نشرة “الإنسان والتطور”
18-1-2012
السنة الخامسة
العدد: 1601
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (42)
الإدراك (3)
من أين نبدأ /2؟
انطلاقا من ثقافة اللغة العربية وثقافة التوحيد؟
ثقافة أية أمة، بل أية جماعة تبنى على محورين أساسيين: اللغة والدين، وقد أكد كارل بوبر بالذات على هذين المحورين فى محاولته “تعريف الثقافة” كذلك تجلى هذا بشكل حاسم فى كتاب الناقد العربى د. عبد السلام المسدى فى كتابه “العولمة والعولمة المضادة”(1) حتى تلك الثقافات التى خلطت بين الدين ورجال الدين فأدى ذلك إلى تهميش الدين وإعلانه نشاطا تسكينيا شخصيا (يستحسن أن يكون سريا اختياريا بعض الوقت، وسميت بالعلمانية)، فإن ثقافتها تشكلت أيضا على نفس العمودين وهما “اللغة” وموقفها من “الدين”،، بمعنى تأثير تهميش الدين على هذه الثقافة.
من هذا المنطلق ينبغى أن يبدأ تعرفنا على أية ظاهرة بشرية فى الصحة والمرض – فى مجالنا خاصة- من لغتنا العامية باعتبار أنها لغة أمهاتنا التى رضعناها مع لبنهن، ثم الفصحى باعتبارها: التاريخ المعمارى البيولوجى الذى زرع فى خلايانا عبر آلاف السنين، وأيضا تكون البداية فى نفس الوقت من أدياننا كدحا إلى ربنا، دون وصاية خانقة من معجم، ودون ولاية دائمة من مفسِّر أعجز من أن يسمح بتخليق ما يتخلق من لغة حية عبقرية مثل اللغة الغربية، التى أتعرف على حضارتنا منها أولا (وربما أخيرا للأسف)
…. خذ مثلا: وجدت نفسى وأنا أكتب نشرة الخميس (غدا) وهى كما اعتاد من اعتاد قراءة استلهامى من كراسات تدريب نجيب محفوظ (الصفحة 54)، أنتبه إلى ترتيب بداية سورة الرحمن، وكيف جاءت آية “علم القرآن” قبل “خلق الإنسان”، ثم تأتى ثالث آية “علّمه البيان”، وحضرنى فى ذلك اجتهاد صعب لست متحمسا له جدا، وإن كنت سوف أثبته هنا لسبب علمى، غير السبب الذى أكتب به تداعياتى على تدريبات شيخى محفوظ، قلت ما سوف تقرأونه غدًا فى سياق آخر، قلت ما أقتطف منه ما يلى:
“…. ما لم أنتبه إليه لا فى صفحة التدريب 15 ولا فى صفحة 47 (حيث أتت هذه الآيات قبلاً) هو هذا الترتيب الذى بدأت به السورة الكريمة: “الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ …..”، الذى لفت انتباهى جديدا هنا الآن – دون جزم- هو احتمال أن يكون لهذا الترتيب دلالة، فنحن فى حديثنا اليومى نتصور دائما أن التعلم يأتى فى مرحلة لاحقة من الخلق، الطفل يولد أولا، ثم يتعلم، فلماذا يا ترى لم نجد هذا الترتيب هنا كما يقول المنطق العادى؟
ما وصلنى مؤخرا هو احتمال التعامل مع القرآن الكريم باعتباره “وعيا خالصا”، يخاطب الوعى البشرى مباشرة، دون حاجة إلى المرور بوصاية العقل المفاهيمى المنطقى، وهو ما صغته فى تعبير غريب نسبيا يقول: إن القرآن الكريم أساسا هو “وعى خالص” (نشرة 28/7/2011 العدد: 1427 صفحة التدريب “30”).
إذا كان الأمر وصل بى أن يصلنى القرآن الكريم باعتباره “وعيا خالصا”، وهو يمثل لدىّ لحن الإيقاع الحيوى الذى يقوم بالوصل بين الوعى البشرى والوعى الكونى، ربما لذلك هو يصل للطفل، والشيخ، والأمى، والعربى، والأعجمى معا بلا حاجة لحوح لفحص معانى ألفاظه…إلخ”، فالأمر يحتاج إلى النظر فى منطلق آخر من ثقافتنا فعلا دون اختزالات التفسير العلمى التى لا أوافق عليها إطلاقا.
