نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 3-2-2013
السنة السادسة
العدد: 1983
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (150)
الإدراك (111)
الإدراك والحلم والشعر والجنون ( 11 من ؟)
المقدمة:
كنت قد أنهيت الحلقة السابقة فى ملف الإدراك بوعد أن أشرح جدول المقارنة بين الحلم والجنون والإبداع، إلا أننى حين قدمت نفس الموضوع فى الندوة العلمية لجميعة الطب النفس التطورى يوم الجمعة 1/2/2013 انتبهت إلى أن زحمة الفروق داخل الجدول قد تعوق قليلا أو كثيرا محاولة التوضيح، ففصلت أن أعرض كل مرحلة (أو بُعد) فى جدول أصغر مستقل وتعمدت إيجاز الشرح بقدر الإمكان.
ملحوظة: ينبغى التنبيه ابتداء إلى أننا نستبعد تماما نوع الجنون الناتج عن خلل عضوى تشريحى والمسمى بالجنون العضوى مما سنعود إليه تفصيلا فيما بعد.
*****
“الحركية” المقصودة هنا هى غالبا هى “الدورية” التى هى إحدى طورى “الإيقاع الحيوى” الذى أعتبره الأساس فى كل حيوية بشرية (وكونية) وهى تكاد تتشابه فى العمليات الثلاثة: الحلم والجنون والإبداع، وهى ما اسميناه هنا “تنشيط داخلى” وأضيف فى الشرح الآن أن هذا التنشيط الداخلى هو “دورى”، أما لماذا لم أذكر أنه تنشيط دورى من البداية، فذلك تجنبا لأن أقحم فى الفرض قياسا لم يصلنى أو ألاحظه بالقدر الكافى، ففى حين أنه قد ثبتت دورية “دورات الحلم” فيما يسمى دورات النوم النقيضى أو نوم حركة العين السريعة (نوم الريم REM) عشرين دقيقة كل تسعين دقيقة، إلا أنه ليس كل الجنون دورى من حيث تنويعات ظهوره، مع أن العامة يعرفون عنه ذلك، والتاريخ يقرّ غلبة ذلك، ومن فرط ارتباطى بهذا القانون: “الإيقاعى الدورى”، اعتبرت أن الأصل فى الجنون أن يكون دوريا، وأن كل صوره غير الدورية هى مضاعفات نتيجة لقهر دوريته وكتمها، وترجيح المآل السلبى لجنون هامد مزمن مستقر بديل، ويحدث ذلك إما بفرط ودوام استعمال المهدئات الجسيمة (النيورولبتات)، وإما بالإهمال العلاجى حتى تتاح الفرصة لما يسمى “ضمور عدم الاستعمال Disuse atrophy”
أما دورية الإبداع، فبالرغم من وجود شواهد لبعض ذلك عند بعض المبدعين إلا أن التعميم فى حدود ما وصلنى غير جائز إلا بخيال علمى مغامر، لا أحبذه الآن.
*****
ابتداء من هنا سوف أكتفى بالنسبة للحلم بالإشارة إلى المعلومات المحدودة المتاحة عن دور النوم الحالم “نوم الريم” فى اعتمال المعلومات،
وبالنسبة للجنون فإن ما وصلنى من بدايات الذهان عامة، وبدايات بداياته (بداية البداية) كان مصدرى الأول بالإضافة إلى ما وصلنى أثناء بحثى فى رسالة الدكتوراه حيث كان البحث يشمل تحريكا لما يمكن أن يسمى “الذهان الكامن” بإعطاء عقاقير مهلوسة، ذات أثر محدود المدة طبعا.
أما الإبداع فقد كان مصدر ما ورد هنا من صفات هو من دراساتى النقدية، وخاصة شهادات المبدعين وخاصة فى أطروحتىْ “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” وأيضا “جدلية الجنون والإبداع“.
*****
الترتيب الذى يتم فى الحلم والمشهور باسم “إعادة التنميط re-patterning” ناقشنا بعضه فى دور الإدراك فى عملية “معالجة المعلومات”، ومهما قلنا فى ذلك فليس أمامنا إلا الاستنتاج من آثار الحلم المحدودة التى يمكن أن تشير إلى طبيعة ما اسميناه “الحلم بالقوة” (وظيفة نوم الريم REM بالذات) فتظل هذه الظاهرة افتراضية بحتة، حتى أننا حين نوقظ النائم عند ظهور علامات نوم الريم فى رسام المخ الكهربائى فإنه لا يحكى إلا آخر لقطة، وقد لاحظتُ أنها أيضا مؤلفة وليست هى التى يمكن أن تمثل كلية حركية الحلم بالقوة.
