نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 29-4-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4624
الأربعاء الحر
مقتطف من كتاب:
دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى (1)
الفصل الثالث: الإدراك (5)
أنتهت النشرة السابقة بما يلى:
……وحين تكلمنا عن العوامل التى تؤثر فى تكوين الشكل فى عملية الإدراك كنا نتكلم عما أسمته هذه المدرسة عوامل التنظيم Factors of Organization، بل أن هذه المدرسة ذاتها كانت الموحية بطريقة فى العلاج النفسى اسمها علاج الجشتالت Gestalt Therapy.
ونكمل اليوم:
الطالب: العلاج النفسى؟ أى التحليل النفسى؟
المعلم: ألم اقل لك إن التحليل النفسى أصبح المرادف السهل لكل ما هو نفسى، فهل تصدق أن هذا العلاج الجشتالى يكاد يكون عكس التحليل النفسى التقليدى تقريباً، ومع ذلك فالاثنان علاج نفسى.
الطالب: العلاج النفسى عكس بعضه!! ماهذا؟ فكيف أن كلا منهما يعالج نفس المرض، ونفسى المرضى؟ كيف؟
المعلم: لا عندك، هناك أنواع كثيرة من العلاج النفسى وبعضها قد يكمل بعضها رغم ظاهرها العكسى، كما أن اختلاف أنواع المرضى فضلا عن الاختلافات الفردية تجعل الانتقاء لكل نوع من أنواع العلاج شديد الدقة والأهمية لكل حالة على حدة.
الطالب: شوقتنى يا عمنا إلى الحديث عن العلاج والأمراض، كم أتمنى أن تنتهى هاتيتن السنتين بسرعة لأفض سيرة التشريح والكيمياء وهذا الذى تقول، ولا أتحدث إلا عن الزائدة الدودية والتهاب اللوزتين …؟
المعلم: كل آت قريب، وكلى أمل أن نتحدث عن الجنون واضطرابات النفس مثل الأمراض الأخرى، وخاصة وأنها ربما تمثل ثلث، أو نصف، ما سترى من أمراض ومرضى.
الطالب: غير معقول!!
المعلم: هكذا تقول الإحصائيات.
الطالب: فحدثنى احتياطيا عن اضطرابات الإدراك.
المعلم: لقد تحدثنا عن الخداع الحسى Illusion (ص 104)، وأسميناه “الوهل” وهو من اضطرابات الإدراك رغم حدوثه أحيانا فى حالة السواء.
الطالب: أهذه هى كل اضطرابات الإدراك.
المعلم: أرجوك لا تستدرجنى إلى الطب النفسى فكل شىء له أوانه، وعموما فهناك ظاهرة قد تهمك، وهى ظاهرة الرؤية السابقة Déjà vu وهى حين يرى الإنسان منظرا أو شخصا لم يره من قبل ولكنه يخيل إليه – أو يعتقد – أنه سبق له رؤيته، وهذه الظاهرة قد تهمك بوجه خاص لآن لها تفسيرا فسيولوجيا طريفا: وهو أن أحد نصفى المخ يصله المؤثر قبل النصف الآخر بجزء من جزء من الثانية بحيث إذا وصل المؤثر متأخرا “وجد خبرا” بوجوده وكأنه قد سبق رؤيته!!!
الطالب: ولكنا فى حديثنا عن الإدراك عرجنا على الانتباه كنوع خاص منه.
المعلم: بالضبط.
الطالب: أليس للانتباه علاقة بالتركيز، وأنا وكثير من زملائى يشكون من ضعف القدرة على التركيز، فهل عندك تفسير لهذا، أو حل بالمرة.
المعلم: كثيرا ما كنت أسمع هذه الشكوى وأنا أعطى هذه المحاضرات، شكوى الطلاب من “عدم القدرة على التركيز” وهى شكوى تتعلق بالانتباه فعلا، والواقع أن الانتباه نوع من تركيز الإدراك على أمر بذاته، والعجز عن هذا يرجع لا إلى عدم القدرة عادة ولكنه يرجع إلى تشتت التركيز فى نفس الوقت إلى مواضيع أخرى.
الطالب: وكيف أتغلب على ذلك؟ هلاَّ حدثتنى عن العوامل التى تؤثر على الانتباه لعلى أجد مخرجا.
المعلم:لا أريد أن أطيل عليك فى دراسة الانتباه بالذات ولكنى سأذكرك بعدة أمور.
أولا: إن المعلنين – والعياذ بالله – قد استفادوا من دراسة العوامل التى تجذب الانتباه بشكل واضح تسمعه وتراه كل يوم فى إذاعة الشرق الأوسط ومونت كارلو والتليفزيون (2)…الخ، وهم يعتمدون على المفاجأة والمبالغة والتهويل والإعادة والتكرار والغرابة والإثارة والإغراء… الخ.
الطالب: مالى أنا وللمعلنين أنا أريد أن أواصل التركيز فى الاستذكار.
المعلم: طيب طيب تبدأ بأن تتعلم كيف تحاول أن تتجنب تحول الانتباه إلى مواضيع أخرى.
