نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء : 30-3-2016
السنة التاسعة
العدد: 3128
“الأربعاء الحر” يمارس حقوقه
مقدمة: واعتذار
هذا مقال مهجور، عثرت عليه مصادفة، ولا أعرف متى كتبته، ولا أذكر إن كان قد نُشر أم لا، فانقضّ عليه الأربعاء الحر، واحتل نشرة اليوم بديلا عن مواصلة كتاب “الأساس فى الطب النفسى”:
(اليوم فقط : أرجو ذلك)
هل كنتُ، وما زلتُ، أحلم بعيدا عن الواقع؟
لكن للحلم ضرورة عملية حين تدلهم الأمور،
وهو المستعان عَلَى مَا يصِفُونَ
مقال لكل العصور:
في البحث عن مخرج
انتقلنا من انتفاضة الغضب، إلى الثورة المحتملة، ومن تحطيم الأصنام، إلى احتمال كسر الخوف، ثم توقفنا عند تكرار النص، والانغلاق المعاد، واهتزاز المرحلة الانتقالية، والتسكين بالرشاوى، والتأجيل بالوعود الخاوية. ومازالت الدولة لم تتكون حضورا ماثلا مضطردا، والناس لم تعمل، والإفاقة لم تكتمل، والخطر يقترب أكثر ، لكن الأمل لم يمت، ولن يموت.
كل ذلك لا يطمْئِنُ أننا نسير إلى ما نستأهل أن نكونه من خلال الانتقال إلى تشكيل ثورة حضارية مثل التى أتت بها الأديان قبل أن تتشوه، ومثل كل الحضارات التى ترعرعت بحمل أمانة الحفاظ على زخم التطور كما أراده خالقه، الأمر الذى لا يتحقق إلا أن يحمل كلٌّ منا أمانة أن يقوم بدوره بشرا – فرض عين – فى إرساء قواعد تلك الثورة الحضارية الأخرى بترسيخ رص لبناتها لإقامة صرح يليق بمن يسمى إنسانا ، لنستغنى – مع الشكر- عن أصنامنا الراسخة فى الواقع والفكر جميعا !!
ربما آن الأوان للحديث عن الحضارة البديلة وقد ظهرت علامات شيخوخة الحضارة الحالية الغالبة، حضارة بديلة يمكن أن يعـِدُ بها الشرق الإيمانى، أو ثقافة التوحيد، أو الإسلام الحقيقى، أو أى دين لم يتشوه؟ الناس عبر العالم فى حاجة إلى ملايين الأنبياء بعد أن ختم نبينا عليه الصلاة والسلام بوحى من الله النبوات الملهَمة من رب العالمين، وهو ما وصل إليه فيلسوف الإسلام محمد إقبال من أنه كان قد آن الأوان، وما زال، أن يحمل الإنسان فردا فردا، وجماعة جماعة، وأمة أمة، مسئولية تجديد إبداع حياة البشر، بدءا بنفسه ووطنه وناسه، ممتدا إلى كل الناس، كتبتُ فى كتابى حكمة المجانين: “لسنا فى حاجة إلى دين جديد، بل إلى ملايين الأنبياء”، ( بلا نبوة جديدة).