أما ما يسمى الجنون بالقوة فهو أمر افتراضى غريب لو سلمنا له، فإن معنى ذلك أن كلاًّ منا هو مشروع مجنون بلا استثناء، وبصراحة هذا افتراض جيد، لكن يظل الاسم محل التباس، إذ لا يمكن تمييز الجنون بالقوة من الحلم بالقوة إلا بعد أن يظهر أى منهما، وبالتالى لا يعود الاسم مناسبا، لأن علينا أن ننتظر ظهور أى منهما، فهذا الذى يسمى الجنون بالقوة ليس إلا الحلم بالقوة مع ترجيح المآل السلبى أى اهتزاز التشكيل بدلا من إعادة التشكيل، الأمر الذى لا يمكن التعرف عليه إلا فى المرحلة اللاحقة.
أما القصيدة بالقوة (والإبداع بالقوة عموما) فقد أمكن رصدها بقدر وافر فى شهادات المبدعين وهو ما أوردته وناقشته فى الدراستين السابقتين: “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” و“جدلية الجنون والإبداع“.
*****
فى هذه المرحلة يمكن أن يحكى الحلم فور الاستيقاظ جدا، بأقل قدر من التشكيل اللاحق، وهو إما أن يظهر جزئيا خاصة فى حالات الكابوس، وإما أن يبدو متناثرا متنقلا سريعا إذا استطاع الحاكى أن يلتزم بقدر من النقل بأقل قدر من التأليف.
أما الجنون فى هذه المرحلة فهو يتصف بصفات العمومية والربكة وتغير الذات Depersonalization وتغير المحيط Derealization (اضطرابات فى نوعية الإدراك) أو قد يصاحبه انقضاض ذهانى يترتب عليه أن يختفى كل ذلك بتفسير شاذ غير واقعى، وهو ما اسماه سيلفانو أريتى “البصيرة الذهانية Psychotic Insight ” وهى رؤية شديدة الخصوصية لا تنبع من الواقع لكنها تحل هذه الربكة المبدئية على مستوى ذهانى صرف وهى ما أشرنا إليه بقول “صواعق الداخل”.
أما بالنسبة لهذه المرحلة فى الإبداع فإن ولادة القصيدة (أو أى عمل إبداعى) قد تظهر فيها نفس الربكة والحيرة والتغيرات الإدراكية النوعية، إلا أنها تُوظف كلها فى اتجاه إعادة التشكيل فتصبح “الربكة” “دهشة”، و”الحيرة” “مراجعة”، و”التغيرات النوعية” “اكتشافات واعدة”، كل ذلك قد يظهر فى المسودات، وقد يلتحم بعضه فجأة أيضا فى هذه المرحلة، فيقفز إلى سطح الوعى حل جديد، يجمع كل هذا فى الوعد الجديد وهذا ما يسمى عادة “لحظات الإلهام”.
*****
فى الحلم تكون الأدوات أو الإبجدية هى “الصورة” أكثر من الكلام والحكى، حتى إذا حكى الحالم حوارا محددا فهو غالبا يكون قد انتقل إلى مرحلة التأليف، بعيدا ولو قليلا عن “الحلم بالقوة” أو الحلم الفج.
وفى الجنون تغلب الصورة فى الأنواع النشطة فى البدايات أو المستقرة، وفى الجنون التفسخى (الفصام النشط بالذات) تنفصل الكلمات عن الترابط فيتفكك المفهوم، وتفرغ الكلمات من معناها الأصلى، وقد تمارس ارتباطات عشوائية سواء بكلمات عشوائية أخرى أو مع مفاهيم طافية أو مع أية جزئية سلوك منفصلة.
أما فى الإبداع فإن تحرر الكلمة (فى الشعر خاصة) من موقعها القديم أو تفريغها من مضمونها السابق الثابت يعطيها فرصة المشاركة الحرة فى الصورة الحرة التى يمكن للشاعر أن يرسم بها تشكيله الجديد، وايضا يلحن بها إيقاعه الجديد.
*****
الآن: يمكن أن يُحكى الحلم: وكما قلنا فى المتون السابقة أن هذا الحكى هو – حسب فروضنا – نتاج التأليف البالغ السرعة قبيل اليقظة، وليس بالضرورة هو هو الذى حدث أثناء النشاط الحالم.
