نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 4-11-2012
السنة السادسة
العدد: 1892
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (125)
الإدراك (86)
إدراك الإدراك: (3 من ؟)
مازلنا مع تعقيب أ.د.صادق السامرائى
(المنطلق الإكلينيكى والغموض المتزايد)
انتهت الحلقة السابقة بوعدنا باستكمال الرد على ما أورده أ.د.صادق السامرائى عن علاقة الإدراك بخبرة الموت (تقريبا) فانتهزتها فرصة لأكرر أن مصدرى الأول (وليس الأخير) هو الخبرة الإكلينيكية المباشرة بأقل قدر من الوصاية، ثم الخبرة الشخصية، بأكبر قدر من الموضوعية، فى التحام حركى جدلى مع المعطيات والمعلومات المتاحة من كل حدب وصوب، وحين عرضت الحالات التى عرضتها وخاصة فى باب “حالات وأحوال” و”التدريب عن بعد”، فى النشرة اليومية وقبل ذلك فى المجلة الفصلية “الإنسان والتطور” اكتفيت بالتركيز على هذا المبدأ الأساسى: “المعايشة الموضوعية ما أمكن ذلك”، ثم جاء تعقيب أ.د. صادق السامرائى هذا من نفس المنطلق، هذه هى النقطة الأولى التى شدّتنى وطمأنتنى، أما النقطة الثانية فهى ما أثارته ملاحظات أ.د. السامرائى الجديدة علىّ حين ربط خبرة الموت بالإدراك، فبالرغم من أن إشكالة الموت (والخلود) تشغلنى طول الوقت، وقد نشرت بعض ذلك فى نشرات متفرقة فى نشرة “الإنسان والتطور” مثل نشرة: الموت: ذلك الوعى الآخر، بتاريخ 5-1-2008، – عن الموت والوجود، بتاريخ: 7-11-2007 – الموت والشعر: بتاريخ: 21-11-2007 – كيف و متى يعرف الطفل ما هو الموت؟ و نحن أيضا؟: 25-11-2005
إلا أننى أشفق على وقت القارئ أن أحيله إليها جميعا – إلا لمن شاء -، وأكتفى بالاعتراف بأننى لم أشر فى ملف الإدراك إلى علاقته بالموت ولا مرة واحدة، حتى جئت أنت يا سيدى الفاضل بهذه الإضافة الهامة وربطت هذا الربط الجديد بالنسبة إلىّ، وإليك موقفى المختلف قليلا أو كثيرا .
ابتداء لى ملاحظة فرعية: فأنا أود أن أذكرك وأذكر نفسى بهذه اللجنة الجديدة التى تبنتها شبكتنا الثرية الرحبة تحت اسم “إحياء التراث” وهو جهد مشكور ولجنة مباركة إن شاء الله، لكن لعله بلغك أننى اعتذرت ولو مرحليا عن المشاركة فى الحوار بشأنها حتى نقر أساسيات لعملها تحدد أقل قدر من الوصاية على ما خلقنا الله به وله، فمثلا لو طرحنا إشكالة الموت كما طرحتها أنت صادقا، دقيقا من واقع حالات إكلينيكية محددة لها ثقافة غير ثقافتك (وثقافتنا) ودين غير ديننا (إن كان لها دين أصلا)، ثم جاءت هذه اللجنة باجتهاد محترم تقيّم ما عرضت، وقد أناقشك فيه مع حالاتى، وراحت تقيسه بمقاييس لفظية مثبتة فى التراث حول مسألة الموت كما جاءت فى هذه التفاسير (وليس فى الأصل) واعتبرت أن هذا هو المرجع الذى نقيس به هذه الخبرات، فلك أن تتصور يا سيدى الإجابات الحاسمة والحاكمة على هذه