نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 1-4-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4596
الأربعاء الحر
مقتطف من كتاب:
دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى (1)
الفصل الثالث: الإدراك (1)
الطالب: تحدثنا عن الإنسان فى البيئة، وعن المعلومات الواصلة، وما إلى ذلك، ألا يتم ذلك كله من أبواب الحواس الخمسة؟
المعلم: تعبيرك من “أبواب” تعبير تلقائى ذكىّ جميل يطمئنى على دقة متابعتك، والإجابة أن “نعم”، ولكن بتحفظ، ولنبدأ فى “نعم” دون تحفظ ثم أشير لك فى النهاية لما خشيت منه وتحفظت إزاءه.
فالمعلومات الواصلة للكيان البشرى، وهى المثيرات Stimuli ، تثير فى أعضاء الإحساس تغيرات تنتقل إلى مراكز المخ، وأنت طالب طب، فلا يفيدك أن أعدد لك هنا أنواع الإحساس وعليك بمراجعتها فى الهستولوجى والفسيولوجى ثم تأتى لنكمل الحوار.
الطالب: لقد قرأت ما تقول، وحفظته، ورأيت أشكال المستقبلات Receptors تحت الميكروسكوب، ولكنى لم أعلم كيف تنقلب هذه المؤثرات إلى ” معان” وخاصة بعد استعمالك للفظ ” معنى” هذا الاستعمال الجديد الغريب علىّ.
المعلم: وقعت يا بطل، فهنا مربط الفرس كما يقولون، هل أدركت كيف أن هذا العلم الذى تدرسه هو مجرد مرتبة فسيولوجية متقدمة لدراستك الفسيولوجية العادية، فدراسة أعضاء الإحساس ومساراتها Tracts حتى وصولها إلى مراكز الحس فى المخ هى ما تتقنه علومك الأخرى قبل علم النفس، فإذا انتقلنا من مراكز الإحساس إلى المراكز التى تسمى فى علم التشريح أو الفسيولوجيا المراكز الحسية النفسية Psychosensory Areas فنحن فى منطقة علم النفس، وبالذات فى منطقة ما نسميه الإدراك (2)Perception.
الطالب: لقد أخذنا فى الفسيولوجيا العصبية – مثلا – أن مقابلة صورة المثير الواصل للمنطقة “18،19” فى لحاء Cortex الفص القفوى Occipital Lobe بالصورة القديمة المختزنة هو الذى يجعلنا نرى أن القلم .. قـَـلـَـمـَـا، أو أن هذا الشخص هو “أخى إسماعيل” .. أهذا ما تعنيه؟
المعلم: نعم، بصفة مبدئية، رغم أن للأمر أبعادا أعمق، وهذا الذى ذكرتَ هو ما يسمى فى كل من الفسيولوجيا وعلم النفس “الإدراك”، حتى أن أحد تعاريف الإدراك هو أنه: “العلمية التى نتمكن بها أن نعطى للإحساس معنى“، وإن كنت غير راض تماما عن هذا التعريف.
الطالب: كلما اقتربنا من أى تعريف وجدتك إما مترددا أو غير راض!
المعلم: بالضبط، إذ كيف يدرك الطفل ما حوله قبل أن يعرف شيئا عما حوله، أو اسما له، وكيف يدرك الحيوان ما حوله، وماذا نعنى بكلمة “معنى” … أهو اسم الشئ أما ماهيته أم غير ذلك، إن كل هذا يجعل الاستسلام لمثل هذا التعريف، والاقتصار عليه، اختزالا وتسطحيا يستحسن التمهل فى الموافقة عليه.
الطالب: فماذا تقترح تعريفا للادراك.
المعلم: لستَ أدرى على وجه التحديد؟
الطالب: لستَ تدرى؟!! وأنت وظيفتك أن تعلمنى؟ إذا كنت أنت لا تدرى فهل أنا الذى أدرى؟
المعلم: وماذا فى هذا؟ هل معنى أنى أعلمك أن أعرف كل شئ وأعطيك إياه جاهزا ملفوفا فى خدعة الحسم النهائى؟ فكـِّـر معى بالله عليك.
الطالب: أفكر فى ماذا؟
المعلم: فى تعريف للادراك..، ودعنى أبدأ لك الطريق: هناك من يقول أن “الإدراك هو العملية التى نتعرف بها على البيئة”.
الطالب: وهل يرضيك هذا التعريف، أليس “واسعا” تماما، ألا توجد عمليات أخرى نتعرف بها على البيئة.
المعلم: وهذه هى المصيبة، ألا تذكر حين قلنا إن النفس هى نشاط المخ الكلى، وأن فصل هذا النشاط إلى وظائف محددة صعب وصناعى، وأن كل وظيفة تتداخل مع الأخرى فى نفس الوقت، وإنما نحن نَفـْصِلهَا عن الباقى لسهولة الدراسة ليس إلا، فلنمض قـُـدُما حتى لا تضجر من علمنا، وأنت الذى اعتدت الوضوح والتحديد والحسم والمباشرة فى سائر العلوم.
الطالب: نمضى قـُـدُما إلى أين؟ ما هو الإدراك أولا؟
المعلم: اسمع يا إبنى، خذها هكذا: “الإدراك هو أن تطابق ما يصلك من إحساسات على ما عندك من معلومات سابقة، مع احتمال إضافة جديدة نتيجة لمعرفة جديدة ناشئة من تفاعل الداخل بالخارج” وقد عبروا عن ذلك بقولهم بألفاظ أخرى: “الإدراك هو العلمية التى تنتظم بها وتفسر المؤثرات الحسية بربطها بنتائج الخبرات السابقة”.