كذلك حين يظهر الجنون فى السلوك فى هذه المرحلة يتخذ جماعا ما بين التناثر ومحاولة الضم بميكانزمات ذهانية تعويضية حتى تخفى الذهان التفسخى الأصلى جزئيا أو كليا حتى يتغير نوعه الفرعى، ويكتسب كل نوع أو نوع فرعى اسما مستقلا حسب ظهور الأعراض النوعية الخاصة به.
أما فى الإبداع (الشعر خاصة) فتظهر القصيدة بكل مستوياتها من أعمق ما يسمى قصيدة النثر إلى أسطح ما يعرف بالأرجوزة (التعليمية خاصة) وقد تظهر القصيدة على مراحل من أول المسودة، حتى التنقيح حتى الإعادة والتحديث، وفى كل مرحلة تكون معرضة للابتعاد عن القصيدة بالقوة، فيصدق فيها مرة ثانية مقولة ت.س. إليوت: “لم يتعلم المرء إلا انتقاء خير الكلام للشئ الذى لم تعد ثمة ضرورة لقوله، وبالطريقة التى لم يعد ميالا لقوله بها”
*****
ليس هنا ما يضاف على ما جاء فى المتون السابقة إلا التأكيد على أن تفسير الأحلام التحليلى والتقليدى قد يبتعد بالحلم عن أصله فى معظم الأحيان لأنه يعتمد أساسا على نظرية المفسِّر ومنظوماته الفكرية بشكل أو بآخر.
مقابل ذلك يحدث فى الجنون حين يختفى التناثر كلية ليحل محله منظومة شبه مفهومية متماسكة أشد التماسك، لكنها لا تنبع من الواقع الخارجى ولا يمكن تعديلها ويصعب تفكيكها أكثر أحيانا مما يصعب تفكيك المفاهيم الثابتة قبل المرض، وهذا ما يحدث فى حالة البارانويا المزمنة بكل أشكالها،
وأيضا فإن التعامل السلبى مثل الرضا باختفاء الأعراض الإيجابية الخطرة لحساب المآل السلبى قد يحدث نتيجة فرط استعمال العقاقير المثبطة للنشاط البدائى طول الوقت طول العمر.
أما فى الإبداع فإن التشويه قد يأتى من المبدع نفسه (نادرا) من فرط التحديث والوصاية كما قد يأتى من تعسف النقاد أو وصاية ما يسمى “علم النقد” بعيدا عن استلهام النص إبداعا ناقدا لإعادة تشكيله نقدا.
*****
ما دمنا اعتبرنا أن أغلب محاولات التفسير هى قاصرة على الحلم المحكى الذى هو ليس الحلم الأصلى، وأنها معرضة غالبا لتحيزات المفسِّر وأيديولوجيته فضلا عن ما ذكرناه من دور الحاكى للحلم، وهو يبتعد عن الحلم الأصل، فإن الموقف الإيجابى من الحلم قد يكون هو موقف السماح لما تيسر للظهور من آثاره الظاهرة، باستقبال التغير الطفيف الناتج بترحيب نسبى حتى لو كان محتوى الأحلام غير متاح.
أما فى حالة الجنون فإن التعامل مع هذه الظاهرة باعتبارها طبيعية فى كل الناس (نتذكر صعوبة التفرقة بين الجنون بالقوة والحلم بالقوة) فإن فهم التركيب الذهانى ومحاولة الإنصات إلى لغته وترجمتها، ثم التفاط الجنون فى أوله لعل من الممكن تحويل مساره إلى إبداع، ثم محاولة تفكيك الدعم الضلالى والاستعداد للعودة إلى مفترق الطرق الذى يمكن أن يتيح لنا فرصة تحويل المسار إما إلى الإبداع أو حتى العودة إلى العادية، فكل هذا يترتب على تناول الجنون فى مقارنته بالحلم والإبداع.
أما فى حالة الإبداع فالنقد الخلاّق هو إبداع على إبداع تتواصل به حركية الإبداع بشكل مضطرد.
*****
وبعد
أشعر أن هذا الإيجاز الاضطرارى قد يزيد الأمر غموضا، لكن ما قصدنا إليه هو الإشارة إلى وجه الشبه من حيث المبدأ وهذا قد يتيح لنا تصور علاقة كل ذلك بالإدراك بما أن الإدراك هو العملية المعرفية الأكثر غموضا وخفاء، وقد يعيننا ذلك على فهمنا للجنون من منطلقات تبدو بعيدة عنه مثل الحلم، أو حتى نقيضا له مثل الإبداع، وهذا ما سيرد ذكره فى موقعه بمشيئة الله.