نشرة “الإنسان والتطور”
3-7-2012
السنة الخامسة
العدد: 1768
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (89)
الإدراك (50)
“العين الداخلية” (21)
و”عملية اعتمال (معالجة) المعلومات”(20)
Information Processing
“كيف” الفصام، “دون أن ينفصم”!!
بعض معالم للمناقشة
مقدمة:
رأى رشاد الفصام رأى العين (..الداخلية)، ووصفه كما نعرفه وكما لم نعرفه ولا نعرفه، ثم إن رشاد هو الذى حال دون تمادى التفسخ، أى دون أن ينفصم، حتى اختفت الأعراض إلا عرضاً واحداً، هو نظرات الناس وكيف أنها ظلّت تخرق مخه (تعمل خروما فى مخه) ثم تركزت على عينه، كما ذكر نهاية الحلقة الأخيرة.
فى الرد على سؤال إحدى الزميلات، وقد استطردت فى هذا الرد لأقدم شرح كيف أنه لملم نفسه قبل أن يتفسخ بمزيد من الميكانزمات (العقلنة والكبت بوجه خاص)…. تصورت أن هذا يمكن أن يغنينى عن مزيد من المناقشة، إلا أن ما وصلنى شفاهة- أكثر منه كتابة-أن هذا الاكتفاء بهذا التعقيب الأخير جعل الأمر أكثر صعوبة، وبالتالى تراجعت عن تراجعى لأقدم نشرتين خاتمتين متتاليتين:
الأولى (اليوم) بعض معالم للمناقشة، وكأنها عناصر ينقصها الاستشهاد، الذى يمكن أن يقوم به القارىء المتابع بمراجعة ما أثبتنا فى كل تلك الحلقات.
والثانية (غدا) وبها تعقيبات عامة لم تكتمل أيضا.
الفرض الأساسى وتطوره:
إن ثمة عين داخلية (آلة “حس” داخلية لها علاقة بالحواس وما حولها)، هى نوع محوّر من الإدراك القديم، عبر تاريخ التطور، تستطيع أن ترصد الداخل بما هو، وهى التى تنشط فى النوم أثناء النشاط الحالم أساسا (نوم حركة العين السريعة REM”ريم”)، كما تنشط فى بداية الذهان خاصة، وفى أطواره النشطة، وليست بالضرورة الحادة، ونشاطها غير قاصر على الفصام بل هى تنشط فى معظم الذهانات النشطة، وهى ترصد الداخل “بما هو”، إلا أن صعوبة التعبير عن حركية الإدراك كما تمارسها هذه العين يخلق مشاكل حين يقتصر فهمنا للألفاظ على ما اعتدنا عليه.
وقد تبين لنا فى الحلقة الأخيرة أن هذه العين الداخلية[1] (الحاسة الداخلية) هى بعض نشاطات ما يسمى العقل الأحدث (بمعنى مستوى الوعى)، وذلك برغم أنها داخلية ، وأننا يمكن أن نتبين معالمها من خلال العودة إلى أنواع إدراك بدائية حتى قبل أن تتميز أدوات وأعضاء الحس، إلا أن النقلة من هذا الإدراك إلى القدرة على وصفه هكذا، يحتاج إلى نشاط العقل الأحدث القادر على الوصف والتعبير اللغوى الذى تميز به رشاد بدقة بالغة.
ملاحظات حول المناقشة
أولا:
لم نناقش فى كل الحلقات التى عرضناها هنا علاقة النوبتين السابقتين اللتين أصيب بهما رشاد ، وشفى منهما الواحدة تلو الأخرى (شفى بمعنى: اختفاء الأعراض والعودة للواقع وإلى العمل فى النوبة الأولى دون الثانية حين تركز معنى الشفاء على اختفاء الأعراض)، وبدا لى الآن أن هذا نقص ينبغى تداركه ذلك لأن علاقة هاتين النوبتين ببصيرته الحالية ونشاط العين الداخلية قد يكون ذا دلالة خاصة، لأن مثل هذه البصيرة بعد الخبرة قد نقابلها فى بعض الحالات فيما يسمى “البصيرة اللاحقة بعد الحدث” Hind-sight .
