نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 24-2-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 4925
الأربعاء الحر:
مقتطف من: دليل الطالب الذكى فى علم النفس انطلاقا من: قصر العينى (1)
الفصل الحادى عشر: لمحة عن الوعى ومستوياته (2)
مقدمة:
أنتهت نشرة الأسبوع الماضى والطالب يقول:
* الطالب: هذا كلام صعب، ولعله أقرب إلى الشعر، ومع ذلك فقد أثارنى وأحرجنى، وأثار فىّ تساؤلات بلا حصر، ولكننى سوف أكتفى بأن أسال عن كيف يدخل الوعى فى سائر الوظائف؟
…………..
المعلم: إن دراسة هذا التداخل تجرى الآن من منطلق نموذج للكمبيوتر من خلال تطبيق فكرة عملية “فعلنة المعلومات“، وهى تلك العملية التى تنظم دخول المعلومات فى الجهاز العصبى المركزى، ويقال إن التكوين الشبكى له شأن كبير بها، وهى كعملية شاملة: مسئولة عن الوعى، وكعملية انتقائية مسئولة عن الانتباه، وكعملية تنظيمية هى مسئولة عن توازن الجهاز المخى كله وتماسكه.
الطالب: زدنى شرحاً، ربنا يخليك.
المعلم: إن هذه العملية (فعلنة المعلومات Information Processing) تمر بمراحل متلاحقة ومتبادلة على الوجه التالى:
1- التفرس والغربلةScamming & Screening ، وهذه الخطوة تعنى الانتقاء التلقائى للمعلومات الداخلة من أى مصدر إدراكى، وهى خطوة شديدة الأهمية لأنه يستحيل فى لحظة ما أن يستقبل المخ كل المعلومات المتاحة فى مجال الإدراك، وبذلك فلابد من عملية الغربلة هذه حسب الموقف والهدف والاستعداد وكل الظروف الأخرى التى تحدد نوعية اللحظة.
2- الفعلنة (أو التنغيم) Processing ، وهذه الخطوة تعنى تنظيم المعلومات الجديدة الداخلة مع المعلومات القديمة القائمة بطريقة تناسب “نغمة” الوعى الموجودة وحالته حينذاك، وبهذا تصبح هذه المعلومات ذات فاعلية جاهزة للفهم أو لتفعيل أى سلوك تال.
3- التكامل Integration بعد أن تنتاغم النغمة، بين القديم القائم، والجديد الداخل، تبدا عملية التوليف بينهما بما تطلبه الحاجة والموقف والغاية، ومن خلال هذا التكامل يصبح التنظيم المخى قادر على الضبط والفعل والاستجابة.
4- الضبط Controlling وهذه الخطوة هى التى تسمح بخروج المعلومات (بعد تكامل المعلومات الداخلة مع المعلومات القائمة) فى شكل استجابات سلوكية، وهى التى تساهم فى ضبط التفكير الارتباطى مثلا …
الطالب: ولكن ما علاقة كل هذا بالوعى يا عمنا، أليست هذه العملية أقرب إلى ما سبق أن اسميته بالإدراك النشط.
المعلم: هذا صحيح إلى حدٍّ ما، ولكنها ليست عملية إدراك معرفى محدد بقدر ما هى عملية أكثر كلية وشمولية، كما لا يمكن – أيضا – استبعاد مثل هذه العملية من خطوات التفكير أيضاً: فهى أرضية لسائر الوظائف الارتباطية، إلا أنها فى كليتها هى أساس استمرار حالة الوعى بصفته الأساس والأصل لأى عملية أخرى، ثم إنها فى جزئيتها وحسب ارتباطها بأى وظيفة غيرها، تدخل وتشارك فيها بشكل ما.
الطالب: إذن فالوعى هو عملية تكاملية ضامّة أرضية متداخلة.
المعلم: ما هذا كله! ما هذا كله؟!
الطالب: هى جاءت “هكذا”.
المعلم: ما رأيك أن ندعها “هكذا” حتى تتبين الأمور.
الطالب: على شرط ألا تأتى فى الامتحان
المعلم: امتحان ماذا يا عم، خلـّها فى سرك.
الطالب: إذا كان الأمر كذلك وكان الوعى بكل هذا الغموض وأيضا بكل هذه الأهمية، فكيف يستفيد الطبيب أو المعالج من معرفة هذا التنظير الصعب.
