نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 7-1-2013
السنة السادسة
العدد: 1956
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (144)
الإدراك (105)
الإدراك: من الخبرة الإكلينيكية إلى العلم المعرفى العصبى
مقدمة:
جاء فى النشرة السابقة نشرة 5-1-2013 (الإدراك والحلم والإبداع (5 من ؟) فى هذا الملف ما يلى:
فى الندوة الشهرية التى تعقدها جمعية الطب النفسى التطورى فى دار المقطم للصحة النفسية قدمت موجزا عن علاقة الإدراك بالأحلام بالوجدان، وإذا بى أنتبه أن ما اطلعت عليه لإعداد هذه الندوة من تفاصيل عملية معالجة المعلومات، التى قدمناها من منظور إكلينيكى ونحن نقرأ حالة فصام ذات دراية فائقة (نشرة 13-5-2009: فصامى يعلمنا: “برامج الدماغ وزحام المعلومات؟”)، (نشرة 2-6-2009 “كيف” الفصام، “دون أن ينفصم”!! بعض معالم للمناقشة)، أجد فى تلك الأبحاث (1) احتراما شديدا لوحدات الزمن بالغة الصغر، وهو الأمر الذى شغلنى وأنا أتساءل عن مشروعية الفروض التى أقدمها، كما تعلمت مما أطلعت لتحضير هذه الندوة معلومات تفصيلية غاية فى الأهمية طمأنتنى إلى أن ما يصلنا فى الممارسة الإكلينيكية يمكن أن نجد له يوما ما يساعد فى تدعيمه مع تطور قدرات الرصد والقياس، وحتى إن لم ألحق هذه الآلات والمناهج فى حياتى، فأنا واثق من قدرة إنسان العصر على امتلاكها إذا انتصر على غول التكاثر وعمى التسلط، ذلك أن أملى فى المستقبل لا يرتبط بوجودى، بقدر ما يرتبط بفروضى، والله سبحانه وتعالى المستعان.
ففكرت أن أفرد نشرة أو اثنتين لما عثرت عليه فى حاسوبى، دون التدقيق فى الإشارة إلى مرجعه حيث أنه لم يكن فى متناولى الآن، والأرجح أنه مرجع أساسى Text Book إذ أورد هذه المعلومات باعتبار أنها أصبحت معلومات مستقرة علميا، وهذا هو ما يهمنى.
رجحت أن القارئ المتابع ربما سئم طرح الفروض تلو الفروض، وكأن شيئا لم يثبت منها أصلا، ومع أننى أوضحت منذ البداية أن المسألة ليست هى “تنظير الكرسى الوثير” Arm-Chair theorization وأننى لا أورد فرضا إلا من واقع الخبرة الإكلينيكية ، ثم معايشتى للظاهرة مواكبا أكثر منى ملاحظا أومتأملا، إلا أن افتقارى إلى منهج متفق عليه كان دائما يفسر لى هذه الاعتراضات الأمينة على ما أقدم من فروض.
المثال على هذا التسلسل فى تقديم الخبرة الإكلينيكة قبل النقل من النظريات والأبحاث يظهر فى هذا الملف عن الإدراك، حيث قدمنا حالة فصامى بالتفصيل عبر عدة نشرات فائقة (نشرة 13-5-2009: فصامى يعلمنا: “برامج الدماغ وزحام المعلومات؟”)، (نشرة 2-6-2009 “كيف” الفصام، “دون أن ينفصم”!! بعض معالم للمناقشة)، فوجدت من المكمل سواء بالنسبة للمنهج أو المحتوى أن أنقل بعض المعالم الأساسية التى عثرت عليها فى حاسوبى بنفس لغتها الأصلية (الإنجليزية) فى شكلها الشرائحى مع ترجمتى لها، ثم أضيف شرحا يربط بعض ما أوردنا عن الإدراك بما يتناسب معا، أو يضيف إليها.
سوف أقدم الشرائح كما عثرت عليها فى الحاسوب مجدولة ، ثم أعقب بما تيسر واحدة واحدة.
*****
التعقيب: نلاحظ أن:
- المسألة من البداية ليست تحفيظ الذاكرة رموزا بذاتها (ليتكلم بها الطفل بعد عام أو عامين مثلا)، وإنما هى تشكيل نمو الدماغ البازغ
- إن ما سمِّى هنا “لبنات النمو الوجدانى” قد وضع جنبا إلى جنب مع لبنات التفكير التجريدى، والقدرات المعرفية الاخرى، وبالتالى فيمكن أن نتخيل كيف يُعد الدماغ من البداية لاعتمال المعلومات على أكثر من مستوى، وفى نفس الوقت فلم يقل المتن الأصل أنها لبنات الوجدان، وإنما هى لبنات النمو الوجدانى (2)
- إن هذا العدد المخيف من العصبونات، مضروبا فى عدد المشتبكات، لابد أن يجعلنا نتراجع كثيرا ونحن نُستدرج إلى تحديد مواقع بذاتها لوظائف نفسية بذاتها، خاصة الوظائف المعرفية (الإدراكية بالذات) والوجدانية والإبداعية.
