نشرة “الإنسان والتطور”
7-8-2012
السنة الخامسة
العدد: 1783
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (99)
الإدراك (60)
الإدراك: واللاشعور
(بداية قراءة لعبة: أخاف أقول كلام من غير كلام!!)
اعتذار:
“وقع” الموقع أمس لأسباب تقنية لا أفهم فيها، وقال المسئول إنه يحتاج إلى أربع وعشرين ساعة على الأقل لاستعادة عافيته، فاحتجبت هذه النشرة عن الصدور فى وقتها المعتاد يوم “الثلاثاء” ومساء الأربعاء، وهأنذا أحاول تصحيح ما جرى مما لا ذنب لى فيه (غالبا).
ربنا يجعله خيراً
على أية حال، أرجو لمن يتابعنا أن يقبل عذرنا، وأن نواصل معا من جديد، إن كان هناك من افتقدنا، فقد أصبحت – كما كنت دائما – أشك فى هذا الاحتمال، فاحمد الله أكثر فأكثر، وأواصل.
إلا أن رسالة عاجلة وصلتنى من الابن جمال التركى تقول:
افتقدت النشرة بالأمس واليوم، نأمل أن يكون المانع خيرا.
ورسالة أخرى من الابن جمال “مايكمل فهمى” تقول: ألف سلامة، افتقدتك اليوم، وبلاش تمارض!! عشان عندك شغل كتير!!
فشكراً لهما، فقد كانا فيهما برداً وسلاما بإذن الله،
كان من نتائج هذا الاحتجاب، والتأخير، أن أعدت النظر فيما وصلنا إليه، بما فى ذلك هذه النشرة التى أصبحت أقرب إلى المقدمة التى كنت قد أعددتها ليوم الثلاثاء.
النشرة المؤجلة:
“…. إذا كان الإدراك هو الوظيفة المعرفية الأصل، وهو البرنامج البقائى الأقدر، وهو وساد الوعى بكل مستوياته، وكان ما قدمناه حتى الآن قد وضع كثيرا من الأمور فى نصابها، (من وجهة نظرنا على الأقل)، فلم يعد الإدراك قاصرا على الحس، ولم يعد التفكير مرادفا له، ولم يعد الخيال من آلياته المباشرة، إذا كان كل ذلك كذلك، فأين يقع ما يسمى “اللاشعور” وبالذات اللاشعور الفرويدى بالنسبة لهذه الوظيفة المحيطة هكذا؟
فى اللغة العربية تختلط كلمة “الوعى” بكلمة “الشعور”، وتستعملان بالتبادل بسهولة تضر كليهما، وربما تشيران إليه دون تميز، وما زالت كلمة consciousness فى الانجليزية تمثل إشكالة علمية منهجية نفسية لغوية تطورية طول الوقت، وكل المناهج الفينومينولوجى والجدلى منها خاصة، وعلى جميع المستويات فى الفلسفة والعلوم النفسية والعصبية حاولت أن تتناول أطروحة “الوعى” بعمق كاف، وبحذر واجب، ولم تنجح فى سبر غوره، وتركتنا فى بحيرة مفتوحة بعيدة الشطآن، وقد أشرت سابقا إلى حضورى لرائد الطب النفسى هنرى إى فى باريس، ومدى إعجابى به، ثم حصولى على مؤلفه: كتابه le conscience بالفرنسية الذى لم أفهم فيه حرفا ثم فرحتى بالحصول على ترجمته إلى الانجليزية ومازلت أجد صعوبة شديدة فى التقدم فيه حتى بالسرعة البطيئة أو القوى المكبرة، وحين قدمت أنواع العقولKinds of Minds للفيلسوف دانيال دينيت هنا فى النشرة نبهت إلى أننى لم أفهم منطلقه التطورى إلا حين أهتديت إلى مقابلة كلمة Mind التى استعملها حتى فى عنوان كتابهKinds of Minds بكلمة “مستوى الوعى” (وأحيانا حالات الذات أو حالات العقل).
قلت: إذا كان الأمر كذلك بالنسبة لكلمة “وعى” ومن ثم “شعور”، فما بالك بكلمة “اللاشعور”؟ كيف نستعمل نحن العرب كلمة “اللاشعور” بهذه البساطة والمباشرة؟ سواء فى حوار الشخص العادى أو بين المختصين وخاصة هواة الدراما والتحليل النفسى؟ كيف نستعمل صيغة النفى “لا” لنلصقها بكلمة لم نلم بمعناها ولا محتواها ولا مضمونها إلماما كافيا؟!!