الخبرات التى حكيتَها وعايشتَها، ثم محاولة تفسيرها اختزالا حاسما بمرجعية راسخة، فهل يا ترى ونحن نتصور أننا نحيى التراث علينا أن نحكم على خبرة مريضك الانتحارى الأول، أو على العجوز التى وصفت وصدقتْ، ثم ماتت مبتسمة: أحكاما شرعية واضحة، أم أن واجبنا أمام علمنا وخبرتنا أن نحترم ما وصَلَنَا، ونضعه بين قوسين نتعلم منه ماهية البشر كما أتاح لنا ربنا أن نعايشها؟ ومن ثم ماهية الإدراك، كما فضلت أنت أن تعتبر هذه الخبرة “إدراكية” فى المقام الأول؟
هذا، ولقد حضرت لقاءك مع الحالة الثالثة حالة ذلك الشاب الذى وصف المشاهد الرائعة الخلابة، وتوقفت أمام وصفك لما وصلك منه “وأنه أطلق النار على نفسه لكى يقوم برحلة الدخول إلى “روعة السحر والجمال الإدراكى الذى لا نعرفه ونحن أحياء”، توقفت بالذات أمام تعبير “الجمال الإدراكى”، فكل ما حاولته فى ملف الإدراك حتى الآن لم يقربنى إلا من هذه الظاهرة باعتبارها قدرة من قدرات الإنسان المعرفية العادية الرائعة، قدرة أعمق وأشمل، صحيح أن المعرفة المتسقة هى من أجمل خبرات البشر لكن وصف “الجمال” بأنه “إدراكى” كان جديدا علىّ بشكلٍ ما، وفرحتُ به.
ومثل هذا ورد فى الحالة الرابعة وأنت تقتطف ما كتبه الطبيب بعد أن أفاق من غيبوبته وأنت تصفها بأنها “رحلته الإدراكية”، ثم صحوة ذلك الشاب الذى شنق نفسه وراح فى غيبوبه استمرت سبعة أيام ليفيق فيصف ما وصله بأنه كان فيها “يعى ويدرك وهو فى صحوته الإدراكية الاشراقية”، أو بنص كلامه الذى أوردته أنه:
“كان جسمي في غيبوبة، لكن عقلي ووعيي ونفسي الداخلية حية وبعافية، كنت في موضع واسع من الغيوم، أبيض وقرمزي وبخلفية سماوية زرقاء تميل إلى السواد، مع وصف ساحر وخلابللمنظر البهيج”… إلخ.
ثم إننى تعجبت وأنت تنهى كل ما ذكرت عن تلك التجارب التى جمعتها بأمانة وصدق فى وصف هؤلاء “الذين مروا بتجربة الموت” وكأنهم ذهبوا “إلى ذات الحالة الإدراكية والتقوا إلى ذات المكان”، وتتواضع لتقول: وأن هذه ليست سوى “أمثلة مقتضبة تثير تساؤلات لا تنقطع عن:
(أ) ماهية الإدراك؟
(ب) هل حقا نحن نملك قدرات الإدراك؟
(جـ) هل نحن نتوهم ولا ندرك إلا مافينا ونحسبه حولنا ونراه؟
(د) وهل أن للروح عناصر؟
(هـ) وما هى عناصر العقل؟
(وقد تركتُ حكاية: كيف يتحقق التفكير وتتوارد الأفكار جانبا لأننى اعتبرتها ليست فى نفس المستوى مع أنها ضمن ما تناولت مع الإدراك)
وفى نهاية النهاية تقول:
“نحن مخلوقات ندرك ما يمكنها أن تدركه لكنها تعجز أن تدرك حقيقة الإدراك، وتعى مواطن الانكشاف اليقينى والبوح الروحى الفياض، فمادامت حواسنا ذات حدود وحواجز، فكذلك أى نشاط نقوم به ونحاول أن تستشرفه.
ثم تقول: “وباختلاف قدرات ومستويات، ورياضيات الحركة الإدراكية يتم تقدير نسبة الإدراك والوعى الأرضى عند البشر.!!!
