نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 15-10-2012
السنة السادسة
العدد: 1872
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (118)
الإدراك (79)
الدهشة: طريق إلى الله (2) فماذا عن التراث؟
كانت نشرة أمس بعنوان الدهشة: طريق إلى الله!! ولم يشر العنوان إلى أنها دهشة الأطفال بالذات، وقد أنهيت الأرجوزة، التى تحولت إلى قصيدة، بأن طرحت عدة ملاحظات بعضها فى صورة أسئلة، مفضلا أن استكشف أية قراءة غير موصى عليها قبل أن أشرحها فأشوهها، وكانت الأسئلة والملاحظات كالتالى:
1- كيف أن الكلمات الشارحة قد تفسد ما يصل إلى الطفل دون شرح
2- هل الدهشة هى فعلا انفعال معرفى (أو قـل: معرفة وجدانية)؟
3- ماذا عن إبداع التلقى (عند الاطفال خاصة)؟
4- الفرق بين الخوف المعرفى المصاحب للدهشة عند الأطفال، وخوف الكبار من مغامرة طرق باب الغموض وتحمل مسئولية السؤال بلا جواب (الغيب) من القصيدة.
5- هل يمكن للأطفال أن يشخصوا أحوال الكبار هكذا؟
6- معرفة الله التلقائية لا تعنى توصيفه وإنما أساسا حبه (المعرفى أيضا)
7- غموض لغة الأطفال قد لا يكون غموضا
8- المعرفة الكلية المرتبطة بالدهشة مفتوحة النهاية
9- الامتناع عن الشرح قد يكون أكثر إفادة أحيانا
10- علاقة كل ذلك، أو بعض ذلك، بالإدراك
قال لى أحد تلاميذى: “هؤلاء الأطفال “هكذا”، نحن لا نعرفهم فى حياتنا العادية، من أين جئت بهم؟، لابد أنهم أطفالك أنت من داخلك”، انتبهت، ولم أستبعد هذا الفرض، دون أن أستبعد أن ما جاء بالقصيدة هى مشاعر وإدراكات الأطفال فعلاً، نعم هى كذلك بكل هذا الغموض، وفى نفس الوقت هم عندهم فرصة التعرف على ربهم، ربنا! أفضل منّا!!
فجأة تذكرت أطروحة نقدية فى مناهج البحث كتبتها قبل واحد وثلاثين عاما، فى مثل هذا الشهر أكتوبر سنة 1980، والعجيب أنها نشرت أيضا فى المجلة الأم “الإنسان والتطور”، السنة الأولى، العدد الثالث، بعنوان “الباحث أداة البحث وحقله فى مجالى الطفولة والجنون”، فوجدت أن أنسب رد على هذا الناقد الصغير الأمين أن أحيله إليها فهى تقع فى حوالى عشرين صفحة مكتفيا باقتطاف ما يلى منها:
“…دراسة الطفل وتحديد خطوات نموه والتوصية بمناهج توجيهه قد أخذت حقها وزيادة فى مختلف المجالات، ولكن دعونا نراجع بقدر أكبر من التروى ودرجة أكبر من الشجاعة والمسئولية، ما إذا كنا نسلك الطريق الأسلم أم الطريق الأسهل، وما إذا كنا نحصل على المعلومات الأكثر ظهورا أم المعلومات الأصدق، وماإذا كنا نضع القوانين التى تتفق مع الغاية التطورية والمسيرة الحيوية الديالكتيكية، أم أننا نضع القوانين المستعرضة التى تفسر الارتباطات الآنية فى اجتهاد متواضع دون بعد ممتد؟؟”
- إن مصدر هذه النظريات المتماسكة هو ذات الباحث، سواء اعترف الباحث بذلك أم أنكره، سواء أقدم عليه بإرادته الواعية أم كان نتاجا طبيعيا لنوع خاص من الممارسة البحثية.
- إن درجة صدق أى نظرية هذا مصدرها تتناسب تناسبا طرديا مع درجة نضج الباحث ذاته التى تتناسب بدورها مع درجة وجوده الموضوعى (وليس مجرد موضوعية حكمه ومنهجه)، وهذا الوجود الموضوعى مرتبط مباشرة بمدى وعيه وقدرة ترابط مخه.