المعلم: … وكأنك تعرف المأزق الذى نعيشه، إن الحديث عن الوعى يكاد يبعدنا عن التعرف عليه، علما بأن ممارسة التواصل والتكافل عن طريقه هى عملية أسبق من التواصل بالكلمات والأحضان، ولا تنسى أن كل الأحياء تتواصل مع بعضها البعض وخاصة من نفس النوع، من خلال حركية الوعى بلا لغة وبلا شرح ولا رموز
الطالب: فلماذا تـَرَاجـَعَ الإنسان عن هذه الوسيلة الأصدق والأكثر مباشرة؟
المعلم: لقد حل محل ذلك الكلام والمناقشات والنظريات والخطب
الطالب: تسخر منى؟
المعلم: بل أعنى ما أقول إن كل الأحياء التى لم تتطور حتى مرحلة اللغة اللفظية تواصلت وتتواصل فيما بينها من خلال الوعى البينشخصى ثم الوعى الجمعى ثم الوعى الجماعى إلى الوعى مع دوائر الوعى حولها فى الطبيعة الممتدة وهذا ما حفظ بقاءها فلم تنقرض
الطالب: إذن: ماذا حدث للإنسان حتى تنازل أو تراجع عن هذه الوسيلة الرائعة الصادقة للتواصل
المعلم: أكرر أنه تورط بعد ظهور اللغة بكل رموزها الطاغية المستبعـِـدَة لكل قنوات التواصل الأخرى فاستغنى عن التواصل بنبض الوعى المتعدد اللغات، فتراجعت المعرفة بالإدراك الذى ذكرتُ لك عنها أنها معرفة أشمل وأقدر من التفكير،
ثم تراجع التواصل بنبض الوجود وحلت محله الأحضان وألفاظ الحب وصفقات العلاقات،
ثم ضاقت الدوائر الجماعية، وتكلست جدران كل جماعة بالتعصب والتمييز والسيطرة والظلم وأصبحت مجاميع الناس تكاد لا تمثل نوعا واحدا من الأحياء.
الطالب: عندك عندك، هل قلبت المسألة سياسة!!؟ إنْ صح كلامك هذا فأنت تنعى النوع البشرى قبل الآوان.
المعلم: أبدا، أنا ثقتى فى الإنسان لا حدود لها، وقد تعمقت أكثر من خلال ممارستى العلاج الجمعى بالذات ثم علاج الوسط، فالتواصل فى هذين النوعين من العلاج يجرى بقدر كبير من خلال الوعى المشترك، والنشاط الجماعى، واللغة غير الرمزية.
الطالب: غير ماذا؟ تقول غير ماذا؟ وهل توجد لغة غير رمزية؟ وهل تعنى التفاهم بالإشارة
المعلم: طبعا لا، هى لغة مثل لغة الطير معا فى السماء، والسمك معا فى البحور، ألا تذكر كيف ذكرنا أن الوعى نفسه هو لغة خاصة، بدلا من أن نبحث عن “لغة الوعى”؟.
الطالب: نعم، صحيح، ربما نسيتها لأنى لم أفهمها.
المعلم: فوّت هذه لو سمحت، أعنى التواصل بكل قنوات التواصل وليس فقط بالألفاظ وما تعنيه عند الغالبية، أو فى المعاجم.
الطالب: لست فاهما.
المعلم: هذا يحتاج إلى عمل مستقل لا يقل حجمه عن حجم هذا العمل برمته، ودعنى أقول لك مثلا محددا من العلاج الجمعى.
الطالب: ياليت.
المعلم: فى العلاج الجمعى يشترط التواصل النهى عن الكلام فى الماضى، أو حتى فى المستقبل كما يجرى التركيز على “هنا والآن”، و”أنا وأنت” فيبدأ تنشيط الوعى البينشخصى بين الأفراد وبعضهم البعض بدءًا بالمعالج الرئيسى، ثم يمتد التواصل على أكثر من محور وبمشاركة الآخرين حتى ولو لم يشتركوا بالألفاظ، ونتجنب الحديث عن الأسباب ولا نستعمل الأداة “لماذا؟” ليحل محلها “إذن ماذا؟” فيتكون وسطنا وعى جمعى يجمعنا هو وعى الجماعة بدءًا بجماعة العلاج الجمعى، وتمتد الدائرة تلقائيا إلى دوائر أوسع فأوسع، إلى الوعى الجماعى فما بعده وهكذا.
الطالب: هكذا ماذا؟ وهل هناك أوسع من الوعى الجماعى.
