نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 22-11-2015
السنة التاسعة
العدد: 3005
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية الفصل السابع:
ملف الاضطرابات الجامعة (9)
“الوقت” و”الزمان”: فى الوعى الشعبى
مقدمة:
إذا انتقلنا إلى الوعى الشعبى : فكيف يا ترى يتعامل الوعى الشعبى الجمعى مع الوقت؟ ومع الزمن؟ (والزمان)؟ انطلاقا من ثقافتنا الشعبية خاصة.
الأرجح أن الوعى الشعبى (واللاوعى الشعبى أيضا) يتعامل مع الزمن أساسا، ومع الوقت أيضا ممثلا للزمن غالبا (وليس دائما)، هو “يعايش الزمن”، و”يتكلم عن الوقت”، وهو منتبه تماما، وناقد غالبا لضعف وخلخلة علاقتنا بمرور الوقت، كما أنه يُحِلّ لفظ “الزمان” محل لفظ “الزمن” كمترافات غالبا، وكثيرا ما يخص الزمان بما يقابل “القضاء” و”المكتوب” و”القدر”.
وفيما يلى مقتطفات متفرقة تبين بعض ذلك، بما يتناسب مع نشرة متواضعة كمقدمة إرشادية وليست كبحث خاص، للتعرف على بعض جوانب ثقافتنا فيما يتعلق بهذا البعد المرتبط بها ارتباطا وثيقا: تاريخا وحاضرا.
دعونا نبدأ بموال جميل يقول:
عِتـِبـْت عالوقت قالـّلي الوقت: إيه مالـّكْ
عمال بتبكى من الأيام، إيه مالـَكْ
اللى جرالك يكون فى الأصل إهْمَالك
………
عتبت ع الوقت قال لى الوقت: ونـَا مِالي
أنا كل ما اعْطِيك تفضىِّ الجيبْ، وأنا مالى(1)
إعمل لنفسك “قانون” وِى بَطّلِ اهْمَالـَكْ
ثم نبدأ بقراءة الجزء الأول من هذا الموال، وهو الذى يقول (مرة أخرى):
عِتـِبـْت عالوقت قالـّلي الوقت: إيه مالـَكْ
عمال بتبكى من الأيام، إيه مالـَكْ
اللى جرالك يكون فى الأصل إهْمَالكْ
هذا الموال يعاتب الوقت، وبديهى أنه لا يعاتب الوقت الذى يمر بالساعة، وإنما هو كما ذكرنا فى المقدمة يجسِّد الوقت فى الزمن والزمان مقتربا من القدر والأيام، ويحاوره فيتعيَّنُ أمامنا ماثلا، وهذا غير دوران الساعة وتتالى الأيام، ويبدا العتاب كالتالى:
يقوم الموال – من بُعـْدٍ معين- “بشد أذن” البنى آدم منا حتى لا يُمضى حياته نعـَّابا، مبرِّراً، معتمِدا، يشد أذنه ليذكره أنه “عيب عليه هذه النعابة !!”. وأعتقد أننا أحوج ما نكون إلى هذا الموال هذه الأيام ولم يعد كافيا أن ننتبه بقرص الأذن، وإنما نحن نحتاج لننتبه إلى ما هو أكثر كثيرا جدا، ذلك أن علاقتنا بالوقت أصبحت شديدة الرخاوة والهلامية، أما علاقتنا بالزمن و(الزمان) فقد اخُتزلت إلى تبرير السلبية، وإسقاط خيبتنا عليه.
هذا “الموال” لا ينبهنا فقط إلى قيمة “الاختيار” فالمسئولية، فاللوم والتقريع لمن أهمل أو تخلى عن مسئوليته متهـِّمًا الأيام والزمن، ما وصلنى اليوم، بما يناسب أيامنا الصعبة الحالية، هو سوط من لهب وليس مجرد تهذيب على الأصابع بسن مسطرة، سوط جدير بأن يذكِّرنا بموقعنا من العمل، ومن الاستقلال، ومن الوقت، ومن المبادأة والمبادرة، مجموع كل هذا هو التنازل عن حقنا فى الحياة الكريمة، وهل هناك إهمال أكبر من ذلك؟ وهل آن الأوان أن نعترف به لنبدأ
يقول الموال فى جزئه الثانى:
عِتِبتْ ع الوقت قال لى الوقت: ونـَا مالي
أنا كل ما اعطيك تفضِّى الجيبْ، وانا مالى(2)
هكذا ينتقل الموال إلى تفصيل بعد تعميم، فينتقى من “اللى جرى لك” هذا البعد الذى يشير إلى العلاقة بين الإهمال عامة، وبين التبذير، لمن يملك فرصة التبذير، أو دعونا نقول: يفتقر إلى حذق التخطيط بالنسبة للمسئوليات المادية والحياتية العادية ،على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الدولة التى تواصل ترقيع اقتصادها بالديون طول الوقت مهما تغيرت النظم، هذا الجزء ينبه الفرد والجماعة إلى أن مواصلة الاعتماد على الدعم الخارجى (كل ما اعطيك) وإنفاقه فى الاستهلاك، وليس فى الانتاج هو المصيبة الكبرى التى لا ينبغى أن نعزوها إلى الوقت (الزمن – الزمان- الظروف- الضغوط) فى المقام الأول طول الوقت، فيضيف هذا الجزء من الموال أيضا ما نعلِّمْهُ مرضانا وأطفالنا وأنفسنا، وما نطلبه من الدولة وللدولة من الحرص على التخطيط، بديلا عن اللجوء إلى الديون مهما بلغت التيسيرات.
