نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين : 6-4-2015
السنة الثامنة
العدد:2775
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل الخامس:
ملف اضطرابات الإرادة (16)
الإرادة والإبداع
إذا كانت الإرادة بكل هذا العمق والتعدد بل والغموض، وكانت الحرية مرتبطة بها أشد الارتباط وأبلغه، فما هى علاقتها بالثقافة وبالإبداع كما تساءلنا فى نشرة أمس؟
إن التقابل بين إرادة الحياة وإرادة البشر بدا تحديا مهما قد يسهم فى إنارة بعض جوانب المسألة.
هل عملية الإبداع هى عملية إرادية مثل عملية اتخاذ القرار، أم أن له قواعد أخرى إذ هو يرتبط بمستويات أخرى من الإرادة بأى معنى من المعانى التى سبقت الإشارة إليها، أو غيرها
يبدو أن إرادة الإبداع هى أقرب إلى إرادة الحياة من إرادة البشر((1)).
حين أصبح الإنسان واعيا بذاته استطاع أن يميز بين ما هو “ذات”، وما هو “لا- ذات”، ومع بزوغ الوعى بالذات أصبح الكائن البشرى يمارس حياته فارقا بين ما هو”أنا” وما هو ليس “أنا”، ثم ينقسم الـ “ما ليس أنا” إلى: “موضوع بشرى” (نسميه “الآخر” عادة)، ثم إلي ”الطبيعة” الآنِـيَّـةْ: عبورا إلى امتداداتها التصعيدية المفتوحة النهاية.
الكائنات قبل البشر حققت إبداعها على مسار التطور بطفرات تنسلخ بها إلى أعلى، واقع الأمر أن قوانين التطور كما سخرها الله هى التى حققت هذا الإبداع، علما بأن إبداع الطبيعة لما هو إنسان قد تم بشكل انتقائى لبعض هؤلاء الجدود دون غيرها، فهذه الأحياء التى نزعم أنها أجدادنا هى ليست كذلك تماما، والأولى أن نعتبرها أولاد عمومة لا أكثر.
برامج البقاء هى التى أبدعت – بفضل الحق سبحانه وتعالى- ما هو نحن، دون حاجة إلى غرور الإرادة البشرية والمبالغة فى أوهام التفوق الملتبسة، وقد هيأت هذه النقلة لهذا الكائن الجديد مساحة غير مسبوقة من الحركة المتنوعة التى عرفت فى ظاهر السلوك باسم “الحرية”، ومن فرط فرحته بها، وأيضا من فرط عماه عن حدودها وخداعها، راح يتغنى بما تصور أنها تعنيه حتى قدسها، وإذْ تقدّسَت أصبحت وهما أيديولوجيا جديدا (صنما)، الحرية الحقيقية لا تتفق مع التقديس، حتى تقديس ذاتها، هذا الوهم الجميل المسمى “الحرية”، أوقع الإنسان فى عدد من المضاعفات، بقدر ما أعطاه قدرا متزايد من الفرص.
الإنسان هو الكائن الوحيد – فى حدود ما نعرف- الذى أصبح قادرا أن يقرر لنفسه بنفسه مسارا وتوجها واختيارا، بـفعل ما نسميه “عقلا”، ومن خلال ما نسميه “إرادة”، راحت هذه الآلية تختزل االتاريخ الحيوى، ثم الكيان الحيوى إلى ما يدخل فى اختصاصها، وكان هذا من أكبر الأخطاء التى وقع فيها البشر، أيضا راح هذا العقل نفسه يختزل الغريزة الإيمانية (الحنين الفطرى إلى العودة إلى الكون الأعظم والكدح نحو الأصل) إلى ما هو دين موضوعٌ، وهو غير الإيمان الملهَم والملهـِم.
