن عادة) أن الله حاضر دائما معنا بقدر ما نتواصل، وأنه الشافى وأنه “هنا والآن” ورحنا نشعر بكل ذلك شعورا قويا حاضرا ليس به – غالبا – أى تخيل أو نظرة للسماء أو تقريب أو تأجيل وأننا نجتمع على المشترك بيننا ونفترق عليه، وفهمت معنى نفترق عليه التى حيرتنى ردحا من الزمن، فأن نجتمع عليه يمكن فهمها بسهولة أما أن نفترق عليه فلم أفهمها بهذا الوضوح إلا ونحن نمارسها.
(3) كنت أتجنب ما أمكننى استعمال الألفاظ الدينية مباشرة حتى نقيس الخبرة بلا وصاية من خارجها فتحتد معايشة هذا الحضور الذى يجمعنا عليه ويفرقنا عليه.
(4) قرب نهاية السنة (شهر أو اثنين) يبدأ الحديث عن الفراق وكيف أننا تعودنا لمدة أربعين أسبوعا (مثلا) أن نلتقى فى نفس الدقيقة ونفترق فى نفس الساعة، فماذا يمكن أن يصبرنا على انقطاع هذا الشعور الملىء بالدفء والتركيز فى “هنا والآن” والتفاعل والمباشرة؟ وكان ردّى من تصورى ما يلى:
(5) خطر لى، وبألفاظ تقريبية، صريحة أحيانا أن الذى يجمعنا “هنا والآن” وقد تجلى لنا معا وبكل منا معا أيضا، هو حاضر أيضا فى كل مكان بنفس الحضور مهما اختلف الزمان والمكان وهو هو نفس الوجود، وحتى لو نسينا، فإن ما تغير فينا قادر على تنشيط هذا الوعى الشامل الحاوى المتصل على المدى الممتد إلى ما لا نعرف بما يُطمئُن ويَدْعم.
(6) فى قراءاتى بعد ذلك فى الوعى الكوانتى(13) والعقل الممتد والوعى الكونى والوعى المطلق المفتوح النهاية لم أحاول ترجمة هذه الخبرة إلى لغة دينية، فمن ناحية أنا ضد تفسير الدين بالعلم وبالعكس، ومن ناحية أخرى، قبل أن تتاح لنا هذه الفرصة كان الاختزال والتجريد اللذان اعتدناهما خلال عشرات السنين قد أوصلانا إلى ما أَمْرَضَنَا، وقد اهتزا من خلال هذه الفرصة التى أتيحت لتنشط مستويات الوعى المتخلق الممتد بنا هكذا.
(7) وجدت أننا لا نلتزم فى هذا العلاج إلا بقواعد قليلة لكنها محكمة وهى “أنا – أنت” “هنا والآن” وبالمواعيد الدقيقة، وكل ما عدا ذلك قابل للطرح فى التفاعل، وكلما ابتعدنا عن “هنا والآن” نشعر أننا نبتعد ليس فقط عن الوعى الجمعى المتخلق وإنما عن من يجمعنا أيضا حوله.
وبعد
فقد ساعدنى كل ذلك أن أبحث عنه فى الأطفال والكهول والكادحين البسطاء، وأعتقد أننى وجدته بشكل أو بآخر.
[1] – قررت نشر المقالات التى أشرت إليها الأسبوع الماضى كاملة بالتتابع لما فيها من تفاصيل الفروق الثقافية التى أعنيها، وقد ظهر منها فعلا المقال الأول يوم الأربعاء الماضى باسم “العولمة ونوعية الحياة” وسوف يظهر المقال الثاتى بعنوان “هم يحتاجوننا بقدر ما نحتاجهم” وتاريخه أيضا: الأهرام: 1-6-1999.
[2] – وبعضها سوف ينشر تباعا يوم الأربعاء.
[3] – العولمة والعولمة المضاد، تأليف د. عبد السلام المسدّى، كتاب “سطور” 1999
[4] – أسفت أشد الأسف على توقيت هذه المجلة
[5] – هذا ليس مقالا سياسيا فلأتوقف.
[6] – كل هذا بعيد كل البعد عن أى احتمال لتفسير العلم بالدين أو الدين بالعلم،
[7] – أعنى “كله” من اصغر وحده إلى ما لا يعرف، ومن أجزاء الثانية إلى ما لا يدرك.
[8]- In – and – out Program
[9] – علوم الكوانتم بالذات Quantam Sciences
[10] – حيث أمارس العلاج فى مستشفى جامعى يقدم فيه العلاج مجانا، ولا يشترط فى المترديين أية درجة من التعليم أو الإطلاع إذ يتراوح مستواهم ما بين فك الخط والتعليم المتوسط أو نادرا الجامعى فى مراحله الأولى.
[11] – Group Consciousness
[12] – Collective Consciousness
[13] – Quantum Consciousness