نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 10-6-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4666
الأربعاء الحر
مقتطف من كتاب:
دليل الطالب الذكى فى: علم النفس
انطلاقا من: قصر العينى (1)
مقدمة:
كان أخر ما نشر في حلقة الأسبوع الماضى هو:
الطالب: إذن فحدثنى عن الذاكرة والاستذكار .. الله يخليك.
الفصل الخامس: الذاكرة والاستذكار
المعلم: لك ذاك: فهل تذكر أولا أننا قلنا إن التذكر هو نوع خاص من التعلـّم بهدف الاحتفاظ بالمادة المـُـتعلمة فى الذاكرة؟
الطالب: وهل من هنا جاءت كلمات الاستذكار والمذاكرة وغير ذلك؟
المعلم: طبعا، فهل تتصور أنّ أصل كلمة استذكر فلان تعنى فى اللغة: ربط فى إصبعه خيطا ليذكر حاجته، واستذكر الكتاب: درسه للحفظ.
الطالب: إذن لو درست الكتاب لغير الحفظ فهذا ليس استذكارا.
المعلم: نعم، وربما يكون أحسن.
الطالب: لا يا عم، أفضل أن أدرسه للحفظ، فكيف يساعدنى علمك هذا على الاستذكار عامة بعيدا عن حديث التطور وصراع البقاء؟
المعلم: يستحيل أن نبتعد عن هذا الحديث، فدراسة الذاكرة الآن تقربنا من حديث التطور والبقاء كأشد ما يكون القرب.
الطالب: ثانى؟!؟ فليكن، حتى إذا لم ننجح فى الامتحان نكون قد حافظنا على النوع البشرى بفضل أفكارك النيرة!!!
المعلم: أفكارى أنا أم إثارتك لى؟ إياك أن تتمادى فى السخرية حتى لا تكتشف أنك تسخر من نفسك، اسمع يا إبنى، إننا تعودنا أن ندرس فى علم النفس الذاكرة بمعنى: التعلم الهادف للتذكر أى بمعنى الاستذكار، إلا أن لها بعدا أعمق، فالمسألة لا تقتصر على المخ فحسب، ذلك أن العلم الأحدث فالأحدث يفترض، ويثبت أحيانا، أنه ليس المخ فقط هو الذى يقوم بوظيفة الذاكرة والتذكر، وإنما يشاركه الجسد كله.
الطالب: الجسد؟ ما هذا، هل أهرش ساقى لأتذكر ما تقوله لى الآن واكتبه فى الامتحان
المعلم: هذا ليس وقت المزاح يابنى، أنا لا أمزح، بل لقد تطورت الفروض حتى زعم بعضها أن الذاكرة توجد أيضا، أو أصلا خارج الجسد، وهذا أمر لن أتطرق إليه معك حتى لا أربكك
الطالب: تربكنى، وهل أنا ناقص!؟ وهل انت لم تربكنى حتى الآن؟!
المعلم: إننى لو قلت لك ما وصلنى مؤخراً من عالم شجاع يسمى “شيلدراك” (2) وكتبته فى الامتحان، فقد لا يتوقف الأمر عند رسوبك، بل ربما يتمادى فى تمزيق كراسة إجابتك أو إحالتى للمحاكمة
الطالب: أنت الذى تقلبها سخرية ما هذا بالله عليك؟
المعلم: أنا لا أسخر، لكنك لو سمعت زملائى وهم يهاجمون فروض هذا العالم الشجاع الذى طور فروض الذاكرة ورفض أن يكون تسجيلها مثل شريط التسجيل وأن المخ يعمل مثل التليفزيون وليس مثل المسجـِّـل (الريكوردر) لو سمعت هجومهم واستهانتهم بهذه الفروض وهذا العالم لعرفت مدى المقاومة لما هو جديد.
الطالب: إعمل معروفا خلنا فيما نحن فيه (3) حين أحفظ القديم سوف أفتح بابى للجديد، فلنرجع إلى الذاكرة والاستذكار الله يخليك لأن ورائى هما متلتلا (4) للاستذكار وانت تعلم ثقل التشريح والفسيولوجيا والكيمياء وما أدراك ما الكيمياء.
المعلم: ولكن علينا أن نربط بين ما اختتمنا به حديثنا عن التعلم وبين بداية حديثنا عن التذكر وأعدك برشوة بالحديث عن طرق الاستذكار بعد قليل.
الطالب: وهو كذلك، هات ما تريد.
المعلم: هناك أمور أساسية لابد أن تعرفها عن الذاكرة كما هى مقررة عليك فقد تكون مفتاحا لعديد من الأبواب المغلقة ومن ذلك:
إن العلماء من قديم قد فشلوا أن يحددوا الذاكرة فى جزء معين من أجزاء المخ، وقد أشرنا إلى هذا الفشل فى بداية تعريف النفس، فالذاكرة موجودة فى المخ ككل وهذا يؤكده ما جاء فيما يسمى “قانون الفاعلية الكمّية” Law of Mass Action وليس ما شاع عن تموضع الذاكرة فى مواضيع بذاتها
الطالب: وما هو هذا القانون بالله عليك؟
المعلم: هو قانون يشير إلى أن عجز الذاكرة يتعلق بكمية ما يصاب من المخ أكثر مما يتعلق بمكان الإصابة.