من كل ذلك نخلـُص إلى مواجهة المأزق البشرى المعاصر، وهو أن الإبداع ليس فى الاساس فعلا إراديا، فلا يوجد أحد، مهما كان مبدعا، يذهب إلى معمله أو أوراقه أو فرشاته ويقول “نويت الإبداع” وهات يا مخاطرة، وهات يا تفكيك ثم هات يا تشكيل، ومع ذلك فالإبداع هو أعمق وأخطر عملية إرادية بشكل أو بآخر.
يبدو أن الإبداع عند الإنسان قد تجاوز الخطوة التطورية التى لا تعلن وجودها إلا بحدوث الطفرة، ومع تطور علاقة الكائن البشرى بالزمن، استطاع وهو يلم بما يجرى، ويحسب ما يهدده، ويحدس ما ينتظره، استطاع أن يمارس إعادة تشكيل المعلومات وأن يصيغها خارجه بالأدوات المتاحة، وأن يخطط لخطواته القادمة بقدر أكبر من المسئولية، مادام قد أخذ هذه الفرصة لاستعمال ما يسمى إرادة، ومادام قد استطاع التحرك فى تلك المساحة التى تسمى حرية، فقد نجح الابداع فى رسم إعادة تخليق الحياة، ناتجا معلنا خارجه، وأيضا فى الإسهام فى إعادة تخليق ذاته مع كل أزمة نمو، بل مع كل نبضة إيقاع، الإبداع حين يظهر فى ناتج جديد خارج المبدع هو إعلان عن عجز مرحلى عن تحقيق الإبداع الإصل، إبداع الحياة: حالا، وهذا الناتج يقوم بمهمتين أساستين: الإنذار المبكر، والتشكيل الواعد لما هو قادم.
من هنا يمكن القول أن الإرادة هى متضمَّـنَـة فى العملية الإبداعية، لكنها لا تقودها، ولا هى على درجة كافية من الوعى للتأثير عليها، لتظل العملية الإبداعية موجهة بإرادة تراكمية فعّالة لا أكثر.
شروط العملية الإبداعية:
فيما يلى بعض شروط عملية الإبداع دون تفاصيل(2)
1- مساحة كافية لاستيعاب حركية الجدل.
2- تنشيط لأكثر من مستوى من الوعي”معا”.
3- القبول بدرجة من المخاطرة.
4- حركية مناسبة ذات توجه تشكيلى ضام .
5- قدرة على مواكبة الإيقاع الحيوى للتناوب بين طورىْ الاستيعاب والتشكيل
مقومات نجاح حركية الإبداع فيما يتعلق بانجازه (خارج الذات):
1- أبجدية كافية وقادرة ( قدر كاف من الموضوعات، المعلومات، المعارف، الخبرات).
2- محيط من السماح ممتد من العملية الإبداعية حتى إعلان ناتجها.
3- أداة (أو أدوات) للأداء (التعبير/ التفعيل/ الإخراج، إلخ…).
4- فرص مناسبة لاستعمال هذه الأدوات، وفرص لإعلان ناتج استعمالها.
5- إمكانية توصيلها لأصحابها، وإمكانية الحوار حولها لمراجعتها (وخاصة بمايسمى “النقد”).
وهكذا يصبح الإبداع من أعقد وأهم العمليات الحياتية التى تحتاج كل مستويات الوعى (أنواع العقول) مع تجنب اختزالها إلى ناتج معين، وأيضا مع تحمل مسئولية ضبط جرعتها وتوجيه أسهمها، وكل هذا يحتاج إلى إرادة ممتدة موجِّـهة مثابرة دون إعلان.