المآل الذي يخرج به المريض من نوبة ذهان سابقة يختلف من أقصى العمى، إلى الناحية الأخرى: أى احتمال شحذ البصيرة، سواء كان ذلك بمعنى البصيرة الوقائية، وهى التى تتفهم الخبرة المرضية من حيث غايتها ولغتها، فتحول دون تكرارها أم البصيرة المعقلنة التى تتقن رصد ما كان على مستوى معقلن مغترب، قد يكون جزءًا مما نسميه اندمالا معيقا للنمو Scaring، وتتوقف عند هذه المرحلة توقفا كاملا، أو تتدهور أحيانا.
فى حالة رشاد لم نتطرق إلى مناقشة ذلك وما إذا كان قد نظر فى طبيعة مرضه السابق وغايته ولغته بعد أن شفى من كل نوبة أم لا، ويبدو أنه لم يفعل، كما أنه لم يتطرق، تلقائيا إلى مثل ذلك، كذلك فإن المعالج لم يسأله عن بعض ذلك أصلا طوال المقابلات التى دامت لأكثر من شهر ونصف، وسواء كانت بصيرته الحالية هى نتيجة خبرته الذهانية السابقة، أم هى بصيرة منشطة ظهرت كجزء من الدفاعات التى حالت دون تفسخه، فإن هذه الدراسة الحالية تظل – بما ثبت منها فى كل الحلقات- بكل فروضها ومعطياتها صالحة أن تكون دراسة تركيبية تكشف عن طبيعة العملية الفصامية من الداخل بعيون صاحبها.
ثانيا:
تبين لنا – فرضا- أن هذا الرصد بعين رشاد الداخلية كان نتيجة لفرط نشاط العقل الأحدث القادر على استعمال لغة دقيقة شارحة لكثير من التفاصيل المرضية والإمراضية، وهنا يبدأ التأكيد على أن هذا الرصد يبدأ بنشاط ما يمكن أن نسميه الآن “الإدراك الحسى الداخلى”، الذى يلحقه عادة غموض على مستوى التفكير التفسيرى المفاهيمى (وهو ما حدث لرشاد معظم الوقت)، أو قد يلحقه تكوين أعراض صريحة، خاصة على مستوى الهلاوس المصنوعة، أو الصور الخيالية، وإلى درجة اقل على مستوى الهلاوس الحقيقية.
ثالثا:
إن هذه النقلة من الإدراك المباشر للواقع الداخلى، إلى العجز عن تفسيره (الغموض الذى اشتكى منه رشاد مرارا) إلى المسارعة بتحويره، فى صورة هلاوس مسقطة أو ضلالات مفسِّرة، هو مواز للنقلة التى أشرت إليها سابقا فى تشكيل الحلم المحكى مما تبقى من مفردات (معلومات من الصور أساسا) تحركت أثناء نشاط الحلم البيولوجى (إن صح التعبير)، “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع”
ايضا يتراوح تكوين الأعراض المفسِّرة (مثل الضلالات والهلاوس الثانوية – إن صح التعبير- وأيضا الصور التخيلية) لهذا التنشيط المبدئى بهذا للإدراك الداخلى
رابعا:
تتراوح الضلالات (الأفكار القريبة والخاطئة بالنسبة لحكمنا) بين تشكيلات أصيلة مفككة نسبيا (الضلالات غير المتسقه Non-systematized delusions)، وبين تشكيلات مفاهيمية منتظمة systematized delusions أقرب إلى التأليف الذى يصل أحيانا إلى ما أسميته “الإبداع المصنوع أو الزائف”[2]، الزيف هنا ليس مقصودا به الكذب أو البعد عن الحقيقة، وإنما البُـعد قليلا أو كثيرا عن مستوى الإدراك الداخلى المباشر
خامسا:
من خلال حالة رشاد لاحظنا أن ما نسميه “الواقع الداخلى”، هو واقع فعلا من حيث أنه كيانات ومعلومات وخبرات موجودة ومتحركة بنظام نوابىّ دورىّ (الإيقاع الحيوى) أو بطريقة عشوائية، لكن لا يمكن مواجهة واستقبال هذا الواقع بشكل مباشر إلا أثناء عملية الإبداع أو عملية لجنون
سادسا:
لم تتح لنا فى حالة رشاد أن نرصد ما نسميه إبداعا، اللهم إلا فى النظر إلى محاولات إعادة التشكيل “معا” لما تفكك من وحدات تمَّ رصدها كما تمَّ منعها من التمادى إلى التفسخ، لكن ما حدث بهذه الطريقة يسمح لنا أن نواصل افتراض أن هذا الاستقبال للعالم الداخلى هو إضافة معرفية بالمواجهة بصفة مبدئية، وهو ليس استقبالا واعيا بالبساطة التى قد توحى بها كلمة مواجهة وهو يتحور إلى إبداع تشكيلى، يتضمنه مع الواقع المتاح من الخارج، ليصنّع منه واقعا جديدا هو الناتج الإبداعى الذى نعتبر الشفاء بإعادة التشكيل (نقد النص البشرى) أحد أشكاله.