ثم ينتهى الموال بأمر (وليس بحكمة كما وصلتنى) يقول:
إعمل لنفسك “قانون” وِى بَطّلِ اهْمالك
كلمة “قانون” هنا تعنى نظاما ملزِما أنت (فردا أو مؤسسة أو دولة) تعمله لنفسك بنفسك، وهذا ما نوصى به ليل نهار فى تأهيل مرضانا، فلا يوجد تأهيل إلا بتخطيط الوقت، ولا يوجد تخطيط للوقت إلا بالالتزام بالساعة، حتى أننى أوصى بعض الأهل فى حالات المرضى المسنين أن يحضروا لى كراسة بها توقيت الالتزامات التى أوصيتُ بها، وأحيانا تثبيت أماكن أدائها، حتى تنطبع فى دماغ المريض، فتقل فرص نسيانه أو توهانه.
إلى هذه الدرجة بلغ الوعى الشعبى درجة من الواقعية ترشدنا إلى ضرورة تصحيح علاقتنا بالوقت وبالمسئولية، فأين يا ترى ذهبت كل هذه البصيرة ؟ وإلى متى تظل غائبة إلى هذه الدرجة؟!!
ثم أنتقل إلى مزيد محدود من بعض ملامح الزمن (والزمان) فى الوعى الشعبى:
1- الزمان يِقْلبْ ويْعَاِيرْ
هنا يحضر الزمان بمعنى القدر كما ذكرنا، وتقلّب الأحوال إلى الأسوأ أكثر تواترا فى الحكى الشعبى من ضربات الحظ، لكن المثل هنا لا يكتفى بأن يتهم الزمان بأنه متقلب لا يؤتمن، لكنه يضيف إليه رذيلة المعايرة، وكأن العتاب هنا يمتد إلى أن الزمان لا يرحم المكلوم المصاب مع أنه السبب فى مصيبته وإنما يواصل قسوته بالمعايرة.
أعتقد أن هذا المثل ينبه أن لوم الزمان واتهامه بأنه السبب فيما أصابنا ويصيبنا، وهذا اللوم لا يتضمن دعوة ولا أملا فى أن يصلح الدهر ما أفسده، فهو لن يعتذر، ولن يرجع عنها، بل سيشمت فينا ويعايرنا بها.
2- الشهر تلاتين يوم والناس تعرف بعضها من زمان.
وصلتنى هنا وظيفة شحذ الوعى بمرور الزمن، وفى الوقت نفسه التذكرة بأن الناس لبعضهم(3) على طول المدى، وليس فقط خلال أيام أو أسابيع أو حتى أشهر، فليتسع الوقت، ولنتحمل بعضنا بعضا أكثر فى رحاب الزمان، وأن الوعى بمرور أيام الشهر يوما بعد يوم يبلغنا أن الدنيا لم تنته لما أصابنا ما دام الناس لبعضهم البعض من قديم الزمان!.
3- من وَفَّر شيء قال له الزمان هَاتُه.
4- يا مستكتر الزمان أكتر.
5- المتغطى بالأيام عريان
المثلان الأول والثانى، وإلى درجة أقل المثل الثالث، فيها تنبيه ألا نعتمد كثيرا – أو فقط – على الأمان المادى، مع أهميته القصوى طبعا، لأن هذا الأمان وحده معرض وبشدة لتقلبات الزمان، وخصوصا إذا واصل المجتمع استغراقه فى الفردية والتحوصل حول الذات بديلا عن مسيرة الوعى الجمعى تكافلا حقيقيا.
