نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 26-11-2012
السنة السادسة
العدد: 1914
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (132)
الإدراك (93)
عودة – تأخرت – إلى أصل المسألة
الإدراك فى الصحة والمرض
كان المفروض أن نناقش اليوم علاقة الإدراك بالشعر، والموت، والحلم، ثم الجنون، بعد أن استدرجنا الشاعر الصديق أ.د.صادق السامرائى إلى الموت شعراً، فدفعنى إلى الرجوع إلى أطروحاتى الباكرة عن “الحلم والجنون” وأيضا عن “الموت والإبداع”، إلا أننى قد انتبهت إلى أن ابتعادى عن تقديم الإدراك من خلال الممارسة الإكلينيكية بما تترتب عليه احتمالات التطبيقات العلاجية لابد وأن يقلل من فرص متابعة الزملاء، وأيضا قد يبعدنا عن الفرض الأساسى البادئ من تسجيل الخبرة.
أتوقف معتذرا للصديق السامرائى شاكرا له هذه “التفريعة” الجميلة، لأرجع إلى ما قبل استدراجه الكريم الذى سحبنا معه إلى “إدراك الإدراك” ثم “لمحات إدراكية”.
رجعت إلى حيث توقفنا، وكان ذلك فى نشرة “الإنسان والتطور” العدد: (1851)، “ملف الإدراك” الحلقة (73) بتاريخ 24-9-2012، فوجدت أننى حددت ما أعتزم مناقشته فى ثلاثة أبعاد وهى علاقة الإدراك بالجنون، (والهلوسة والضلالات فالتفسخ)، ثم علاقته بالإيمان (والدين والتصوف)، وأخيرا بالإبداع (والحلم والتطور)، وكنت قد قدمت ذلك فى تلك النشرة فى أشكالا تخطيطية ثلاثة لأحدد تصورى عن هذه الأبعاد، لكننى حين عدت إلى هذه الأشكال الآن وجدت بها من الغموض، بل ومن الأخطاء التى لم أقصدها، ما يحتاج إلى حذفها تماما من النشرة، ومن الموقع، ففعلت، وأحللت محلها هنا الآن: المدخل الجديد الذى اهتديت إليه أثناء هذه الفسحة من الوقت والحوار.
وبعد
يمكننى أن أوجز موقفى الآن، الذى مازال فى مرحلة الفروض طبعا، فيما يلى:
أولاً: الإدراك هو أصل جوهرى للمعرفة العملية التكيفية التطورية خاصة، دون حاجة أن تصل هذه المعرفة إلى مستوى الوعى الظاهر. (فهو برنامج بقائىّ أساسا)
ثانياً: بعد نمو نصفىْ المخ عند الإنسان تضاءل دور الإدراك المعلن بشكل متزايد منذر فى آن، لكنه ظل فاعلا نشطا جاهزا للتكامل والولاف.
ثالثاُ: كثير مما حل بالبشرية – بما فى ذلك التهديد بالانقراض حاليا – يمكن أن يرجع إلى هذا الضمور الذى لحق بالإدراك باعتبار هذا الضمور هو الخطوة المعطلة لمسيرة التطور، وأعنى بذلك غلبة الأحدث المهم، – مهما بلغ اغترابه – على الأقدم الأصيل، الذى لا غنى عنه، ومن ثم يتوقف الجدل بين مراحل التطور المتتالية.
رابعاً: إن أهمية الإدراك ترجع فى جذورها إلى أنه هو الوسيلة الأساسية التى حافظت على بقاء الواحد فى الألف من الأحياء (ومن بينها الإنسان) التى نجحت فى الحفاظ على بقائها ضد الانقراض منذ نشأة الحياة حتى الآن.
خامساً: إن التفكير، وهو أظهر من الإدراك وأكثر تحديدا وأجهز نفعا، قد تعملق وطغى، كما أنه نجح فى ابتداع أدوات تكنولوجية مساعدة، وعلوم عملية قادرة، ضاعفت من قدراته، فراح يتمادى زحفه على مساحة وفاعلية الإدراك باستمرار.
سادساً: ظل الإدراك جوهريا وضروريا ومتداخلا فى العمليات الأعمق والأعرق من جهة، وأيضا فى النشاطات الأكثر وعدًا فى نفس الوقت، وهى عمليات الإبداع بكل أشكاله.