الطالب: كيف يا سيدى؟
المعلم: قد يحدث التحول تلقائيا، أو نتيجة للرتابة والضجر من الموضوع الأصلى، أو الرغبة فى استكشاف غيره، أو كنوع من الاستجابة للإرهاق والتعب، أو حتى استكفاءْ وشبعا من المادة التى أنت بصدد الانتباه لها أو التركيز فيها، فإذا ما عرفت ذلك استطعت أن تحول دون تدخل هذه العوامل فى تركيزك أولا بأول.
الطالب: هكذا؟؟ وكأن بيدى زرا أضغط عليه فأحوّل التركيز والانتباه لما أريد!
المعلم: ماذا افعل لك يا أخى؟ إذا كنت تسأل بسطحية فأجيبك كما تريد خوفا من انصرافك عنى.
الطالب: بل أنا الذى أخشى عجزى عن مواصلة الانتباه إليك بهذه الصورة.
المعلم: على ذكر مواصلة أو استمرار الانتباه فإن تشتت الانتباه Distraction of Attention هو الظاهرة العكسية للتركيز، وزيادة الواحد منهما يعنى نقص الآخر، فاعلم أن استمرار الانتباه يتم نتيجة لإثارة الاهتمام الأصيل بالموضوع، ومحاولة الاستقرار على توجه واحد، وفعل واحد نحو هدف واحد فى وقت بذاته، فإياك وكثرة الجداول والجدولة، وفتح عدة كتب فى عدة علوم أمامك فى نفس الوقت، أو أن تذهب لتذاكر التشريح فتقفز فى ذهنك أسئلة حول الفسيولوجيا …، كما عليك بإهمال العامل المـُـشـَـتـِّـتْ إما بالتعود عليه وهذا ما يسمى التكيف السلبى Negative Adaptation (مثل الساكن بجوار محطة المترو فيتعود ألا يشتت انتباهه صوت المترو كل دقائق معدودة) وإما بإزالته والابتعاد عنه، مع بذل جهد واضح حول الموضوع الأصلى.
الطالب: هل تتصور أنى لا أعرف كل ما قلت، ماذا هناك من جديد؟
المعلم: لعل الجديد هو انه أصبح يسمى علما يا أخى، فعليك أن تحترمه أكثر، وربما استفدت منه أكثر.
الطالب: ولكن ألا يوجد انتباه دون قصد؟
المعلم: نحن ماصدقنا انتهينا بإيجاز من المعلومات الأساسية، وها أنت تفتح لنا أبوابا جديدة بلا تمهل، يوجد يا سيدى، ففى الانتباه دوائر متداخلة، أشدها ارتباطا بالقصد والإرادة هى بؤرة الانتباه Focus of Attention، وأبعدها عن الانتباه المباشر هى دائرة اللاشعور Unconsciousness، وبينهما درجات قد تسمى الانتباه السلبى Passive Attention وهو الأكثر قربا ناحية ما يسمى اللاشعور، وكل هذا له علاقة بوظائف الوعى والنوم، وسوف نتناولها فيما بعد.
الطالب: لقد علمت كثيرا عن الإدراك والانتباه، ولكن ثارت عندى أسئلة أكثر وأنت تبدو عليك العجلة والرغبة فى الإيجاز.
المعلم: حجم العمل وهدفه يفرض علينا ذلك، ولكنى احتراما لذكائك سأسمح بسؤال أخير واحد.
الطالب: تذكرت لتوى الطفل حديث الولادة، وتعجبت كيف ينتبه وكيف يدرك، وهو يولد ومخه فارغ من كل شئ، فهو ينزل إلى هذه الدنيا وليس عنده أدنى فكرة عنها -أليس كذلك-؟
المعلم:الله الله!!! سمحت بسؤال أخير واحد، فإذا بك تسأل سؤالا يحتاج لإجابته إلى كتاب بأكمله، لأنه يتعلق بمشكلة الوراثة وماذا نرث على وجه التحديد، هل نرث استعدادات فحسب، أم نرث ذخيزة معلومات أجيال سابقة؟ وهل الخبرات المكتسبة والمعلومات المخزونة تورث، وبأى صورة؟ وإلى أى مدى؟ وقد اختلف العلماء فى ذلك، ومازالوا يختلفون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وسوف نعود إلى احتمال وراثة الخبرات والعادات المكتسبة عندما نأتى لموضوع التعلم، المهم دعنا نقفل هذا الباب الخطير، وأعدك بالحديث عن ما سألت متى سنحت الفرصة.
الطالب: طيب،؟ أنا أريد أن أعرف الآن هل يولد الطفل ومخزون عقله فيه معلومات جاهزة تعينه على التعرف على العالم، أم لا؟
المعلم: الأرجح عندى من خبرتى الشخصية والكلينيكية وقراءاتى ان الطفل يولد وعنده كم هائل من مخزون معلومات ولكنها ليست مميزة ولا مفصلة ولا محددة ولا مسماه، وقد حاولت فى أعمال أكبر أن أسميها باسم القـَـبـْـمـُـدْرك Preconcept (أى قبل المدرك .. أى قبل الإدراك)، وكنت أعتقد أنها قريبة جدا من شئ مماثل وصفه عالم أحبه وأحترمه اسمه أريتى (3)، وكل ما أريدك أن تعرفه فى هذه المرحلة مما يمكن أن نختم به حديثنا عن الإدراك هو هذه الاحتمالات المرجحة:
1- يولد الطفل وعنده ذخيزة هائلة من معلومات متداخلة وغير مميزة.