لست متأكدا إن كان هذا وقته، أم علىّ أن أنتظر حتى تتبين المعالم أكثر ، معالم الجديد لم تتحدد، مع أن معالم سقوط القديم تزداد وضوحا وإنذارا، ، الأرجح عندى أن يبدأ كل شىء فى نفس الوقت وإلا ضاعت الفرصة أمام زحف السلبيات والمضاعفات والأخطاء والنكسات:
ها نحن على أبواب مواجهة إرهاب وترهيب من نوع آخر، قد يكون أقسى وأرعب، مدعما بتفسير اختزالى لنصوصٍ المفروض أنها واعدة مـُلهمة، أو مُعَنـْوَنا بنصوص مزيفة براقة مستوردة، هذا التهديد القائم والمحتمل من كلا الطرفين قد دفع كثيرا من الناس أن يفكروا فى طريقة للهروب من المرّ الأمرّ مما كانوا يحسبون، إلى مرٍّ بدا لهم أقل مرارة، ربما لتعودهم عليه تبعا لمبدأ “اللى تعرفه أحسن من اللى ما تعرفوش”، الاختيار بين البدائل لتولّى أى مسئولية قيادية تَحوَّل من البحث عن “من يستطيع أن يحمل أمانة المرحلة فالمستقبل” إلى البحث عن “من ينقذنا ممن هو أسوأ منه”، يبدو أننا نختار “الضد” قبل أن نختار القادر إيجابا، نختار “عكس ما لا نريد، وكأننا نريده، لأن هذا هو البديل المطروح من خلال الاستقطاب الحادث، نختار “الضد” لمن ضقنا به واكتشفنا سوءه، أكثر مما نختار “من نفضِّله”، هذا ما يفسر لى كيف أن كثيرا من الناس يـَقبلون حاليا مسئولا بعينه،ونظاما بذاته، ليس حبا فيه أو استرجاعا لأمجاد إنجازاته الحقيقية أو المزعومة، وإنما هم يلجأون إلى عكس ما يرفضون فى الوجه السلبى لمسار الأحوال، هذه الفئة التى فازت فى انتخابات مجلس الشعب –مثلا- كان أهم ما يميزها لدى الناس أنها لاحت فى الأفق وهى تمثل عكس الذى كنا نشكو منه، فاختارها الناس باعتبار أنها “الضد: لما كرهوه، وأكرهـُوا عليه، وانتظروا منها ، كما انتظروا من أى إجراء انتقالى، حلا جاهزا هابطا من أعلى، وقد حسِبنا أننا بذلك قد اخترنا من يحمل عصا سحرية يحل لنا مشاكلنا بقرار أو قانون يكتب على الورق، أو يعلن مشروعا فى خطبة، دون أى ضمان لدعمه واقعا نافذا فى مدة معينة على أرض الواقع، وبما أن أحدا لا يحمل تلك العصا السحرية مهما خلُصت النوايا، أصابنا الإحباط بسرعة دلت على أننا اخترنا الحلم وليس برنامجا سياسيا قابلا للاختبار، وساعد فى زيادة مرارة الإحباط التخبط البادى لأداء هذه المجموعة التى اختارها الشعب مهما اجتهدت، فراح الناس يتكلمون عن أنها تعرّت، وانكشفت، وخابت ، وهى بعدُ فى مرحلة الـ “كـي – جي- ونْ” ، وضجَّ الناس مما حدث، وتوقعوا ما هو أسوأ، وعادت آلية السعى إلى الضد، مجرد الضد، وليس السعى إلى البديل الأقدر، بمعنى أن كثيرا من الناس راحوا يفكرون من جديد فى من هو النقيض ، وعدنا إلى آلية اختيار من هو”ضد ما نكره”، وليس أن نختار من نثق أنه سيقود السفينة إلى بر الأمان والاستقلال والإبداع كدحا إلى وجه الله.
ناسنا الطيبون اختاروا الذى لاح لهم أملا واعدا، وبديلا مناسبا دون التأكد من أن من اختاروهم يمثلون ما هو فى وعيهم أم لا، وكانت النتيجة هى ما قالها الواقع، فلزم الامتحان، فإن لم يثبت من واقع الأداء، وليس مجرد التلويح بحل المشاكل والتسكين والوعود، إن لم يثبت أن من جلسوا على الكراسى قد حملوا أمانة مصائر هذا الشعب العظيم ، (فكل الناس) وأنهم قادرون، ويسعون من خلال الواقع اليومى، أن يقدموا قيـَمـهُُ وثقافته، كحل بديل فعلا لما آل إليه أمر الإنسان المعاصر ، ليس فقط فى الموقع الأقرب، وإنما عبر العالم، من واقع ممارسة مختلفة، وقيم مختلفة، ومسئولية مختلفة، وإيمان مختلف، وثقافة مختلفة، فكل الحلول الشكلية لن تعدو أن تكون تبديل لافتة بأخرى ربما إلى أسوأ والعياذ بالله، لا بد من تقديم حلول عملية أخرى قادرة على إصلاح ما أفسده المال والتكاثر والغطرسة والاغتراب عبر العالم ، نعم عبر العالم، بدءا بنا طبعا، نعم: إن لم يحملوا هذه المسئولية المتجددة فسوف يتحدد عمرهم الافتراضى بعاملين ، الأول: غباء أخطائهم المتزايدة، والثانى: نمو وعى الناس مهما طال الأجل، العالم كله يحتاج إلى من يستلهم من وحى الله ما يصلح به خلق الله جميعا، مسلمين وغير مسلمين، العالم كله: أعنى كل الناس فى حاجة إلى أن يرجع إلى: “ربى كما خلفتنى”، إن القرآن الكريم جاء يخاطب الناس أولا، وليس أخيرا، والمسلمون ضمن هؤلاء الناس.