- إن التساؤل فى نهاية هذه الشريحة ليس مطروحا للإجابة، وإنما للتعجب وربما للحث على التأمل فى الخطأ الذى يمكن أن يترتب على تناولنا الوظائف المعرفية بالذات من خلال بعدها الرمزى الخطى التضمينى، والسؤال نفسه فتح السبيل إلى الانتباه إلى ما أسماه “جريان الطاقة والمعلومات” (أنظر بعد).
*****
التعقيب:
- لم أجد كلمة أنسب من كلمة “مُنَسِّق” فى هذا السياق مقابل كلمة Processor وإن كان قد خطر على بالى أن أختار كلمة “مُـفـَعـْلـِنْ” لكننى استثقلتها
- كلما استعملنا بالعربية كلمة “المعلومات” (ولم أجد لها بديلا) قفزت إلى أذهاننا أننا نتكلم عن معلومات إخبارية، أو دراسية، أو علمية ، أو اقتصادية ، أو أيّة معلومات فى صيغة خبرية (ليست إنشائية) تكمل (أو لا تكمل) بعضها بعضا، وبالتالى فهى مرموزة عادة، ولها مضامين متفق عليها، فى حين أن المقصود بكلمة معلومات فى هذا السياق الشارح لاعتمال المعلومات هو كل ما يصل إلى الدماغ عبر كل القنوات، فإذا ذكر المتن هنا أن هذا الذى يصل هو مـُحتـَوَى فى أنماط من التنشيط، فإنه من الصعب علينا أن نستوعب المراد بعيدا عن ما اعتدنا عليه، مع أنه بهذا الوصف هو أبعد تماما من كل ما ذكرنا.
- هذا التعبير representation بالذات يذكرنا بما هو منظومية شبكية التركيب المخى، وأيضا التمثيل العقلى، وإن كانت كلمة تمثيل باللغة العربية قد تتنوع مضامينها من أول التمثيل فى السينما حتى التمثيل الغذائى، وإلى أن نجد ما هو أدق، كل ما علينا هو أن ننتبه أننا هنا بهذا الاستعمال إنما نحاول التخلص من تصورنا السائد للمخ كمجموعة متراصة من العصبونات، أو تصورنا للعقل كجراج لعربات الذاكرة تخرج منه العربات حسب مواعيد أعمال أصحابها، التمثيل العقلى غير الاحتواء العقلى لمحتوى بذاته مهما حسُنَ تصفيف وحدات الذاكرة.
- معظم تفكيرنا السائد هو من النوع الخطى، المنطقى السليم، وهو متسلسل متتابع منتظم، لكن هذا ليس إلا أحد مسارات وأشكال العمليات المعرفية، فثم مسار آخر، وعملية أخرى تجرى موازية ومتكاملة على أكثر من مستوى، وفى جميع الأحوال إذا كنا طوال ملف الإدراك قد حاولنا التنبيه إلى ضرورة تجنب اختزال المعرفة إلى التفكير المرموز، والمنطق المتسلسل، وفضّلنا ترجيح كفة الإدراك فى موقع جوهرى للمعرفة، أو على الأقل لعمل توازن بين هذا وذاك، فإن هذه الجملة فى المتن تنبهنا إلى أن المعرفة (الإدراكية بالذات) بما تمثله عملية اعتمال المعلومات تجرى على هذا المستوى المتعدد المتوازى مع نفى أن المتوازيين لا يلتقيان.
*****
التعقيب:
كل كلمة فى هذه الشريحة تحتاج إلى معجم ومعاجم قد لا تفيدنا فى كثير مما نرجوـ لأنها تحتاج إلى الرجوع إلى الأبحاث الأصلية، والبحث عن احتمال تحديد المقصود من كل كلمة فيما يتعلق بالبحث الذى استعملت فيه بالذات، ووضع توضيح خاص بها، قبل تصور ما يترتب عليها.
إذا كان الأمر كذلك وأنا ليست عندى ما يوضح أيا من ذلك، فلماذا أوردتها أصلا؟
بصراحة أوردتها احتراما للمتن الذى عثرت عليه، الذى هو من مصدر ثابت علميا لأننى لا أستطيع مهما بلغت فروضى ومحاولات تنظيرى أن أرص كل هذه الكلمات هكذا بجوار بعضها بهذه الدقة والشجاعة. ثم إنى أمـِلت وأنا أوردها هكذا أن يصل إلى من يتهمنى بالغموض والغرابة أن المسألة التى نتناولها هى كذلك، وأن اللغة العادية، حتى العلمية منها، حتى لو استندت إلى أصول المعاجم، هى – فى الأغلب – أعجز من أن تكون بالوضوح الذى نريده، وأن المتلقى الذى يريد أن “يعرف” عليه أن يصبر وأن يبحث وأن يراجع، ثم يصبر وقد يؤجل ما لم يستطع عليه صبرا إلى أن يستطيع، وسوف يستطيع ، أو يقابل ربه راضيا أمينا لأنه حاول ما استطاع، ولم يرفض ما لم يستطع عليه صبرا، إلى أن يستطيع، أو يقضى الله أمرا كان مفعولا.