هذه المقدمة ضرورية لأن المستوى الذى نقدم به الإدراك الأصل هو بعيد عن بؤرة الوعى السائد عادة، ومن ثَمَّ قد يذهب الظن إلى أنه عملية لا شعورية صرف، وهذا خطأ جسيم.
وبرغم ذلك حضرنى ما يسمى “اللاشعور” وأنا أحاول قراءة (نقد النص البشرى) الاستجابات للعبة التى جرت فى ثلاث جلسات متتالية فى العلاج الجمعى فى قصر العينى، والتى أشرت لها سالفا (أنظر بعد) حيث وجدت أن مجموعة من الناس متواضعى الثقافة مختلفى الهوية والتشخيص اجتمعوا فى دائرة حركت وعينا الجمعى إلى هذه المنطقة الغائرة القريبة معا من خلال هذه اللعبة بألفاظها غير المألوفة: التى تقول أخاف “أقول كلام من غير كلام” قلت: يا ترى هل هذا هو اللاشعور أم أنه ذراع الإدراك (الذراع الُمَبادئى) الذى نتكلم عنه “هنا الآن”؟ وأن هذا الذى لم يظهر فى الكلام ومع ذلك أخاف المشاركين من حضوره هكذا قريبا منهم، هو الإدراك الذى نبحث فيه؟ وفى نفس الوقت هل هو متاح لدرجة سمحت لهم بإعلان الخوف منه هكذا عند معظم المشاركين؟
التحريك الذى يحدث فى العلاج الجمعى، هو نوع من تنشيط النقد لبداية التحرك النمائى من خلال السماح بالإبداع لمخاطبة مستويات الوعى معاً، وهو الذى يمكن أن يكشف لنا عن موقع الإدراك فى الخلفية المتقدمة لجدلية المعرفة إن صح التعبير، وكل ذلك ليس له علاقة مباشرة بما يسمى “اللاشعور” خاصة كما شاع عنه العامة والتحليليين.
اللعبة التى سبق أن ألمحت إليها هى شديدة البساطة غريبة الشكل معا، لكنها أظهرت نتائج شديدة الدلالة، وقد كنت قد أشرت لها سابقا، مما يحتاج إلى إعادة محدودة.
اللعبة
تخلقت اللعبة بمحض الصدفة أثناء جلسة من جلسات العلاج الجمعى، وكنت قد وعدت بالعودة إليها وأنا أتقدم نحو كشف طبقات “الوعى المعرفى” المتجادلة المتداخلة معا، لكننى حين حاولت أن أفى بوعدى وجدت نفسى فى حيرة منهجية بلا حدود، ومع ذلك غامرت آنذاك بالعرض الممكن لحين تتاح الفرصة التى لاحت لى حالا، مع أننى لست متأكدا من كفاءتها بعد.
وإليكم الحكاية من بدايتها:
فى نشرة : 9-5-2012 جاء مايلى:
تطورت الجلسة (العلاج الجمعى) إلى فحص هذا التواصل بدون ألفاظ، وبدون إشارة، وقد بدأت الفكرة حين طرحتُ على من يشاء من المجموعة أن يتكلم بأصوات لا معنى لها أصلا، لكن بمجرد تبادل أصوات مختلفة كاننا نعنى بها شيئا، عجز الجميع، ما عدا شخصى عن المشاركة (ربما لأننى كنت أمارس هذه اللعبة مع أحفادى بنجاح فى أوقات لهونا معا على الشاطىء).
أنا لا أستطيع أن أنقل تفاصيل وروح ما جرى فى هذه اللعبة بالكتابة مع أنها شديدة الوضوح والدلالة بالصوت والصورة، ومع ذلك سوف أحاول:
كان المقترح هو أن نتواصل دون ألفاظ سابقة التجهيز، ألفاظ هى مجرد أصوات ليس لها معنى ظاهر متفق عليه، وبأقل قدر من الإشارات البديلة (ليست أبدا قريبة من لغة الصم والبكم التى يذيعون لهم بها نشراتهم) الفكرة المتضمنة تفترض أننا يمكن أن نتواصل بدرجة من التعرف والمعرفة بمجرد عقد العزم، وتوجه الخطاب، دون تحديد هدف بعينه، بدأت أنا المحاولة:
قمت استجابة لهذا لاقتراح بإصدار أصوات لا معنى لها أصلا، ولكن بيقين أنها تعنى “شيئا ما” قلت ما يلى: “تق/سى/لو/فى/سنا/تن/أف/ثنا/قف….. الخ”
وبرغم أن أحدا لم يلعبها، فإن أحد المرضى أعلن أنه حاولها صامتا، وأنه خاف من ذلك، وحين سألته ما الذى أخافه؟ قال: “خفت ألا استطيع أن أرجع للكلام العادى”، وفى هذا ما فيه من دلالة أن هذا الرطان كان “كلاما” لكنه غير عادى، وأنه قوى، وأن له حضوره ووظيفته التى يمكن أن تحل محل الكلام العادى!!!