سابعاً:
فى حالة الجنون، فشل إعادة التشكيل، تختلف الأعراض الناتجة من أقصى التفعيل التجزيئى أى مثل أصوات فى الرأس، أو أصوات داخلية، أو مُراق الدماغ، إلى تغير إدراك الذات والخارج والداخل، إلى غير ذلك من هلاوس وضلالات تختلف درجة طزاجتها حسب ما بها من نسب الإدراك والخيال المختلفة، وأحيانا يستقبل المريض حركية المعلومات دون محتواها
ثامنا:
تم التعامل مع رشاد -مثلما ننصح أن يحدث مع معظم المرضى- على أن المسألة لم تعد أن ما يقوله هو “حقيقته” بمعنى خصوصية تخيله، وإنما هو الحقيقة الماثلة بداخله، أى الواقع الداخلى، الذى يشارك فى الاعتراف به المعالج بأكبر قدر من الصدق الممكنة، وهنا يظهر دور المعالج “كناقد للنص البشرى” حالة كونه مشاركا للمريض كناقد أصلى أيضا وتختلف نسب الأدوار مع التقدم فى العلاج.
تاسعاً:
حين تنشَّطَ المخ القديم –عند رشاد- ونتج عن ذلك انسحابه من الواقع الخارجى، وأيضا كان ذلك من أسباب تذبذب القرار لدرجة إشلال الإرادة الفاعلة من الناحية العملية، لم يقم بإزاحة المخ القديم فى حالة رشاد نشاط المخ الحديث تماما، بل إن الأخير (المخ الحديث) تنَشطَ فى نفس الوقت، غير منافِسٍ للنشاط المرضى، وإنما اكتفى بأن يزاح ليتفرغ لرصد هذا الفصم الجارى، ربما بين المخين، كما ذكر رشاد وهو يحكى عن كيف أن مخه انشق إلى نصفين، لكن يحكى عن ما جرى لكل الأمخاخ (الأدمغة.. تنظيمات الوعى …الخ)
عاشراً:
يتنحى المخ الحديث ويفشل فى أداء وظائفه العادية وخاصة وظيفة التجريد Abstraction، والتربيط، فتظهر أعراض التداخل، واللاترابط لكن فى حالة رشاد على عكس ما يحدث فى أغلب حالات الفصام، احتد نشاط المخ الحديث وقام بدور الرصد والوصف بدقة متناهية، مع تخليه (تخلى المخ الأحدث) عن القيام بنشاط يخدم الواقع الذى يترتب عليه القرار المناسب، وإنما توجه نشاطه إلى رصد الجارى، بمزيد من العقلنة فالإسقاط (تكوين الهلاوس والضلالات الثانوية) وحين التقى بالمعالج المصدِّق المواكب، بدأ نشاط هذا المخ الأحدث يقود من ناحية ويسهم فى تنفيذ خطة العلاج من ناحية أخرى.
