نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 7-8-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4358
الأربعاء الحر
مقتطف من مجلة الإنسان والتطور الفصلية (1980 – 2001)
(مقتطف …. وموقف) (1)
المقتطف:
“…وبإسدال الستار على هذه المأساة البائسة (2) لم تعد هناك فلسفة، والناجون الوحيدون من هذا الغرق أصبحوا اللاهوتيين مع كيركجارد، وثوريين مع ماركس أو شعراء مع نيتشة.
أما الباقون، أولئك الذين يروا أن الثمثيلية قد إنتهت، وأن مسرح الظل أغلق أبوابه، إستمروا يقضمون فتات العمل: هيجل، فمنذ قرن ونصف: “نجح عدد من الأقزام المشوهين فى إقتطاع أثواب من معطفة الملكى”.
غير أن نسغا من ماء الحياة، الجارى دائما من ينابيع الشرق لم يتوقف عن الجريان فى هذه الصحراء الفلسفية القاتمة، وبالنسبة للمسيحيين لم يتوقف، فما زال يقطر من خاصرة المسيح بطعن الحربة الرومانية.
وفيما وراء الصمت حيث ينبعث أحيانا صوت بعض الصوفيين خافتا، كان تقليد الفكر التنبؤى يواصل الحياة فى الظل، يطلق صرخة أحيانا فى الليل المظلم، سرعان ما تان أو يشوهها سادة اللعبة الكهنوتية أو الفلسفية”.
روجيه جارودى (3)
الموقف:
ما زال إسلام جارودى حديث المسلمين، وأحيانا فخرهم المعاصر، ولسنا ندرى إلى أى مدى قد وضح لدى غالبية المسلمين وغير المسلمين معنى وماهية إسلام جارودى، ولسنا ندرى إلى أى مدى وبأى مقياس يمكن أن يتخطى إسلام جارودى مرحلة “الحل الفردى” إلى مرحلة “البديل الحضارى الجمعى”، وأخشى ما ينبغى أن نخشاه أن نفهم إسلام جارودى بالمعنى الشديد السطحية الذى يعلن أن فيلسوفا غربيا، وماركسيا سابقا، قد تاب وأناب فأسلم بعد أن قارن فاهتدى، ونتصور أن إسلامه هذا هو الإسلام الذى تتحدد أبعاده من على المنابر التقليدية، أو هو الذى اختزل إلى عبادات أفرغت من وظيفتها وإيقاعها الكونى، أو هو الذى استعمل تحت لافتات عصرية تبرر موجات رفض يسارية أو كاليسارية، إن كل ذلك غير مطروح أصلا لمن تأمل تاريخ جارودى وموقفه الأخير فى هذه السن وتحت أمانة الوعى التى ابتلى بها فما استطاع منها فكاكا، والتى إذا ما استطاع – فى هذه السن: مرة ثانية – أن يحافظ عليها، فقد تقوده حتما إلى ما كفـّرنا به غيره من مسلمين أعمق اسلاما وأسبق رؤية وأبعد تنبؤا مثل إبن عربى والحلاج، بل أن إنتماؤه إلى هؤلاء لهو أشد وأوثق من انتمائه إلى المؤسسات الإسلامية الرسمية التى صفقت لإسلامه دون تحفظ.
ونعتقد – واحتمال الخطأ لا يغيب عنا – أن هذا المفكر العنيد والفريد إنما يعرض صورة فنية لأمل بعيد المنال، وأنه يعلن من موقع أمانة وعيه أن ثمة “إشراقا” ممكنا، وهو يتحسس موضع الشمس قبل بزوغها، ولكن كل هذا لا يعنى أولا: إن ما يتحدث عنه هو قائم عند أهله، بقدر ما هو ماثل أمام رؤاه (رؤيته) كما أنه لا يعنى ثانيا: أننا قادرون على تمثل إيجابيات ما يعلن نهايته، للإنطلاق منها، وأعنى به الفلسفة الغربية، والنموذج الغربى الذى فشل فى الإحاطة بكلية الوجود البشرى/الكونى، وترامى أبعاده
وعلى ذلك فقد يجدر بنا أن ننظر إلى إسلام جارودى بصفته إعلانا مزدوجا من فشل الحضارة الغربية وفى نفس الوقت عن غفلة الحضارة الشرقية (أو الإسلامية)، وأمله فى الحوار بين الحضارات هو إشارة طيبة لإمكانية صعبة، والخوف كل الخوف أن تغمرنا فرحة طفلية نابعة من شعور غائر بالنقص، فلا نرى فى إسلام جارودى (المرحلى: إن أطال الله عمره وحفظ له شجاعته) إلا قشور هربه من الغرور الإغريقى، ثم لا نرى فى تحيزه للفكر التنبؤى إلا ردة إلى الخرافة بالمعنى السلبى النكوصى.
والموقف المأمول، أصعب من أن يوجز فى كلمات، والأفضل أن نقف عند التحذير مما لا يجدى، ومما يخدر، ويضر، ثم نصر على الإستمرار مع الحذر، والوعى والأمانة، فلربما لا نخيب ظنه فى أزمة صدقه، حتى لو تراجع هو – كفرد – فلن يكون فى هذا إعلان لفشل الإسلام كبديل فائق، كما حاول بعضنا أن يستنتج فشل الماركسية من العدول عن الإيمان بها، وإنما نكون قد إستوعبنا صرخته الفنية لتكون منطلقا للإحتمالات الحضارية البديلة أو الولافية .
*****
[1] – مقتطف وموقف من عدد أكتوبر 1984 مجلة الإنسان والتطور الفصلية
[2] – روجية جارودى “وعود الإسلام” (ص 118، 119) ترجمة د . ذوفان قرقوط – مكتبة مدبولى – القاهرة 1984
[3] – بعد حديث عن فلسفة هيجل باعتبارها – كما رأى ماركس – نهاية الفلسفة (وبالتحديد نهاية الفلسفة الغربية) من وجهة نظر ما أعلنته من أن كل شئ هو تصور، مفهوم، مما قاد الفلسفة إلى نهايتها بتركيب فخيم، وأخير، بين الأنا والموضوع.