الطالب: أليس هذا التعريف قريب مما سبق؟
المعلم: ولهذا اخترته لتتكامل التعريفات، ثم إنه يستحسن أن نتكلم عن الإدراك باعتباره عمليتين لا عملية واحدة: الأولى هى العملية السلبية أو الساكنة ولنسمه الإدراك الإستاتيكىStatic or Passive Perception ، وهى الترجمة الحرفية البسيطة للإحساسات من واقع المعلومات السابقة، والثانية وهى العملية النشطة ولنسمها الإدراك النشط او المعرفى Active Perception، فهى لا تكتفى بأن تستقبل بل تتعرف وتضيف معلومات دون التسرع إلى الترجمة المباشرة لما هو جاهز، وهى أقرب إلى التعلم الإبداعى كما سترى، وهاتيتن العمليتين تتناوبان باستمرار مع مراحل النمو، فالطفل تغلب عليه فى بداية مراحل نموه ذلك الإدراك النشط المعرفى، والناضج المستتب (أو العجوز) تغلب عليه عملية الإدراك السلبى الإستاتيكى.
الطالب: ألا يستحسن أن نرجئ الكلام عن هذا الإدراك النشط إلى دراسة التعلم.
المعلم: هذا رأى وجيه، ولكن تذكر أن فصل العمليتين تماما شبه مستحيل، ولأضرب لك مثلا لشخص نزل بلدا غريبا تماما فى نظامه ومبانيه وناسه ولغته، فإنه لن يستطيع أن يعطى لكل هذه المثيرات من حوله معنى رمزيا منطوقا، ولكنه لا شك سيستجيب لها بكفاءة نسبية وكأنه استقبل منها ما يفيده فى زيارته لها، ثم يتصاعد بذلك إلى معرفة أوضح وأوضح ثم أكثر تحديدا، وذلك بعد أسئلة كثيرة وتسميات منوعة، وخرائط محتملة، وهكذا يصبح معنى الإدراك هنا فى البداية: “استجابة دون تأويل” .. ثم فيما بعد “تعرّف وتحديد المعنى وما إليه”.
الطالب: يخيل إلىّ أنك زدت الأمر غموضا.
المعلم: يا أخى احتملنى بعض الوقت، برغم أنى لا أعدك بحل شئ لا أعرفه، ولأذكرك أن مشكلة الإدراك هذه مشكلة ضاربة فى القدم، وقد تناولها الفلاسفة بعمق ليس له مثيل.
الطالب: الفلاسفة؟!
المعلم: كنت أتوقع منك هذا التساؤل المنزعج، لقد أصبحت كلمة الفلسفة شبهة وكأنها ليست علما، فى حين أنها أم العلوم وأصل العلوم ومنهج المعرفة بلا جدال، واختباؤنا فى المعلومات الجزئية الفرعية بعيدا عن غموض الكليات لن يغنينا عن العودة إلى أصل المعارف لتنشيط التفكير السليم فى الاتجاه السليم، المهم أن نظرية المعرفة Epistemology قد تناولت مشكلة الإدراك من مدخل آخر، ولكنها وصلت إلى نفس الحيرة حول التساؤل الذى يقول: هل نحن “ندرك الأشياء كما هى” أم أننا ندركها كما سبق أن عرفناها”، ولن أدخل فى تفاصيل ذلك حتى لا أربكك، ولكنى ألمحت إلى طبيعة هذه المشكلة حتى اذكرك أن “إعطاء المحسوسات معنى” قد لا يكون تعرفا عليها، بل قد يكون إسقاطا عليها لما نعرف عنها مسبقا، وهذا ما أسميناه الإدراك السلبى أو الساكن، أما إذا تجرأنا واستقبلناها (أو استقبلنا بعضها) “كما هى” (3)لتقابل، وتتفاعل مع، الصورة المختزنة لها فى عقولنا فإن هذا هو الإدراك النشط، وهو أكثر عند الأطفال كما قلنا، وعند المبدعين.
الطالب: اسمح لى أن أرجع عن هذا الحديث الصعب لأسالك سؤالا بسيطا على قدرى وهو: ألا يلزم أن ننتبه إلى الشئ حتى ندركه، فهل الانتتباه نوع من الإدراك؟ أم أنه سابق للإدراك أم ماذا؟
المعلم: عليك نور، الانتباه هو توجيه للنشاط فى اتجاه معين، فإذا كان توجيه النشاط هو لاستقبال المثيرات والاستجابة المناسبة لها وتأويلها أحيانا.. كان جزءا لازما من الإدراك.
[1] – يحيى الرخاوى: “دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2019)، والكتاب قديم مهم (الطبعة الأولى سنة 1982 ) ولم يتم تحديثه فى هذه الطبعة، موجود فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
[2]- فى كتابى “الأساس فى الطب النفسى” الذى نشر مسلسلاً فى النشرة اليومية فى موقعى الإلكترونى الخاص وقد احتل موضوع “الإدراك” مئات الصفحات، (الحجم الكبيرA 4 )، ولم أكن أعلم أنه بلغ هذا الحجم إلا الآن، وبصراحة لم أحاول أن أرجع إليه أصلا، وأنا أراجع هذا الباب وكل ما عدّلت أو أضفت، وهو فى حدود ما جاء فى المقدمة قررت أن أنشره ورقياً، وعلى من يريد أن يرجع إليه فى الموقع فهو متاح لمن شاء www.rakahwy.net
[3] – الرؤية الموضوعية، أى رؤية الأمور كما هى، هى بعض هدف التطور البشرى والوجود البشرى، حتى أنها كانت دعوة بعض المتصوفة مثل العارف السيد “أحمد البدوى” الذى كانت دعوته: اللهم أرنى الأمور ” كما هى” دليل قصوره عن ذلك.