وحين ننتقل إلى موضوعنا الحالى لذا لا نضع استلهامات كتابى الكريم، بما فى ذلك ترتيب آياته مثل مضمونها ومثل أوامرها ونواهيها، وننظر كبداية، وليس كتفسير فى الآية الكريمة “لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ….” دون أية وصاية من المنظومة الدينية على المنظومة العلمية أو العكس، وكيف نرضى بالله عليكم أن نبدأ دراستنا الظاهرة الحالية بلفظ مترجم من لغة أخرى؟ علما بأنه لم يستقر أهل هذه اللغة التى ترجمنا منها هذا اللفظ على مضمونة تحديدا حتى فى اطار العلم (انظر بعد)
ثم إن المسألة فى الطب النفسى ليست علماً محكما بقدر ما هى إبداع متبادل بين وعى بشرى ووعى بشرى آخر لا يمكن أن ينفصلا عن الوعى العام ولا عن الوعى القومى الشامل الذى تخلقت منه لغة هؤلاء الناس الذين ينتمون لهذه الثقافة، ولا عن الوعى الجمعى المحدود فى جماعة صغيرة مثلما يحدث فى العلاج الجمعى وعلاج الوسط..، إذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن ندرس أية ظاهرة فى حدود تعريفها المعجمى أو توصيفها العلمى المستورد؟
ثم ألم تلاحظ أننا نتكلم طول الفقرة السابقة عن الوعى أكثر مما نتكلم عن الادراك مع أننا لم نبتعد قيد أنملة – كما يقولون- عن موضوعنا الأصلى، فهل يا ترى هما مترادفان، (الوعى والادراك)؟، إذن فها نحن نجد أنفسنا فى متاهة مواجهة ظاهرة “الوعى” أيضا وهى بداية أصعب من بداية الادارك، وسوف نعود إليها
الإدراك فى أحد تعريفاته هو العملية التى تعطى “للعلامات” “معنى”، فأين الوعى من ذلك، لكن ثم تعريف أوسع يمتد بالادراك إلى ما قبل الإنسان وهو الذى يقول: “الادراك هو العملية التى بها يتعرّف الكائن الحى على البيئة المحيطة”وهنا نجد أنفسنا أمام كلمة “يتعرف” التى تجرنا إلى المعرفة ومنها إلى الفهم وكلاهما قضايا شائكة متداخلة فى ذاتها، وفى العلاقة فيما بينها (مما سنعود إليها بالتفصيل).
مرة أخرى “من أين نبدأ”
المريض النفسى والصحيح نفسيا أيضا يتكلم ويتواصل على مستويات متعددة معا، وهو يمارس وعيه للتمثيل، والتواصل، من خلال منظومة رمزية تسمى اللغة، هذه المنظومة ليست هى ما جاءت فى المعاجم، ولكنها التنسيق البيولوجى الذى تميز به الإنسان ليحقق اقتصادا غير مسبوق فى التمثيل والتواصل بين أفراد نوعه، وبقدر تنوع تجليات الثقافة العامة (الوعى الجمعى) تتولد الألفاظ وتُختبر وتبقى وتُتناقل، حين أتوقف عند لفظ عربى (أو عامى)، استمع لموسيقاه ويصلنى نبضه قبل أن أحتاج للسؤال عن معناه المعجمى(2) أتعجب أحيانا كيف نحت أجدادى هذا اللفظ بكل هذه الدقة ليعبروا بها عن مشاعر بهذه الرهافة أو الجسارة، أو عن معنى بكل هذا الغور والقوة، أحيانا أنظر فى نصوص مُشَكَّلّة (شدّة وفاتحة وسكون…إلخ) وكأنها لوحات تشكيلية تساهم فى نقل نبض وعى الألفاظ إلى وعيى، أنا لا أعرف لغة أخرى غير بعض اللغات السامية بها هذا الرقص التشكيلى هكذا. اللغات الأوربية الأحدث مثل الانجليزية والفرنسية حروفها عارية وجافة أغلبها تحت زعم أنها استغنت عن التشكيل بالحروف الساكنة.
مرة أخرى ليست أخيرة:
إن مرضانا يمرضون بلغة الأم (العامية)، وأنا أحيط من خلال علمى بمرضهم باللغة الأم (الفصحى) كما أنى أعالج مرضاى الذين يمرضون بالعامية، فأفهمهم بالفصحى كما تقبع فى دناى DNA، ودناهم.
سبق أن قلت فى سياق آخر إن اللغة العربية الفصحى لا يمكن أن تصل إلى ما وصت إليه إلا إن كان الذين أفرزوها هم أهل حضارة حقيقية استطاعت أن تنحت ألفاظها من أصوات إنسانية كانت لها كل هذه القدرة على تخليق ألفاظها وتركيباتها لتقوم بالتمثيل والتوصيل، ثم إعادة التجديد بما يتجلى فى لغة الشعر أو اللغة الصوفية الغريبة على من يتعاطى العلم الحديث، فلا أقل من أن يكون انطلاقنا ونحن نبحث تركيب الإنسان فى المرض خاصة من أن نبدأ من لغتنا العربية بكل شجاعة وبساطة، هذا حقنا، وهو واجبنا أيضا، هذه اللغة الفصحى العبقرية تطمئننى على أن للعرب حضارة حقيقية أفرزت هذه اللغة، مهما بدا أن حاضرنا يخجلنا مرحليا.