6- اللى فات مات واحنا ولاد دلوقتى
(6′): مين فاضى ينبش فى الماضى
يحضرنى طبعا ما نقوم به فى العلاج الجمعى وهو ما نكرر التأكيد عليه وهو الإلتزام بقاعدة “أنا <=>أنت” “هنا ودلوقتى” وهى القاعدة التى وردت مئات المرات فى هذه النشرات المتفرقة: بالذات عند تقديم معظم الحالات سواء فى باب“الإشراف عن بعد” أو “ألعاب العلاج الجمعى” أو “العلاج الجمعى عموما”، ولعل آخرها أو أوضحها الحالة التى تقدم منذ أسابيع “محمد طربقها” “رحلة التفكيك والتخليق”: (نشرة 2-11-2015)، (نشرة 3-11-2015)، (نشرة 9-11-2015)، (نشرة 10-11-2015).
7- كل وقت و له أدان
المتابع لمعظم الحالات التى عرضت فى باب “الإشراف عن بعد” فى هذه النشرات سوف يكتشف أن من أهم القواعد التى يوصى بها المشرف المعالجين المتدربين هو أن العلاج النفسى يرتكز على عمودين أساسيين هما: “الوقت والتوقيت”، وهذا المثل يدعم التوصية “بحسن” التوقيت تماما، أى: متى نفعل، ومتى لا نفعل؟ متى نقول، ومتى نصمت…الخ.
8- دور مع الزمان يدور معاك
9- ان كتر عليك الشغل فرّقـه على الأيام
هذان المثلان بهما توصية غير مباشرة على معاملة الزمن (والزمان) بمرونة وواقعية، الأمر الذى يشير إلى أن الوعى الشعبى يعترف بالتغيير مبدأ جوهريا فى مسيرة الحياة، وما دام الأمر كذلك فهذا يدعم قبول التغيُّر المستمر على مسار نمو الفرد من البداية للنهاية أمرا طبيعيا ولازما، ولا يمكن أن يسير التغيير فى النمو أو التطور أو الإبداع إلا وهو يواكب التغير الذى يجرى فى الزمن داخلنا وخارجنا.
10- الله يلعنك يا زمان يا للى خليت للندل كلام
وجبت اللى ورا قدام، وخليت السِّـيدْ خدام
(10‘) الله يلعنك يا زمن وانت بقيت بالْهَمّ، والكلب لمّا حكم قال له الأسد يا عم
هذان المثلان يمكن أن يستعملا فى موقفين عكس بعضهما البعض كما يلى:
الموقف الأول: موقف الحاقد على الناجح أو المسئول أو الرئيس، الذى لم يَنَلْ وهو يتصور أنه أحق بما ناله، وأقدر عليه، (وبالذات الحظ فى المناصب والسلطة) وبالتالى هو يطلق هذا المثل تحقبرا لمن تولى المنصب بديلا عنه، وغيظا وحقدا وحسدا معا.
الموقف الثانى: حين يلى السلطة غير أهلها ممن يخونون أمانتها، فيستبعدون من هم أبعد عنهم حتى لو كانوا أصحاب خبرات أو مواهب أو قدرات يمكن الإفادة منها، وهنا تثور ثائرة الناس عامة، والطموحين خاصة، ممن يستشعرون التخطى، بل وحتى من المشاهدين خارج الملعب!!، فيلعنون الزمان الذى فسد حتى أوْلى هؤلاء الأفْسَال السلطة.
وفى نفس المعنى يقول الموال:
يادى الزمان الردى يادى الزمان الحـَر
إتبدّلْ فيك الحال وانباع الصَّدَف بالدُّر
والكلب عض الاسد وخلَّى دمعه يْخُـرْ
واعتز الخسيس الردى، وانهان العزيز الحْـرْ
وبعد
إن كانت هذه هى ثقافتنا، وهذه هى علاقتنا بالوقت والزمن، والزمان من عمق أحشاء ثفافتنا فكيف بالله عليكم نحكم على علاقة مرضانا بالزمن والوقت، واضطراب كل منهما، دون أن نلم بها بالقدر الكافى؟ طبعا لابد أن نحكم، ونشخِّـص، وأن نحدد ما هو الاضطراب وما هو السواء، لكن علينا أن نغوص فى ثقافتنا حتى لا نستورد قيما وأحكاما غريبة عنا، ونمضى فى الترجمة والعدّ ولصق اللافتات!
لو سمحتم
[1] – قوله ”أنا مالى” هنا تفيد “أنا أملأ” (جيبك) وهى غير أنا مالى الأولى التى تعنى “ليس من شأني” أن أتحمل مسئوليتك نيابة عنك، وإن كان هذا التمييز ليس ضروريا دائما.
[2] – قوله ” أنا مالى” هنا تفيد “أنا أملأ” (جيبك) وهى غير أنا مالى الأولى التى تعنى “ليس من شأني” أن أتحمل مسئوليتك نيابة عنك، وإن كان هذا التمييز ليس ضروريا دائما.
[3] – “وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا”