نبذة: باب الابداع مفتوح على مصراعيه، إذ تعريف الابداع والمقال يأمل أن يشارك كل الناس دون استثناء فى محاولة تخليق قيم جديد، ربما فى ذلك ديمقراطية جديدة، بدلا من التسليم الساكن للزائف والفاسد من القيم لمجرد عدم وجود بديل.
الأهرام: 28-7-2003
الأرقام والإبداع والثانوية العامة
بدأت قصة اختبارات الذكاء نتيجة لمشكلة اجتماعية تربوية: حول سنة 1905، أراد حاكم (عمدة) باريس أن يجمع المشردين من الأطفال (الذين نسميهم الآن أطفال الشوراع) لإيوائهم وتأهيلهم، وربما تجميل العاصمة! فاكتشف أنه لا يمكن تطبيق برنامج تأهيلى واحد عليهم، لاختلاف قدراتهم،، فطلب من العالمين “سيمون”، و”بينيه” أن يحلوا المشكلة، فكانت النسخة الأولى من مقياس “سيمون- بينيه” الذى شاع بعد المراجعات المتكررة باسم ” ستانفورد – بينيه”
كانت نتائج هذا الاختبار – ومازالت – تحسب بالنسب المئوية (نسبة العمر العقلى إلى العمر الزمني) الأمر الذى ظل عائقا يحول دون موضوعية فهم هذه النسب. إذ كيف يعد من يحصل على معامل ذكاء قدره 78 % (مثلا) متخلفا (نسبيا) ؟ من هنا اتجه الرأى إلى أن الأهم هو تحديد موقع (ترتيب) أى فرد بين عينة ممثـلة لمجتمعه، الأمر الذى يسمى التقييم “المئينى” Percentile وليس “المئوي” (% Percent).
حضرنى ذلك وأنا أتابع نتائج الثانوية العامة، وأن هناك 124 طالبا حصلواعلى أكثر من 100% علمى ..إلخ. أنا ليس عندى أى تحفظ على حصول طالب نابه على 200 %، لكن اهتزاز موضوعية معنى الأرقام، (سواء فى الثانوية العامة أو فى بيانات الاقتصاد الحكومية، أو نتائج الانتخابات) يستتبع غموض معنى التفوق (وأيضا غموض معاني: تحسن الاقتصاد، وفوز حزب الأغلبية جدا). ثم إن فكرة تنمية الإبداع من خلال مناهج التعليم، وهى الفكرة التى يصر المسئولون والهواة جميعا:على أنها الحل، هى أبعد ما تكون عن دلالة هذه النتائج.
لقد دخلت شخصيا كلية الطب سنة 1950 بمجموع 71% فى التوجيهية وكان ترتيبى 199على القطر، إن ذلك لا يرجع فقط إلى قلة العدد آنذاك، ولكنه يرجع أساسا إلى أن الامتحانات كانت امتحانات لا تصحح “بالشفافة” كما يحدث الآن، بمعنى مدى مطابقتها لنماذج الإجابة حرفيا، الأمر الذى روج للدروس الخصوصية، بشكل خاص، ولولا هذه الطريقة فى التصحيح “بالمطابقة”. ما حصل أحد على النهاية العظمى ولا قريبا منها. ثم إن مجرد فكرة أن يكون لأى مادة نهاية عظمى هى فكرة قديمة حلت محلها الحسابات النسبية من واقع إجابات المتقدمين لأى امتحان فى ذاته.
مع الحرص على عدم حرمان أحد من فرحة تفوقه، فإننى أتصور أن تتبع هؤلاء المتفوقين (جدا جدا) بعد سنوات، قد يخبرنا أن أيا منهم لم يحقق أى إبداع بالمعنى الحقيقى . الإبداع – من حيث المبدأ – يرفض النهايات المطلقة، إن النقص اللازم فى الحياة، وحتمية قصور أى إنجاز عن الكمال، هو الحافز الدائم للإبداع. إن نجيب محفوظ شخصيا لا يستطيع (ولا يرحب بـ) أن يحصل على 100% فى إبداع الرواية حتى لا يتوقف إبداعه، إن استمراره فى المحاولة والتجريب، حتى “أحلام فترة النقاهة”، بعد الإعاقة اللاحقة لنوبل، إنما يرجع لأنه يصر على أن يواصل محاولة الإقتراب من المائة فى المائة دون أن يحققها. إن المطلق التمام هو لله وحده، وكل ما دونه هو إبداع متوجه إليه .
إننى لا أعفى تدهور الأخلاق (وخاصة شيوع الغش)، ومشاركة الإعلام الإنفعالية السطحية من مسئولية كل هذا اللبس والتخبط (لا شكوى من امتحان مادة كذا؟ و إن الامتحانات جاءت من المقرر جدا، يا فرحتى!!).