نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 08-07-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4694
الأربعاء الحر:
مقتطف من: دليل الطالب الذكى فى علم النفس انطلاقا من: قصر العينى (1)
مقدمة:
انتهى المقتطف السابق كالتالى:
المعلم: والتفكير من أعظم ميزات الإنسان ومسئوليته معاً.
الطالب: ولكن قل لى أين يقع التفكير من التعلم والذاكرة!
الفصل السادس: التفكير (1)
المعلم: يكاد يكون التفكير هو الضلع الثالث لكلِّ من التعلم والذاكرة معا، فإذا كان التعلم هو تغير فى الكائن نتيجة للخبرة وكانت الذاكرة مرتبطة بكم المعلومات الموروثة والمكتسبة فإن التفكير هو استعمال هذا وذاك على مستوى الفعل ومستوى الرمز معاً لهدف التكيف وحل المشاكل والإبداع جميعاً.
الطالب: لو أن التفكير هو حل المشاكل، فلابد أننا لا نفكر لأن المشاكل من حولنا يبدو أنها لا تـُـحـَـل، بل هى تزداد ونحن نحاول حلها، فياليتنا لا نحاول.
المعلم: عدت إلى فكاهتك الظريفة، ولو أنى لا أحب هذا النوع من الفكاهة من الشباب خاصة، فالمشاكل تحل حين نقرر حلها، وليس ونحن نقف نتفرج عليها أو ننتظر من غيرنا حلها، ما علينا، المهم أنا أوافقك، فإنى لم أرض أبدا عن أن يُعـَرّف التفكير بأنه حل للمشاكل Problem solving وإن كنت لم أجد له تعريفا مقنعا بعد.
الطالب: هل سترجعنى لدوامة التعاريف ثانية.
المعلم: ولم لا؟ وعلى كلّ فقد خطرلى تعريف بسيط للتفكير لعله يرضيك مرحليا وهو: أن التفكير عند الإنسان ليس فقط “استعمال الرموز والذكريات لحل مشكلة أو الوصول إلى هدف (مسبق فى العادة) بل هو على المستوى الأشمل: “الترابط وإعادة الترابط على المستوى النيورونى والجزيئى العظيمى لتحقيق الوصول إلى غاية ليست بالضرورة فى المستوى الشعورى”
الطالب: لقد عقـَّدتها يا سيدنا بدرجة تدفعنى أن استسهل تعريف التفكير أنه هو “حل المشاكل”، مهما كان اعتراضك انت.
المعلم: ياليته ينفع، إن المسألة متصاعدة التعقيد، والتفكير على كل حال يقع على مستويات، فإذا كان حل المشاكل شعوريا فهذا مستوى ظاهر يمكن تناوله بالمنطق العادى، أما حين يكون الترابط وإعادة الترابط على مستوى النيورونات والجزيئات العظيمة فهذا مستوى مواز أعمق وأساسىّ وهو مرتبط مباشرة بالمستوى الأول.
الطالب: أنا أخشى أن تعود وتنطلق إلى حكاية المستويات وسبحان من يوقفك.
المعلم: إن عملية التفكير – الرمزى خاصة – هى من أروع ما يميز الوجود البشرى والسلوك البشرى، ثم إنه فى عملية الترابط التى يقوم بها التفكير على المستويات جميعا من الأسطح إلى الأعمق: إنما يقوم بوظيفة الإسهام فى تماسك المخ البشرى وتنظيمه.
الطالب: بالذمة هل هذا كلام؟، كيف يمكن للوظيفة أن تسهم فى تماسك وتنظيم التركيب الذى هو أصل وجودها.
المعلم: يا سلام !!! إن هذه هى القاعدة حيث يكون التناسق ليس بين أجزاء التركيب فحسب بل يتم بتغذية مرتجعة Feed back بين ناتج الوظيفة وبين التركيب الذى اصدره، وهذا القانون ليس خاصا بالأجهزة البشرية فحسب، بل إن الأجهزة جميعا تصان ويطول عمرها إذا ما كانت وظيفتها تؤدَّى بالكفاءة المناسبة لتحقق الغاية التى وجدت أو تطورت من أجلها.