2- مصدر كتلة (أو كتل) هذه المعلومات الغامضة هو الوراثة التى تشمل احتمال انتقال خبرات جيل بل أجيال سابقة.
3- تعتبر الوراثة ذاكرة جينية Genetic Memory وهى ذاكرة الأجيال Generation Memory (ولك أن تنزعج من تضاعف مسئوليتنا نحو الأجيال القادمة إذا صح هذا الاحتمال).
4- من خلال تفاعل الطفل مع البيئة تتشكل كتل “القـَـبـْـمـُـدْرك” فى معالم استجابية مميزة Specific Responsive Qualities ولكنها غير ملفظنة بعد Not Yet Verbal ولا تمثل مفهوما Concept بذاته.
الطالب: قبــ.. ماذا؟
المعلم: قبمدرك أى قبل المدرك، أى الكيان الغـُـفـْـل الذى لم يتشكل بعد إلى مدرك محدد (هامش 26 أيضا)
الطالب: ثم كيف يتشكل القبمدرك إلى مدرك؟
المعلم:
5- تتزايد عملية التمييز من خلال تفاعل المخزون مع البيئة وتخليق معلومات جديدة تستقبل المثيرات وتتخلق الأسماء (أو ما يقابلها!!) حسب لغة الطفل التى تصادف نشأته فيها.
6- تتطور بذلك عملية الترميز Symbolization فى الإدرك ثم فيما بعد فى التفكير.
7- يمكن بعد ذلك أن نرى الإدراك بصورته التأويلية المعرفية والتى تشمل إعطاء الأشياء اسماءها ومعانيها التى يمكن للغة أن تعبر عنها أو تظل معرفة غامضة فاعلة مفيدة.
8- تظل عملية الإدراك بعد ذلك تتراوح بين مزيد من ثتبيت العملية المعرفية الرمزية التأويلية من ناحية وبين مزيد من تمييز الكتلة “القـَـبـْـمـُـدْركية” الجاهزة باستمرار لمزيد من التميز، وتتفاعل العمليتان معا لتعديل الرموز المعرفية للمرحلة السابقة باستمرار، بل وتخليق رموز جديدة لمعان جديدة (وهذا هو الإبداع).
الطالب: عندك عندك، كنت أتصور أننى أتابعك حتى الفقرة الأخيرة، ولكن اسمح لى أن أسأل: عن أى إبداع تتكلم؟
المعلم: إنى آسف والله العظيم، ولكنى استسمحك أن تصبر علىّ، وأوافق ألا تستسلم إلى أية معلومة بذاتها وكأنها نهاية المطاف، بل تجعلها محطة يمكن أن ترجع إليها باستمرار، كما أتمنى أن تكون الاحتمالات المرجحة ولو على مستوى الفروض أكرم لعقولنا من الاستسلام لتفاصيل سطحية فى دعة الواثقين – حتى ولو بدت حقائق ظاهرة.
الطالب: ماذا لو أننى تركت ما تسميه التفاصيل السطحية، ثم جاء الامتحان منه؟!
المعلم: التفاصيل السطحية هى مدخل أو بداية، وهى المطلوبة منك فعلا، ولو كان الأمر بيدى لامتحنتك فى “الاحتمالات المرجحة” أكثر من التفاصيل السطحية، لأعرف كيف تفكر.
الطالب: لا ياعم يكفينا الله مخاطر أمنياتك.
المعلم: وهو كذلك، ولو مرحليا حتى أستدرجك أو استدرجهم.
[1] – يحيى الرخاوى: “دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2019)، والكتاب قديم مهم (الطبعة الأولى سنة 1982 ) ولم يتم تحديثه فى هذه الطبعة، موجود فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
[2] – كان ذلك أيام الطبعة الأولى قبل أن تتعدد قنوات التليفزيون وتتوحش موجات و أساليب الإعلان.
[3] – Silvano Mrieti عالم جهبذ! وصديق علم على الورق، وطبيب نفس فيلسوف، لم ياخذ حقه فى ما أحدث من ثورة علمية، وإن كان قد نال حقه فى المكانة الاجتماعية العلمية دون انتشار فكره الخاص وفاعليته.
Arieti, S. (1976) The Intrapsychic Self: Feeling and Cognition In Health and Mental Illness. Abridged Edition. New York: Basic Books.
وقد وصف هذا العالم ما يقابل ما أسميته أنا القـَـبـْـمـُـدْرك وصفه بكلمة Endocept وقد بين أنه يعنى به “المدرك الكلى الداخلى” تميزاً عن المدرك الحسى Percept وعن المفهوم Concept