حضرتنى الآن أناشيد “التكية” الفارسية التى امتلأت بها “ملحمة الحرافيش” لنجيب محفوظ، والتى أصر هو ألا يترجمها أحد إلى العربية، وقد سألته شخصيا عن سبب ذلك ولا أذكر أنه أجابنى إجابة محددة، ربما قال “هى كده” والآن تحضرنى كنموذج موازٍ لهذه اللعبة التى بدأناها هنا فى العلاج الجمعى هكذا.
بعد ذلك أعلن أكثر من واحد من المجموعة خوفه أيضا من مجرد التفكير فى المحاولة، ومن هنا تخلّقَت هذه اللعبة الحالية للتعبير عن هذا الخوف(1) وتحديدا بالألفاظ التالية:
“أنا خايف أقول كلام من غير كلام لـَحْسن…” (ونكمل)
وكان المطلوب مثل كل لعبة – أن يكمل المشارك الجملة كيفما اتفق “بأى كلام” وبسرعة ما أمكن ذلك، موجها خطابه إلى أحد أفراد المجموعة مريضا أو معالجا “أنا – انت” فى “هنا والآن”!
سوف أعيد كبداية ما ورد فى تلك النشرة السابقة بمثابة عينتين كما يلى: (التاريخ: 9/5/2012)، وذلك حتى نعود إلى اللعبة بالتفصيل، ربما فى الأسبوع القادم أو بعد ذلك:
– حليمة (45 سنة ربة منزل منقبة إلأ فى الجلسة):
يا “فلان” أنا خايفة أقول كلام من غير كلام لحسن يطلع له معنى
– شهيرة (17سنة) طالبة ثانية ثانوى:
يا “فلانة” أنا خايفة أقول كلام من غير كلام لحسن تفهميه
يبدو أننى تجنبت التعليق سابقا لما غمرنى من فروض وتأويلات من هذين النصين المحدودين، فما بالك واللعبة امتدت – متقطعة على مدى ثلاث جلسات متتالية؟
من هذا المنطلق اكتشفت أننا يمكن أن نتعرف على بعض جوانب الإدراك (الذراع البادى: الإعداد) سواء طبيعته أو بعض محتواه، من خلال هذه التجربة المباشرة فى مواجهة وعى مجموعة من البشر ليس لهم أية خلفية ثقافية أو فلسفية أو نفسية عن ما يسمى الفينومولوجيا، أو العلم المعرفى، أو علم الإدراك، أو حتى القراءة والكتابة، بل إننى حين رحت أنظر فى بقية الاستجابات للعبة ومدى التنوع الذى غمرتنا به خفت أن تلتهم تفسيراتها ونقدها الجزء الباقى من ملف الإدراك،
قراءة محدودة:
أولا: “حليمة”
“يا فلانة أنا خايفة أقول كلام من غير كلام لحسن يطلع له معنى“
- يلاحظ من الاستجابة أن الكلام الذى لم يُقلْ عبر الكلام المعلن (من غير كلام) أعلن عن نفسه أن له معنى، ومعنى يبدو قويا محددا، ربما أكثر تحديدا من معنى الكلام الذى قيل ويقال كما يبدو أن مجرد أن له معنى، وهو بكل هذا البعد وهذا الغموض، هو شئ حقيقى قد تم التواصل به بكل آثاره التى أخافت، ومن هنا تخلقت فروض محتملة على الوجه التالى:
- الأصل أن يكون الكلام الذى هو من غير كلام هو الذى له معنى، ربما أولى وأهم، وحليمة هنا تخشى أن تعلن هذا الكلام الآخر فتكشف المعنى الذى لم تستعد بدرجة كافية للتعامل على مستواه حتى خافت أن تفهمه الزميلة التى تخاطبها(لحسن يطلع له معنى)
- إننا نتفاهم على مستوى الكلام ومحتواه وألفاظه المعلنة فى حدود ما لا نخاف من اعلانه، فى حين أن هناك عملية أعمق تجرى فى نفس الوقت، وتؤدى وظيفة أخرى بعيدة عن المتناول نسبيا، وهى تهدد المستوى المعلن الملفظن بشكل أو بآخر.