الطالب: الله .. والله.. ومن أين لك بكل هذا اليقين؟، هل أجريتم تجارب لنرى كيف أن التفكير الهادف المنتظم يحفظ خلاياه؟
المعلم: ألم أقل لك إن وسائل دراستنا متنوعة وليست فقط التجارب، وصدقنى يا إبنى لقد رأيت نتاج التفكير غير المترابط غير الهادف فى خبرتى الكلينيكية نتاجا خطيرا على الخلايا ذاتها، كما صادفت بضعة حالات لم أصفها بعد وقد فقدت النيورونات غشاءها الميلينى حين اصطدمت سلسلة التفكير المنظم للمخ بإحباط ٍ وجودىٍّ مهول حتى شابهت الحالة – حتى من خلال تخطيط الرنين المغناطيسى- مرضى التليف المتناثر Disseminated Sceierosis، بمعنى أن فرط فساد التفكير، وفرط التشتت حتى التفسخ يؤثر على الخلايا حتى تفقد غشاء الميليين، ولكن ما عليك الآن من التفاصيل، المهم أن نتذكر أن التفكير “الغائى بالذات” هو عملية أساسية فى تنظيم المخ والحفاظ على حيويته ووظائفه.
الطالب: ماذا تعنى بالتفكير “الغائى بالذات” هذا؟
المعلم: كان بودى لو تجنبت هذا السؤال، لأن كلمة الغاية ليست واضحة لدى أحد، وهى دائما مقرونة عندك وعند زملائك بأحداث جارية تهدف إلى هدف بذاته مثل النجاح أو “الزواج” وعند غيرك ممن هم أكبر منك بأوضاع سطحية مثل “الوصول” والسلطة أو اللذة وما إلى ذلك، وإنما أعنى بقولى “الغاية” هنا عمقا بيولوجيا يبدأ من اعتبار الغاية هى الحياة ذاتها وأحيانا هى حفظ النوع بل وأحيانا هى الغيب إليه (2).
الطالب: الغيب غاية؟ ما هذا؟
المعلم: أنت تفتح على نفسك أبوابا لم أكن أنوى أن أتطرق إليها، ولا أميل للحديث عنها لكثرة ما يساء فهمها، وعموما فسوف أوجز لك هذا الأمر بأسرع ما يكون كما خبرته فى مجالى الإكلينيكى.
1- لكل عملية تفكير بالمعنى الذى ذكرناه: هدف قريب أو بعيد.
2- إن هدف الفكرة حتى فى أبسط صورها (مثل إلقاء تحية) هو الذى يحدد انبعاثها وانتهائها – وفى هذا المثل (التحية) هو التواصل أو المجاملة، أو إطلاق عادة، أو كل ذلك معاً.
3- إن الأفكار تترتب ترتيبا محوريا حيث توجد فكرة مركزية Central idea أساسية لها هدف أساسى ثم ترتبط بها وتدور فى فلكها أفكار أخرى لها أهداف أقرب.
4- تعتبر هذه الافكار المنجذبة الأقرب أفكارا مركزية تالية لما دونها مما حولها وهكذا.
5- فى لحظة ما، تظهر على السطح (فيما يسمى الشعور) فكرة مركزية ظاهرة، ومهما كانت قادرة على تنسيق بقية النشاط الفكرى والترابطى، فإنها بدورها مرتبطة بفكرة مركزية أعمق وأشمل.
6- تتبادل الأفكار المركزية الشعورية (ثم الطرفية بالنسبة لما هو أعمق) مع بعضها حسب الاهتمام واللحظة والمتطلبات والواقعية.
7- يتم هذا التسلسل والتصعيد بين الأفكار المركزية المتصاعدة فى نظام متلاحق تلقائى، وهو نظام لا يسمح عادة بالظهور فى دائرة الشعور إلا للفكرة اللحظية المرتبطة بهدف واضح قريب فى العادة.
الطالب: عندك عندك، لقد زودتها حتى كدت أفقد الخيط من يدى، أعنى من عقلى، فلا أتسلسل معك مثلما تتسلسل الأفكار حول الفكرة المركزية، ولكن ماذا عن الأفكار غير المركزية؟
(ملحوظة: وضعت هذه الأشكال من كتابى الأساس في الطب النفسى دون شرح قصدا، وعلى من يرغب في المزيد أن يرجع إلى هذا الرابط “نشرات الإنسان والتطور” الأساس فى الطب النفسى: ملف التفكير (النشرات من 2/2/201 حتى 19/5/2014).
(ونكمل الأسبوع القادم)
[1] – يحيى الرخاوى: “دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2019)، والكتاب قديم مهم (الطبعة الأولى سنة 1982 ) ولم يتم تحديثه فى هذه الطبعة، موجود فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
[2] – يحيى الرخاوى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” للمؤلف ص 54، 55، 56، 57– الناشر دار الغد للثقافة والنشر 1979 القاهرة.