سابعاً: إن المأمول والمطلوب حاليا من هذا الاجتهاد هو أن نتعرف من جديد على ما آلت إليه هذه القدرة الجوهرية لنسبر غورها، ونحدد طبيعتها، ونجتهد فى تنميتها آملين أن تسهم فى ما هى ضرورة له وهو الإبداع فى كل المجالات، وذلك بالتوليف الجدلىّ مع الأحدث فالأحدث من القدرات، والآليات المساعدة معا.
ثامناً: إن دور المعرفة الإيمانية المفروض أنها تساهم فى فى إنقاذ البشرية مما آلت إليه حاليا مرتبط بالإدراك أشد الارتباط، الأمر الذى لم تساهم فيه السلطات الدينية بشكل فعال، بل لعها ساهمت فى عكس الاتجاه بالاقتصار على الترغيب والترهيب، وقفل باب الاجتهاد.
تاسعاً: إن فرص الطب النفسى فى مواجهة المرضى النفسيين فى نكوصهم وتعريهم تسمح لمن يهمه الأمر من الممارسين بمواجهة تاريخ الإنسان “حالا” بشكل أو بآخر، بما فى ذلك إمكان النظر فى آثار ما لحق بالإدراك من تشوهات وانحرافات.
عاشراً: إن “العلاج المكثف” للمرضى النفسيين و”العلاج الجمعى” و”علاج الوسط” مع التركيز على “هنا والآن”، واحترام الوحدات الأصغر فالأصغر من الزمن، ومتابعة تشكيل الوعى الجمعى، كل ذلك يعطى فرصة لاختبار بعض هذه الفروض إمبريقيا بشكل أو بآخر.
وبعد
هذه بعض ملامح ما أتصور أننى وصلت إليه وأتمنى تقديمه فيما تبقى لنا فى ملف الإدراك، على أننى سوف أكتفى الآن بتقديم رؤوس مواضيعه بدءًا بتحديد تجليات الإدراك فى الصحة والعادية(1)، توارى الإدراك فى الحياة العادية بشكل أو بآخر، اللهم إلا فى حيز هامشىّ من الظواهر الخارقة أو النادرة الصالحة للحكى والدهشة (تحت مسميات مختلفة أشهرها الباراسيكولوجى) وبالتالى غلب التفكير المفاهيمى المنطقى الكمى الخطى العقلى أو المعقلن على الحياة المعاصرة.
لكن فى نفس الوقت راح الإدراك ينمو وهو يسهم فى تحقيق أداء إيجابى تحتاجه مرحلة الإنسان الحالية أشد الاحتياج وأبلغه، وأعنى دوره فى مجالات الإبداع والإيمان خاصة.
على الجانب الآخر سوف أتولى رصد مظاهر وتشكيلات حضور الإدراك فى حالة المرض النفسى وهى أيضا لها وجهان مختلفان: فقد تتمادى فى بعض الأمراض آليات الإزاحة والإهمال حتى يصل فرط الكبت إلى ميكنة الحياة، وجفاف المعرفة، وتطور عقلنة الوجود، وتجمد النمو فيما يسمى “اضطرابات الشخصية” و”الاغتراب المرضى” و”فرط العادية”.
كذلك قد تنشط حركية الإدراك عشوائيا بشكل منافس متداخل حتى يشل التفكير أو يفككه أو حتى تظهر آلياته بما فى ذلك إعلان إدراك الواقع الداخلى بالعين (أو الحاسة الكلية) الداخلية ثم إسقاطه إذا لزم الأمر، بشكل يتداخل عادة مع إدراك الواقع الخارجى، فيعطل بقية العمليات العملية اللازمة لاستمرار التعايش السليم والتكيف الصحى.
وأكتفى اليوم بعرض هذه الاحتمالات فى شكلـَىْ (1)، (2)
لأعود إليها بالتفصيل فى الحلقات القادمة.
**************
**************
[1] – ملحوظة: الصحة النفسية ليست دائما مرادفة لما يسمى العادية، ويمكن الرجوع فى ذلك إلى نشرات: 4-11-2012 ، 5-11-2012، 6-7-2011، 5-7-2011، 22-6-2012، 21-6-2012)