- “…إن القدرة النكوصية الخلاقة هى عماد الإبداع الفنى من ناحية والبحث العلمى بمواصفات خاصة فى مجالات بذاتها من ناحية أخرى، وهى هى وقود الحدس الإكلينيكى المسئول، وهى كما قدمنا ليست الملاحظة المجردة، ولا الاستبصار الانشقاقى وإن شملتهما معا، وفى دراسة الطفل وما يتعلق بالنظريات السيكوباثولوجية خاصة نجد أن هذه الدراسة وذلك التنظير يحملان قدرا من الإبداع الخالقى، الذاتى بالضرورة، وهو الذى ينظم المعلومات المتاحة فى شكل نظرية متماسكة، فهى عمل فنى علمى معا، وفى نفس الوقت هى عمل ذاتى موضوعى فى آن واحد”
****
ثم إذا بى قبل أن أهم بشرح موقفى وكيف قرأت وعى هذين الطفلين حتى لو داخلى، وقبل أن أتناول ما أشارت إليه الملاحظات والأسئلة العشرة، اكتشفت فى بريدى الإلكترونى فيضا من المبادرات والحوارات من الشبكة العربية النفسية فيه قدر رائع من الحماس الشريف، والانتماء النبيل مع الألم والأمل المناسبين، وكان هذا الحوار يدور حول موضوع جمع التراث العربى الإسلامى، وتبادله، فيما يتلعق بالاسهامات الأصيلة الرائعة فى العلوم النفسية، لعلنا نتميز بها ونتمثلها، أو نتواصل من خلالها كما جاء فى الملف الخاص بنفس الموضوع والسابق ظهوره فى الشبكة بعنوان: “السيكولوجية العربية والتراث النفسى الإسلامى، نحو مد جسور التواصل“، ركزت أكثر فى رسالة الدكتور السر أحمد سليمان أستاذ مشارك بقسم علم النفس كلية التربية جامعة حائل المملكة العربية السعودية، وأضفتها إلى وعودى بالرد المفصل.
بصراحة فرحت فرحا شديدا بهذه المبادرات، وبحماس كل المشاركين فيها، وإخلاصهم فى محاولة إحياء التراث الرائع المهمل فعلا بغير وجه حق، لكننى بعد أن اطلعت على الخطوط العامة للمبادرات، وأنا أكتب أمس وأول أمس عن الإيمان والدين وعلاقتهما بالإبداع ساورتنى مخاوف أرجو ألا تكون حقيقية، ذلك أننى لاحظت كيف أننى ركزت فى النشرات الأخيرة على موضوع أن معرفة الله تتم بالإدراك وليس بالتفكير ولا بالعقل الظاهر المنطقى المسلسل، كما تجلى أمس بوجه خاص حتى فى أرجوزة الأطفال فما علاقة ذلك بهذه المبادرات؟ فخطر لى خاطر يقول:
يا ترى هل يصب كل هذا الحماس للتراث: جمعا ومراجعة، وهو حماس شريف وقوى وضرورى، هل يصب فى تحريك إدراكنا الآن لمعرفة ربنا أعمق وأثرى، فنعرف أنفسنا أرقى وأنقى، أم أنه قد يعزلنا عن غيرنا ونحن نتصور أننا نتميز من الظاهر؟
وبشكل أكثر مباشرة تساءلت، مع احترامى الشديد لتراثنا اللغوى والدينى وانطلاقى منهما دائما أبدا: ما علاقة كل ما قد نجمع من تراث هكذا بموقفنا مما نمارس الآن فى المجال الإكلينيكى أساسا، ثم فى كل مجالات التخصص؟ وبالذات ما علاقة جمع هذا التراث والائتناس به وتبويبه، بشحذ الإدراك وتوجيهه إن صح أنه هو الطريق إلى معرفة الله.
وهل الدين وخاصة إسلامى الحنيف إلا طريقا إليه سبحانه وتعالى؟
بصراحة خجلت من نفسى، فأنا أريد أن أزكى هذا الاتجاه، وأعرف أنه سيمدنى بالإلهامات وربما بإبداع بلا حدود، كما أنه سيكسر وحدتى حتما، ويفرحنى بأجدادى ويكشف لى عن كنوزهم التى لم نستثمرها بما تستحق، وبرغم ذلك وجدت أنه كلما زادت فرحتى زادت مخاوفى وقفزت إلىّ قصيدة أمس وكأن الطفلين يشيران إلىّ باشارات لا تختلف عن رأيهما فى أبيهما كما جاء بالقصيدة، خجلت أكثر، وقلت أذهب إلى الناحية الأخرى وأعدد المخاوف حتى أنقّى فرحتى، وأكون صادقا مع نفسى وزملائى إلى أن يحلها حلال ونختبر أنفسنا أفضل.
وفيما يلى بعض هذه المخاوف:
1- الخوف من التركيز على الإسلام ليس كممثل لوحى الله الأقل تشويها حتى الآن، ولكن باعتباره الأوحد أو الأول والآخر.