المعلم: أرجوك لا تضطرنى إلى الخوض فيما بعد ذلك حتى نظل فى حدود العلم الشائع، ماذا وإلا…
الطالب: وهل انت راعيت ذلك أبدا، إن ما وصلنى هو مزيج من خبرتك وقراءاتك حتى كنت أنوّه إلى ذلك مراراً حتى نعود إلى ما هو مقرر علينا.
المعلم: أنا آسف، عندك حق، ولكن اسمح لى أن أعتذر عن الحديث عن الوعى المطلق فالوعى الكونى، فوعى “الغيب” إلى ما بعده.
الطالب: وماذا بعده.
المعلم: يا إبنى يا إبنى، اسأل الرضـّع حديثى الولادة أو الحس الشعبى النقى أو حتى الطيور فى السماء، وسوف تخبرك عن الغيب وما بعده
الطالب: لست فاهما
المعلم: أحسن خلـِّـنا فى المقرر
الطالب: لا يا شيخ!! كل هذا فى المقرر.
المعلم: يعنى.
الطالب: يعنى ماذا؟
المعلم: يعنى ما وصـَـلـَلك.
خاتمة
وبعد:
هذا كتاب كتب قديما فى ظرف خاص، ولا أعرف كيف انتشر، وكيف نفذت الطبعة الأولى، ولابد من الاعتراف بعد اضطرارى لإعاده نشره بعد هذه العقود أنه يقدم موجزا متواضعا للأبعاد الأساسية للوظائف النفسية، ذلك أننى لم أضف له ما استحدث بعد نشره من إنجازات علمية أو تطورات فى فروضى الخاصة، اللهم إلا نادراً وفى بعض الهوامش غالباً، وإنى أعتقد أن كل فائدته قد تكون فى تسجيل تاريخ مرحلة عزيزة علىّ،
كما أننى اعتبرتها فرصة للاعتراف بفضل القسم – قسم الطب النفسى قصر العينى- الذى تدربت فيه وتعلمت منه وقمت وأقوم بالتدريس فيه حتى الآن، ثم أنه بمثابة تسجيلٍ آمل معه فى توصيل طريقة أخرى لتقديم العلم لطالب العلم وتشجيعه على الحوار والنقد، والإضافة والرفض، والمشاركة، الأمر الذى كان سبباً فى منعى من تدريس هذا المقرر بهذه الطريقة (أو بأى طريقة) كما جاء فى المقدمة.
ثم إننى قد قمت بحذف بضع صفحات من الفصل الأخير عن “الحيل النفسية وعلاقتها بالوعى” وذلك نظراً لأنها مرتبطة تماماً بفكرة اللاشعور، وقد تحفظت على استعمال هذا المصطلح، ثم إنى قد تناولت أغلب هذه الحيل فى أكثر من عمل آخر، فأضيف هذا الحذف إلى حذف الفصل الأخير عن القياس النفسى.
وقد كنت أنوى أن أواصل كتابة سلسلة بنفس المنهج ولنفس الغرض وقد بدأت فعلاً بعد صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب فى كتابة “دليل الطالب الذكى فى الطب النفسى” وصدر فيما لا يزيد حجمه عن أربع محاضرات شاملة كل أبعاد ما أمكن تقديمه لمعالم هذا الفرع لطالب السنة الرابعة بكلية الطب، فى هذا الحيـّز، لكننى – مؤخرا جداً- بعد ما كتبت آلاف الصفحات فى ما أسميته “الأساس فى الطب النفسى” وصدرت إلكترونيا فى موقعى تباعاً فى نشرات “الإنسان والتطور” اليومية من 5/10/2010 إلى 16/1/2016، عدلت عن اختزال هذا الكم الهائل فى مثل هذا العمل، ثم عدلت نهائياً بعد أن توقفت عن التدريس لطلبة الطب، ليس فقط بسبب ما حدث حول هذا الكتاب كما جاء فى المقدمة أيضا، ولكن فى محاولة “ملء الوقت بما هو أحق بالوقت”.
عذراً أيها الطالب الذكى الصديق، والقارىء الذكى الصبور، ونلتقى دائماً فى رحاب المعرفة بفضل الحق تعالى.
وله الحمد.
وبعد
هكذا انتهى هذا العمل
شكراً
[1] – يحيى الرخاوى: “دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2019)، والكتاب قديم مهم (الطبعة الأولى سنة 1982) ولم يتم تحديثه فى هذه الطبعة، موجود فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net