وللإجابة على كل هذه التساؤلات لا أجد أمامى بعد 682 صفحة (حجم ورق A4) وأنا ألف وأدور حول هذه الظاهرة إلا أن أحاول أن أحدد نفسى فى كلمات قليلة جدا حتى لا تتوه منا الخيوط فتزداد حيرة من يتابعنا ممن أشفقت انت عليهم بحق.
للإجابة على هذه التساؤلات بشكل واِفِ أشعر أنه ربما يتطلب الأمر – منى على الأقل – الرجوع إلى الملف من أوله – وقد بلغ كما ذكرت، ولأن هذا مستحيل فسوف أكتفى بالإشارات التالية بعد إعادة التحذير من أن نتناول الموضوع بأية وصاية خارج الملاحظة الإكلينيكية والخبرة الشخصية الموضوعية واستلهام نصوص الخبرات الذاتية المدونة، ونقد الإبداع الأدبى كذلك (انظر بعد)، وإليك بعض الاشارات المتلعقة بتساؤلاتك.
أ) ما هى ماهية الإدراك؟
الإجابة: خبرة الإدراك هو العملية المعرفية الأشمل التى نتعرف من خلالها على المحيط حولنا، والواقع داخلنا، بمستوياتهما المكثفة والمتصاعدة.
(ب) هل حقا نحن نملك قدرات الإدراك؟
الإجابة: إن لم نقرّ أننا نملك هذه القدرات التى تتجاوز الحواس، فنحن لن نستطيع أن نتعرف على ماهيتنا بشرا، ولا على ماهية الحياة، ناهيك عن معرفة الله وسلوك طريق الإيمان.
(جـ) هل نحن نتوهم ولا ندرك إلا مافينا ونحسبه حولنا ونراه؟
الإجابة: إدراك ما حولنا بالحواس وارد، لكن إدراك ما حولنا بدون الحواس وارد أيضا وقد يكون الأهم، أما إدراك داخلنا فأقله يحدث بما يسمى الاستبصار mtrospection وعلاقته ضعيفة جدا بالادراك إلا فى مرحلة الوصف اللاحق، على أن إدراك الداخل يتم بما أسميناه “العين الداخلية” أو “الأذن الداخلية” أو “الحاسة العامة الداخلية”.
نحن ندرك مابداخلنا، ولا نتصوره أنه خارجنا إلا فى حالات الهلوسة الصريحة، وبصفة عامة فإن إدراك الداخل هو فى جدل دائم مع إدراك الخارج، فَهُمَا فى تناغم وحركية ومتناوبة جدلية إيقاعية نمائية.
د) هل للروح عناصر.
الإجابة: لعلك لاحظت أننى لا استعمل لفظ “الروح” إطلاقا، مستندا إلى أنها “من أمر بى”، وأيضا تجنبا للوصاية الشرعية الجاهزة، لكننى استعمل تعبيرات أخرى ليست مرادفة للروح بالضرورة، مثل مستويات الوعى، وحالات العقل، وحالات الذات، والعقول الأخرى، والوعى الجمعى، ونادرا “اللاوعى الجمعى”.
(هـ) وما هى عناصر العقل؟
الإجابة: أنا أفضل أن نتفق أولا على تحديد ما نعنيه فى أى حوار محدود بكلمة العقل، فأنا أنطلق من فرض “دانييل دينيت” وأن لنا عقولا وليس عقلا واحدا، وأن مستويات الوعى وبرامج البقاء هى عقول أيضا، وبالتالى فتحديد عناصر العقول ينبغى أن يلتزم بالدائرة المحدودة التى يستعمل فيها هذا اللفظ لذاك الغرض دون سواه، وإلا ستختلط الأمور اختلاطا شديدا.
مرة أخرى تتبقى المفاجأة عن علاقة الموت بالإدراك.
وآمل أن نواصل ذلك غدًا.