حادى عشر:
يبدو أنه لكى تنشط العين الداخلية، لتقوم بدورها هكذا، لا بد من عمليات متداخلة معا تكمل بعضها بعضا، وقد أمكننا من حالة رشاد أن نفصِّل فروضا فرعية كما يلى:
1) يتم تنشيط عملية الإدراك خارج الحواس المعروفة extrasensory)) فى هذه الحالة هو تنشيط بدائى لمرحلة الادراك (قبل الحسى pre-sensory)
2) يتم فى نفس الوقت تنشيط المخ الأحدث بقدراته المعرفية واللغوية والإدراكية والتجريدية تعويضا ومواجهة
3) يرصد المخ القديم الواقع الداخلى (وأحيانا الخارجى) بطريقته الحدْسية اليقينية
4) تُتَرْجِمُ المستويات الأحدث (المخ الحديث) هذه الخبرة فى صورة إعلان ووصف مارصدته المستويات الأقدم إلى اللغة الأحدث، فتعجز حينا (مش عارف ، مش فاهم، مش قادر)، وتنجح أحيانا فى وصف العمليات العادية (اعتمال/فعلنة المعلومات) بما فى ذلك الصعوبة التى طرأت على العملية، سواء كانت التباطؤ أو الانشقاق أو عدم الهضم (والتمثل) أو التزاحم أو المُراق الرأسى Cephalic Hypochondriasis (آلام الرأس : الصداع الغامض غير المألوف وكل ما وصفه رشاد من امتلاء وشد، ومجرى، وتحويل ، وكسر أبدا وأخرام)
5) تساعد العمليات الإمراضية الأخرى بعيدا عن الاضطراب الجوهرى للفكر Formal Thought Disorder والتفسخ، أن تقوم بتحقيق غائية المرض (غائية الفصام) من حيث الانسحاب من الواقع، والتوقف عن النمو، وإعدام الآخر، وقد تتم تسويات جزئية وطرفية بين الأمخاخ المختلفة كما حدث فى حالة رشاد، وتكون نشاطات العين الداخلية مشاركة فى هذه التسويات التى تؤجل التفسخ ربما بصفة نهائية.
ثانى عشر:
تسهم هذه الوقفة فى محطة “الحَلْوَسَط”[3]أن تعطى فرصة لتأهيل نشط – من خلال العلاقة العلاجية – يمكن أن يستعيد به المريض مسيرة نموه وتكيفه، مع مراعاة تجنب إطالة الوقفة حتى لا تدعم برمجة الحلول الوسطى الساكنة.
ثالث عشر:
إن الاستعانة بعقاقير مضادة للذهان هو أمر مهم بشكل خاص، ويتبع فى ذلك وصف الأدوية حسب هيراركية دقيقة، تتغير مع تغير حركية العلاج مقاسة بمحكات نمائية شاملة، وواقعية يومية محددة، وليس فقط باختفاء الأعراض.
رابع عشر:
إن التفرقة بين استعمال العقل (الموضوعى)، والعقلنة (الدفاعية) أمر صعب، وهو لا يقاس إلا من خلال تقييم فاعلية المنطق الذى يبدو سليما فى دفع عملية النمو على أرض الواقع.
خامس عشر:
إن استعمال الحيل النفسية لإخفاء الأعراض هو جيد فى ذاته، شريطة أن يكون مرحلة قابلة للتحريك المناسب حين تحين الفرصة ، وتتوثق العلاقة العلاجية أكثر، ويتواصل التأهيل.
وغدًا:
نقدم ما هو تعقيبات ختامية.
[1] – تكرار: نحن نتكلم عن الحاسة الداخلية باختصار على أنها “العين الداخلية”، ولا نقصد بها العين بمعنى البصر ، وإنما نقصد كل ما يمت إلى الإحساس والإدراك بصلة (قبل التفكير والتجريد).
[2] – أنظر: جدلية الجنون والإبداع
[3]- سبق أن أشرت أننى نحتُّ هذه الكلمة “إضغاما” (مثل السرنمة= السير نائما somnambulism ، والجدلغة Neologism ) لكى أحقق بها موقفى من سلبية ما يسمى “حلا” وسطا، اللهم إلا كمرحلة، وإلا فهى وقفة قد تطولحتى النهاية. فكرة الوقفة، وهذه الكلمة الجديدة هى أقرب إلى الكلمة الواحدة بالإنجليزية Compromize التى لا تعنى بالضرورة Intermediate Solution