إذا كان الأوان قد آن لنتكلم عن، ونسوِّق ما تيسر من: وعى عام يقوم بتشكيل البشر كما يلهمنا الإسلام الحقيقى (وأى دين لم يتشوه) فإن على كل مؤمن (فرض عين) أن يبدأ فورا ليحقق ذلك من خلال تفعيل القيم التى يمكن أن يتميز بها ما خلقه الله به، وماخلقه الله له، يوما بيوم (بل بينى وبينكم : ثانية بثانية، وذرة بذرة)، فلا يكون النسخة “المضروبة” لثقافة مستوردة، من الماضى، أو من الخارج، سواء حملت أسماء تراثية أو أسماء عوْلمية، أو أسماء حقوقانسانية ، وهو الحادث عبر العالم.
ان أى بديل حضارى انما يقدم نفسه من خلال ما يقدمه من ممارسة الموقف الكيانى العام من الحياة: ماذا يعنى ما هو انسان، من حيث ماهيته ومساره ومصيره، فإذا نجح هذا البديل أن يقدم معنى يختلف به عن غيره ويتقدمه، ليصحح ما لحق بالإنسان من اغتراب نتيجة للتكاثر والغطرسة فهو الحل، الذى لا بد أن يظهر عيانا بيانا فى الآثار العملية لما يمكن أن يتحقق فيتجلى واقعا حيا من أول السلوك اليومى حتى نوعية الإبداع ، يبدأ من كل مكان، ليمتد إلى كل إنسان، إبداعا إلى وجه ربنا ذى الجلال والإكرام
لا يجوز إطلاقا أن نكتفى بأن نضيف إلى نموذجهم نشاطا خاصا بالجانب العاطفى القلبى المتدين، مع وقوفنا طول الوقت منفـِّذين مقلدين لا مبدعين، نسوِّق بضاعة ليست من إنتاجنا تحت لافتات لا تُخفى حقيقة مصدر استيرادها، مع أنها بضاعة مضروبة بطبيعتها. إننا إذا اكتفينا بتغيير اللافتة لتحمل ألفاظا أخرى مهما كانت ألمع بريقا، مع بقاء النظم، والمواقف، والبرامج، والمرجعية، وطرق التفكير: هى هى، فإننا نخدع أنفسنا، ونؤكد تبعيتنا بأقبح الخدع التى لا تفرز إلا أسوأ النتائج.
لا مفر من البحث عن موقف آخر، وتوجِّه آخر، يترتب عليه نوع آخر من الحياة، لنبحث فيه، ولنعمقه، ولنضع المحكات التى نقيسه بها، ثم نمارسه، ونختبره، وقد نسوّقه لهم إن أرادوا، حين نستقل بحق، وننجح بتحدّ خليق بأن يحسدوننا عليه وهم يتبينون الفرق الذى تبينه جارودى فى الجنود المسلمين الذين رفضوا تنفيذ أوامر قيادتهم بإعدامه، كما وجده عند ابن عربى ، وداخل نفسه، وفى آخرين من كل لون ودين!!.
حين نستقل اقتصاديا، ونطمئن أمْنا، وننجح إبداعا، ونحمل همَّهم برغم ما أصابنا منهم، فسوف تتجلى الحضارة الجديدة باعتبارها حلا حقيقيا، ليس فقط لنا، لكن أيضا، وتماما: لهم، فهم أحوج ما يكونون إلى نموذج ينقذهم من ورطتهم، لعلهم يكفون عن توريطنا فى خيبتهم. صدقونى: فإن الشرفاء منهم يتمنون لنا ألا نتبعهم، وأن نواصل محاولاتنا من منطلقنا فى البحث عن بديل يعلن كيف أننا يمكن أن “نكون”، فـ “يكونون”: “ربى كما خلقتنى”،
هل هذا وقته؟ أم أن الأوْلى أن أذكر مخاوفى ونقدي ، وصراخى طول الوقت لمن لا يسمع، ومن لا يرى، لكنه يصرِّح وينفذ “ماشاء لا ماشاءتِ الأقدارُ، فهو هو الواحد القهَّار “، وهو يستلهم وحيه وآيات دستوره من البيت الأبيض أو البرلمان البمبى، أو الصرح الأحمر، أو المصنع الأصفر؟