ثم أختم هذه النشرة بملاحظات عملية سبق أن أثبتُّ أغلبها فى نشرات سابقة من واقع الممارسة
- يحضرنى ربى، ربنا – نجتمع عليه، نفترق عليه – دون نطق أى من اسمائه عادة، إلا أنه سبحانه يتجلى، كل موقف علاجى آنىّ بشكل واضح فى ممارستى للعلاج الجمعى أسبوعيا، وايضا فى ممارستى الإكلينيكية اليومية فى علاج الوسط، دون أى محتوى دينى محدد أو ذكر بالألفاظ حتى لا تختلط المفاهيم بالتعريفات السابقة.
- نتواصل فى هذه اللقاءات والنشاطات على أكثر من مستوى (من بينها الألفاظ) لكنها كلها مستويات “إدراك” نشطة وفاعلة.
- أتعرف عليه سبحانه مجددا باستلهام مقامات مولانا النفرى، حتى تجرأت أن أواصل استلهامات شيخنا النفرى بما أسميته “حوار مع الله” ، وبرغم غرابة اللغة الشعرية التى كَتَبَ بها مولانا مواقفه ومخاطباته فأنا أتعرف ولو جزئيا من خلال هذا الحوار على ما هو إدراك كلى وجزئى/حواسّى ومتجاوز للحواس، وهو غير التفكير تماما، حتى اهتديت إلى أن الله سبحانه وتعالى “يـُدْرَكُ” بالإدراك ولا يثبت بالتفكير، أى لا يعرف بالعقل الأسطح (وسوف أرجع إلى ذلك بشكل أو بآخر).
- أتبين أن هذه المعرفة أو تلك ليست معرفة ثانوية أو تسكينية أو مساعدة، ولا حتى هى معرفة دينية بمعنى تعريف الدين بالشريعة فحسب، لكنها معرفة موضوعية واقعية بيولوجية حاضرة فاعلة، ربما ألمحت إليها ولو قليلا فى تناولى لما أسميته “تشكيل الوعى الجمعى” “تشكيل الوعى… الكونى الجديد (الحرية 1-2)” بتاريخ 16/8/2011، ونشرة: تشكيل الوعى المصرى الكونى … (الحرية 2-2) بتاريخ: 23/8/2011.
- من خلال ممارستى العلاج الجمعى أيضا تعرفت على علاقة الإدراك بالزمن، وبالذات بما أسماه جاستون باشلار “حدس اللحظة”، حتى تصل هذه العلاقة إلى جزء من الثانية بشكل أو بآخر (ولهذا حديث لاحق).
- إن ما أكتبه بهذا الأسلوب كمقدمة لتناول ظاهرة الإدراك سواء بالنسبة لحالات الوجود المتناوبة فى الصحة النفسية، أو لاضطرابات الإدراك، أو لعلاقته بالإبداع، أو لفرض “العين الداخلية”، تصعب – فى الأغلب – ترجمته إلى أية لغة أخرى (وربما إلى اللغة العربية أيضاّ!!!!) .
- يصبح وعدى بالتالى، أو رغبتى أن أنشر هذا الفكر، من واقع هذه الخبرة اقرب إلى الاستحالة، على الأقل فى المرحلة الحالية، لكننى أواصل هذا، مع أن أرثر أربرى(3) قد قام بترجمة النفرى إلى الإنجليزية بإعجاز سمعت عنه، لأننى لست حكما فى مثل هذا المستوى، مع أن الترجمة عندى طبعا، بل إن كثيرين من الناطقين بالعربية قد تعرفوا على النفرى من خلال ترجمته إلى الإنجليزية.
- برغم كل الصعوبة التى تبدوا فى كل ما سبق، فإنى أود أن أختم هذه الخواطر بالتأكيد على أن مرضاى فى العلاج الجمعى، وبعضهم لا يفك الخط، يعرفون كل ذلك تماما، ويشفون من خلاله جدا.
………
……..
أما كيف؟ فاسمحوا لى الآن إلى أن نلتقى.
[1] – الناشر مجلة سطور – القاهرة – 1999
[2] – وفى هذا اختلاف أكاديمى ليس سهلا لن أعرج إليه
[3] – آرثر جون أربرى ( 1905- 1969م ) ترجم كتاب (المواقف والمخاطبات) للنفرى الى الانكليزية – جامعة كامبريدج.