*****
التعقيب:
- إن وصول المعلومات باعتبارها طاقة تستلزم استجابة عصبونية هو أول علامات أننا نتعامل مع نوع من الحركية أكثر من أنها عملية رصد وتخزين فى مخزن للذاكرة
- وصول المعلومات هنا يعنى وصلوها إلى الحس وأيضا إلى الدماغ (حتى متجاوزة الحس حسب ما وصلنا إليه فى ملف الإدراك) وليس بالضرورة فى حالة وعى ظاهر يقظ.
- يلى ذلك التلقى عن طريق الإدراك ما أسماه المتن “ترشيح الإدراك”، ومهما كان جهلنا بطبيعة هذه العملية فإنها تصالحنا بشكل أو بآخر على طبيعة الإدراك وكيف يحتاج إلى ترشيح.
- ومن ثم يحتفظ المخ بما وصل إليه كطاقة حسية هى الأقرب إلى ما يسمى الذاكرة الحسية التى لا تطول أكثر من ربع ثانية، (ومن هنا أشعر بالطمأنينة وأنا أتحدث فى فروضى بلغة الربع ثانية ، فأقل سواء فى فروض تأليف الحلم أو بتتبع ما يصل للمريض بإدراكه أثناء العلاج الجمعى).
- إن استمرار عملية الترشيح (ترشيح الإدراك أيضا) تمتد إلى نصف دقيقة وتسمى الذاكرة الفاعلة أو الذاكرة قصيرة المدى. ثم تسمح الإعادة بتثبيت أرسخ لتصبح المعلومات أكثر رصانة، فأكثر رصانة حتى تتم عملية التمثيل فيما يسمىالذاكرة الطويلة المدى.
- ثم يعود بنا هذا المتن إلى دور الأحلام المعرفى، فيقر أن الترسيخ وإعادة التنميط يتمان أكثر أثناء النوم النقيضى (= نوم الريم ، REM) وهذا ما سبقت الإشارة إليه
*****
التعقيب:
- بعد أن ذكرنا أن عملية اعتمال المعلومات تسير فى مسارين متوازين متكاملين يعود يميز المتن هنا مرة أخرى النمط التسلسلى التتابعى الخطى (الأقرب إلى التفكير الرمزى) عن النمط الموازى له وهو الأقرب إلى الإدراك التشكيلى.
- ونتوقف عند تعبير المعنى “غير اللفظى للألفاظ”، فهل يوجد فعلاً معنى غير لفظى للألفاظ إلا إذا صدقنا معظم ما جاء عن الإدراك فى هذا الملف الذى حاولنا فيه أن نؤكد أهمية تجاوز التجزئ، والرموز المحددة المعالم.
- ثم إشارة إلى التمييز بين المخ الأيمن والمخ الأيسر تميزا تقليديا معروفا، إلا أن إشارته إلى أن الأيمن أقدر تعبيرا عن الوجدان يجعلنا نشير إلى الفرض الذى يؤكد دور الوجدان فى المعرفة والمعرفة فى اعتمال المعلومات بالذات باعتباره دورا موازيا أقرب إلى دور الإدراك إن لم يلتحم معه أحيانا.
*****
وبعـد
أرجو أن تكون هذه المقاطعة قد طمأنت مَنْ متابعنا بأن أولاد عمومتنا المتقدمين عنا بما يملكون من المال والوقت والأدوات لم يقصروا فى السير فى الطريق الصحيح للإبداع والتحقيق والمعرفة، مهما غلبت قيم الاغتراب والاختزال والميكنة على بنوكهم وحكامهم لخدمة التكاثر والغطرسة والسيطرة.
وما دمنا لا نمتلك ما يملكون من ادوات وإمكانيات، فلا ينبغى أن نحرم أنفسنا من استلهام خبراتنا المهنية والذاتية الحاضرة والمتجددة والموحية، آملين أن نتكامل يوما مع المجاهدين الطيبين منهم لصالح مسيرة البشر.
[1] – التابع أغلبها للعلم المعرفى العصبى Cognitive Neuroscience
[2] – (مع تذكر تحفظنا على استعمال كلمة emotion مقابلة لكمة وجدان، إلى أن ننجح فى إدخال كلمة wijdan إلى الإنجليزية)