كسر الجمود وهز الأيديولوجيا:
فيما يتعلق بما هو إبداع الذات باستمرار من خلال نجاح الإيقاع الحيوى فى أداء مهمته فإن ذلك يحدث تلقائيا بدرجة أقل من الإرادة الظاهرة، لكن تكمن وراءه إرادة الحياة ((3))، لكن فى كثير من الأحيان (الآن: فى معظم الأحيان) تحدث الإعاقة كما بينا فى نشرة سابقة((4))، والإنسان لا يستسلم لذلك عادة فهو يحاول دائما أن يكسر الجمود الجاثم وأن يحرك السكون الخامد حتى يكسر توقف النمو ويطلق قدرات التطور التى تعيقه والتى من أهمها – برغم البريق والشيوع – ما يسمى: الأيديولوجيا.
حاجز الأيديولوجيا:
ظهرت الأيديولجيا لترسيخ بعض معالم منظومات فكرية بدت صحيحة ومفيدة، لكنها تضخمت حتى تمكنت من تصنيع غرائز مكتسبه مانعة للحرية، مجهضة للإرادة، إذْ هى تساير عادة ما يغلب عند القطيع البشرى من معتقدات فى وقت بذاته، ومن ذلك مما شاع حاليا وزاد:
- منظومة “العقل الواحد” (المنطقى غالبا) على حساب العقول الأخرى ومن بينها العقل الوجدانى، والعقل الكلى الإيمانى
- ومنظومة العلم، (المؤسسى، الباهظ التكلفة) على حساب كل مناهج وقنوات المعرفة الأخرى،
- ومنظومة الديمقراطية المكتوبة، والمعلنة، والمُسَيَّسَة، والإعلامية، والتنافسية على حساب الحرية.
- ومنظومة تفسير النصوص الدينية معجميا ونقلا على حساب حركية الإيمان وإبداعه
- ومنظومة الطب السلطوى (المالى) التقليدي…على حساب كل وسائل دعم الهارمونى الذى يمكن أن يساهم فى تدعيم تناغم دوائر البشر مع دوائر المحيط مع دوائر الكون.
إن تفكيك كل هذه النظومات يحتاج إلى إرادة قوية، ليس فقط لمواجهة الآثار السلبية للجمود أو التصلب، وإنما لتحطيم الأسوار وتكسير القيود، لاطلاق حركية الإبداع.
الإبداع مخاطرة جسيمة:
لمواصلة حركية الإبداع لابد من القبول بدرجة من المخاطرة لأن الإبداع هو خطوة إلى مجهول، فالمبدع عرضة دائما أن يجد نفسهفى طريق لم يقصده، سائرا إلى مآل لا يعرفه، ولا يقتصر الخطر على اختلاف المسار عن المخطط المبدئي، ولا على انتهاء المآل إلى هدف جديد غريب لم يقصد إليه ابتداء، وإنما يتمثل أكثر فى احتمال “إجهاض العملية” الإبداعية، هذا الإجهاض، فضلا عما يحمل من إحباط، هو خطوة خطيرة فى ذاتها، إذ منها قد يبدأ مزيد من التفكيك والتعدد غير المتبادل أو المتجادِل الذى قد ينتهى إلى التفسخ، ولا يوجد مبدع – لحظة الإبداع- مهما تماسكت شخصيته، وترسخت قواعده، إلا وهو يخاطر بما لا يعرف، فيما لا يعرف بشكل كامل على الأقل.
وبعد
ما مدى تناسب هذه الفروض مع ثقافتنا الخاصة من واقع الممارسة؟
آمل أن نبحث ذلك غدًا.
[1] – أنظر نشرة 29-3-2015 “إرادة الحياة وإرادة البشر”.
[2] – من يشاء أن يرجع للتفاصيل يمكنه الذهاب بهذا الرابط إلى مقال ظهر فى مجلة وجهات نظر، عدد نوفمبر 1993، بعنوان: “تعليم تلقينى.. وسلطات قامعة عن الحرية والإبداع والقهر الداخلى”.
[3] – نشرة 29-3-2015 “إرادة الحياة وإرادة البشر”.
[4] – نشرة 5-4- 2015: “ترجيح إرادة تضخيم الذات على حساب إرادة الحياة، مثال: اضطرابات الشخصية”.