2- الاعتماد على تأويل التراث وليس على استلهامه فى الممارسة الآنية.
3- ترجمة التراث إلى نظريات علمية حديثة، مع الاهتمام بالتأكيد على حق السبق، دون الانتباه إلى أن النظريات العلمية الحديثة لم تعد حديثة، وأن الأحدث فالأحدث يلاحقها باضطراد، وبالتالى: الوقوع فى خدعة ما يسمى “التفسير العلمى للتراث”، مثلما وقعنا فى تسطيح يسمى التفسير العلمى للقرآن الكريم، فى حين أننا نلحق باستعمال هذا الأسلوب بكل من التراث والقرآن الكريم على حد سواء ما لا يليق بأى منهما حين ندعمها بعلمٍ متغير مهزوز أو مغترب أو سلطوى.
4- الخوف من تجنب نقد بعض التراث بشجاعة، خشية أن يحط هذا من قيمة أجدادنا أصحاب الفضل، فعلى عظمة ابن سينا مثلا وعبقريته، وعلى شجاعته وإبداعه، جاءت قصيدته عن “النفس” من أضعف إنجازاته، حتى أننى عزفت عن التعرض لها إلا فى سياق متكامل من ذكر عبقريته وفلسفته وإبداعاته فى مجالات أخرى بلا حصر، إذا أتيحت لى الفرصة.
5- التعسف فى تفسير التراث ليتواءم مع آمالنا وأحلامنا نعوض به شعورنا بالنقص بما يبعدنا عن الموضوعية بشكل أو بآخر.
6- إغفال التراث الأدبى عامة، والعربى خاصة، لحساب التركيز على التراث الإسلامى خاصة وكأنه الأكثر كشفا للنفس والفطرة، مع أن تراثنا الأدبى به من السبق والاختراق والإبداع، ما يتكامل مع توجهات الدين ومحورية الإيمان والتوحيد، بل وما يخترق العلم المؤسسى خاصة إذا تذكرنا أننا نتعلم من الإبداع الأدبى ماهية النفس أكثر من العلوم النفسية، فما بالك إذا وضعنا فى محور ما هو تراث هذا الإبداع الأدبى الفائق (خذ المعلقات مثلا!!).
7- قياس بعض التراث بمقاييس أصولية جامدة، مثل تصور أن الدين يرفض فكرة التطور، فى حين أن الدين الإسلامى خاصة يتمحور حول الحركة كدحا، والتوحيد سبيلا، والمعرفة طريقا بالطول والعرض.
8- إهمال التراث الأعظم لمعرف النفس وهو عطاء العارفين المجاهدين الذين هم فى واقع الحال فلاسفة المسلمين دون أن يسموا كذلك، فهم يصنفون عادة تحت اسم المتصوفة، مما يحتاج إلى إعادة نظر أحدث، بعد إحياء الفلسفة من جهة وبعد ربط التصوف بالعلوم الكموية الأحدث من جهة أخرى، وخاصة وأنهم يستعملون الإدراك أساسا أكثر من التفكير غالبا (النفرى مثلا أو ابن عربى).
9- استثارة أصحاب الديانات الأخرى للتباهى، لا للتكامل، بمن هو الاسبق ومن هو الأكمل، بما يزيد المسافة بين عباد الله المتوجهين تمحورا معا إلى وجه الله تعالى الواحد الأحد.
10- استحسان التراث لدرجة التقديس والتوقف عنده وكأننا نمارس الوقوف على الأطلال (وهذا أيضا من التراث) بديلا عن الإبداع والإضافة استلهاما منه فى مواجهة الاغتراب العلمى المؤسسى، والإغارة الكمية، والتفكيك التجزئيى عبر العالم، ناهيك عن الإغارة المالية الاغترابية الكانيباليبة الشيطانية المعولمة.
وبعـد
إن البحث فى الإدراك يغرينا بمواجهة تراث إنسانى من نوع آخر، حيث أعتبر الكيان البشرى هو أعظم مصدر للتاريخ الحيوى لمن تبقى من أحياء مازال يقف على رأسها هذا الكائن المسمى “الإنسان” الكادح إلى ربه ليكمل طريقه بلا نهاية بمزيد من الدهشة الخلاقة والمعرفة الإبداعية المتجددة، من هنا جاء تأكيدى على البدء من الممارسة بلغتنا العبقرية، وبما سجل فى أحماضنا الأمينية DNA كما يظهر لنا فى الممارسة مدعما بالإبداع كله متأصلا فى التراث البيولوجى الماثل فينا الممتد من أصول أصولنا حتى ما هو “نحن” “هنا والآن”.