الطالب: ما هذا؟ هل نحن نتذكر بالجملة وليس بالقطاعى
المعلم: تقريبا، وهذا يرتبط أيضا بقانون آخر لنفس العالم لاشلى Lashley وهو قانون “تساوى الاستعداد” Equipotentiality وهو الذى يقول: “رغم أن منطقة ما من المخ – تكون مسئولة عن وظيفة بذاتها – فإن منطقة أخرى يمكن أن تقوم بنفس دورها”، فى ذلك ما يدعم وجود الذاكرة (والتعلم) فى المخ ككل.
الطالب: يا ذا اليوم الذى لن يمرّ
المعلم: انتظر وهل انت رأيت شيئا؟ إن الاكتشافات الأحدث الهائلة فى علم بيولوجيا الجزيئات الجسيمة Macro Molecular Biology، المختص بدراسة دور وتركيب الحامضين النوويين الريبوزى والديسوكسى ريبوزى DNA& RNA وخاصة فى العشرين سنة الأخيرة، قد فتحت أبوابا هائلة لرؤية الذاكرة تركيبا معقدا وتسجيلا امينا داخل الخلايا، أساساً فى المخ لتخصصه، ولكن دون إمكان استبعاد سائر خلايا الجسم كله لتشابه التركيب الكيميائى.
الطالب: أكاد أعجز عن متابعتك
المعلم: إن وجه الشبه بين جزئى هذين الحامضين، وبين المورِّث Gene من ناحية، وبينه وبين الفيروس Virus أصل الحياة من ناحية أخرى، هو وجه يدعو للتفكير والربط المسئول بين علوم مختلفة مثل علم التطور وعلم الوراثة وعلم النفس.
الطالب: وهكذا يصبح الإنسان بكل حضارته وفخره تركيبا خلويا معقدا من حمضين خلويين.
المعلم: ولم لا؟ والحمد لله أنك درست هذه التراكيب فى علم الكيمياء الحيوية Biochemistry ولا داعى أن أكرر لك ما درست.
الطالب: لا يا سيدى لقد درست هذين الحمضين فى تمثيل البروتينات Protien Metabolism مع تلميح خفيف إلى حكاية الذاكرة هذه، أما أنت فقد فتحت الباب على مصراعيه.
المعلم: أنا لم أفتح الباب على مصراعيه، ولكن يبدو أن المخ هو المفتوح على مصراعيه، وحين يأتى الحديث عن التفكير وفعلنة المعلومات Information Processing سوف تتبين ذلك، المهم الآن أن تعرف أننا بدراسة الذاكرة ندرس كلا من “التعلم” و”القدرة على الاستعادة” فى نفس الوقت، ذلك أن القدرة على الاحتفاظ بأى أثر من حدث سابق بغض النظر عن الكيف أو الكم والتعقد هو من وظائف الذاكرة، ومع ذلك فياليتها قاصرة على المخ أو حتى الجسد كما تقول فروض أحدث فأحدث.
الطالب: اختلط الحابل بالنابل.
المعلم: لا حابل ولا نابل، إن دراسة الفروض الكيميائية والبيولوجية الجزيئية الخاصة بالذاكرة خليقة أن تضئ لنا الطريق إلى:
(1) روعة عمل المخ وعلاقته بتنظيم الخلية.
(2) إنارة محدودة عن ما يسمى باللاشعور ومحتواه ومخزونه داخل الخلايا وداخل المخ وخارجه، (دون استعمال مصطلح “اللاشعور”).
(3) فهم طبيعة الحفاظ على الخبرة وتمثلها أو نقلها إلى أجيال تالية.
الطالب: تعرف يا سيدى، إن الحديث عن الذاكرة بهذه اللغة الأشمل دون الاقتصار على اللغة الكيميائية الجافة رائع، ولكنه خطر فى نفس الوقت.
[1] – يحيى الرخاوى: “دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2019)، والكتاب قديم مهم (الطبعة الأولى سنة 1982 ) ولم يتم تحديثه فى هذه الطبعة، موجود فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
[2] – ألفريد روبرت شيلدريك Alfred Rupert Sheldrake، ولد في 28 يونيه 1942 هو مؤلف، ومحاضر شعبي، و باحث في مجال علم النفس الغيبي وبخاصة المجال المعروف “بصدى التحول” morphic resonance.
[3] – هذه الفقرة مضافة فى هذه الطبعة
[4] – تلتل كلمة عربية: تلتل صار شديدا، وتلتل، ساق سوقا عنيفا، وتلتل الشئ، حرّكة بعنف، وتلتل فلاناً وغيره: اقلقه وأزعجه.