- أن الإدراك يبدأ بعملية أقرب ما تكون إلى عملية “الإعداد” التى أشار إليها رشاد،
- يتكون المفهوم أولا (فى شكل صورة أو كلام أو معرفة هشة) فى أولى خطوات تنشيط الإدراك
- يكون هذا المفهوم مضغما ومتداخلا مع غيره بشكل غير مميز فى البداية، وهو يمكن أن يكتمل أو لا يكتمل، كما يمكن أن ينطق فى ألفاظ (كلام)، أو لا ينطق، بعد ذلك، لكنه يقوم بدوره فى كل الأحوال.
ثانيا: “شهيرة”(2)
وحين ننتقل إلى “شهيرة” نجد أن استجابتها تكاد تعلن أنها أيضا همت أن تقول كلاما ربما أعمق وأشمل، وإذا بها يصلها خوف أن يحمل ما يمكن أن تقوله ، والذى لم تقله، قدرا أكبر من النبض والمعنى الذى يمكن ألا يحتمله المتلقى، أو لعله أكثر تعرية لها مما أرادت “أحسن تفهميه” ويظل هذا الكلام “من غير كلام” يؤدى وظيفته فى الخلفية بشكل أو بآخر. على أنه يمكن تصور ثمة رغبة أخرى قد نفهمها من نفس الاستجابة وهى أن شهيرة فى حاجة إلى أن تعبر عن مستوى أعمق وتتمنى أنه: يا حبذا لو فهم، “الأخر” بطريقة أخرى غير الفهم المعتاد، وهذا يذكرنا بلعبة: يا خبر دانا لما مابافهمشى يمكن …!!”نشرة:3-4-2012
وغداً (اليوم) نكمل أو لا نكمل!! أنا خائف من الصعوبة.
آخر لحظة:
كان لابد لهذه اليومية أن تنزل بهذه الصعوبة فورا، وبهذا التكثيف، علما بأن المثالين ليسا سوى عينة من أكثر من مائة استجابة متاحة بين يدينا، وقد خطر لى أن أنشر مجرد عشر استجابات كعينة خام لسببين:
الأول: ربما يحاول أحد الأصدقاء أن يتأمل المغزى قبل وصاية التفسير.
الثانى: ربما يحمل ذلك دعوة لبعض الأصدقاء أن يستجيبوا للعبة كتابة كما كنا نفعل فى الفترة الأولى من صدور هذه النشرة حين ظهرت مجموعة من الألعاب العلاجية وحظيت بترحيب طيب، وقبول حسن.
رمضان كريم
عشرة نماذج من الاستجابات:
إلهام: يا خالد أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن تتخلى عنى
إلهام: يا ياسمين أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن تزعلى منى
إلهام: يا د.يحيى أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن ما تساعدنيش
هيام: يا إلهام أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن تخدينى فى حضنك
هيام: يا ياسمين أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن تفهمينى
هيام: يا د.يحيى أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن تحس بيا
هيام: يا هيام أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن تقربى منى أكتر
عادل: يا هيام أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن تطولى أكتر من كده
عادل: يا وليد أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن ترجع تانى زى الأول
عادل: يا د.يحيى أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن تبوصلى باصة الغضب
[1] – أحيانا نلعب لعبة تمثيل الجنون، وأذكر أن بعض المرضى والزملاء ذكر تخوفا موازيا، بمعنى أنه خشى أن يمثل الجنون فيتمادى فيه ولا يستطيع العودة إلى تعقله، ويمكن الرجوع إلى نشرة:2-10-007 “يا خبر أسود، دانا لو اتجننت يمكن ……”، وهنا لعبة فى جروب الأربعاء بتاريخ 25-11-2009 “بصراحة أنا أسمح لنفسى أتجنن على شرط…..؟!
[2] – الأسماء غير حقيقية