نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 30 -10-2019
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4442
الأربعاء الحر
(مقتطف …. وموقف) (1)
تحرير المرأة بالحرمان …..!!!
المقتطف
أنا لبوة لكننى لا أرتضـــى نفــــــــسى مناخا طول دهرى من أحد
و لو أننى أختار ذلك لم أجب كلبا، وقد غلــقت سمـعى عن أســـد
عائشة القرطبية: نزهة الجلساء للسيوطي
الموقف
قضية تحرير المرأة هى من أشهر قضايا التحرير عبر التاريخ ، وقد أخذت فى مصر حجما خاصا له دلالاته ، ولنا فى هذا الأمر وقفة مبدئية قبل أن نعلن ما أثاره هذا المقتطف من مواقف، ولهذا نبدأ بهذه المقدمة:
(1) إن قضية الحرية (والتحرير) لا تقتصر على امرأة أو رجل بل هى قضية إنسانية أزلية لها تجليات ومظاهر، بعضها صريح وأغلبها خفي، ولا أحد يمكن أن يكون حرا إلا وسط أحرار، وكل نقص من حرية شخص أو فئة هو نقص من حرية كل فرد فى هذا المجموع (ملحوظة أعنى الحرية الحرية وليس مجرد أوهام الاختيار الظاهر)، باختصار لا أحد يتحرر وحده، حتى أننى تصورت مرة أن هؤلاء الأبطال الذين حاولوا تحرير شعوبهم كانوا يطلبون نوعا أرقى من الحرية، فلأن تحرر ناسك هو السبيل الوحيد لكى تحرر نفسك.
(2) إن قضية تحرير المرأة فى مصر قد سلكت سبيلا مخادعا أحيانا وزائفا أحيانا وسطحيا أحيانا، وذلك حين ركزت على مسألة المطالبة بالمساواة بالرجل أساسا. (وهو ليس حرا أصلا ،أنظر بعد)
(3) إن المرأة الإنسان التى احتد وعيها فالتقطت وضعها المقهور قد شغلت نفسها بهذا الكفاح أحادى الجانب لتحرير المرأة ، وكأن قضية الحرية والتحرير يمكن تجزئتها ، وهى لم تركز -بالتالى – على إبداع الحياة الذى هو السبيل الوحيد لتحريرها وتحرير كل الناس.
(4) إذن ، فلا لا سبيل لتحرير المرأة إلا بتحرير الإنسان: ولا مفر لتحرير المرأة إلا مع محاولة تحرير الرجل فى نفس الوقت ، وقد يثبت بالنظر الأعمق أن الرجل أكثر عبودية،؟ من المرأة المقهورة المضيعة، ولكن السؤال هو: من أين نبدأ.
(5) إن المجالات التى تنوولت فيها قضية تحرير المرأة دارت أساسا فى فلك الحقوق المدنية ، وقانون الأحوال الشخصية ، وظروف العمل وما شابه ، مع أن إشكالة تحرير المرأة (والرجل) تظهر أكثر ما تظهر فى العلاقات الحميمة التى تصل قمتها فى عمق الالتحام الجسدى (الجنس)، ولو أن المرأة (والرجل) انتبها إلى ممارسة الحرية ‘معا’ أثناء ممارسة الجنس كأحد أهم اختيارات العلاقة، إذن لاقتربنا من إشكالة العلاقات البشرية أساسا، مع العلم بأن مجال العلاقة بالموضوع (بالآخر) هو الاختبار الحقيقى لأى حرية مزعومة ، إذن ، فلا مفر من اقتحام هذه الصعوبة باعتبارها السبيل الوحيد، أو الأساسى ، لتأنيس الإنسان، فإنما يكون الإنسان إنسانا بأمرين:الأول: أنه يمكن أن يختار (بسائر مستويات اختياره) متحملا نتائج ذلك ، والثاني: أن يمارس هذا الاختيار فى ‘حضور’ آخر له اختياراته أيضا، (المختلفة عادة).
والآن ، نرجع إلى المقتطف:
تأبى المرأة (على لسان عائشة القرطبية) أن تكون ‘مناخا’ لأحد، (لرجل) كائنا من كان هذا الأحد، والمناخ (بفتح الفاء) هو موضع ينخ فيه الجمل، وهو تعبير شديد الدلالة فى هذا الموقف بالذات ، وفى ريف بلدنا لا يسمى مناخا إلا المكان الذى اعتاد أن ‘ينخ’ فيه الجمل، وليس أى مكان ينخ فيه والسلام، أى أن الجمل إذا نخ أثناء سيره هنا أو هناك لا يعتبر المكان الذى نخ فيه ‘مناخا’، وإنما يطلق لفظ المناخ عادة على المكان الدائم فى الحظيرة أو خلف الخيمة ، المكان الذى اعتاد أن ينخ فيه عند عودته، فتصور معى وضع المرأة فى المنزل، وهى تنتظر جالسة أو مضطجعة، حين يعود بعلها من شقائه ، أو من مزاعم شقائه، مثلما يعود الجمل من رحلته ، أو بعد أن يحط حمولته ، ثم تكون كل مهمتها أن ينخ عليها متعبا مكدودا ، وهى تحته يحيط بها ما يحيط المناخ من بقايا وروائح، هذه صورة مقززة منفرة لو وعتها أى امرأة لأبت أن تنطرح أرضا لأى من كان، وحين وصل الشاعرة أن المجتمع أو القيم السائدة أو سوء تفسير الدين يفرضون عليها هذه الوضع ، أبت إباء مطلقا، فجعلت هذا الإباء خالدا فى الزمان (طول دهرى) ، ثم عممت الرفض على كل الناس (من أحد، أيا كان هذا الأحد).
ونلاحظ أيضا أن إباءها تحدد فى أنها تأبى أن تجعل’نفسها ‘مناخا، وليس فقط ‘جسدها’ ، وهذا من أهم ما يغفله الرجل (والمرأة) حين يفصلون الجسد عن كلية الوجود، وحين يوصف الجسد مستقلا عن صاحبه أو صاحبته ، سواء فى قبح لعبة كمال الأجسام أم فى مسابقات جمال النساء، حين يحدث ذلك يتم اختزال الإنسان رجلا أو امرأة إلى جسد عضلى أو متناسق، وفقط.
وموقفنا تجاه هذا المقتطف المختصر جدا لا ينظر إليه من وجهة نظر واحدة ، فهو بقدر ما فيه من إباء حقيقي، وثورة كريمة ، فيه ميل شديد إلى ما يعرف باسم الشيزيدية أو العزوف عن العلاقة مع الآخر، أيا كان هذا الآخر. ومن إشكالات هذا العزوف الشيزيدى (2)، أن صاحبه هو الذى يدفع ثمنه ، ومن هذا الثمن ما يعانيه من آثار الوحدة والجوع العاطفى وربما خدعة الاستكفاء الذاتي، وكلها أثمان باهظة تجعل صاحبها (صاحبتها) تفكر فى التراجع عن هذا القرار الأبى فتعيد النظر، ولكنها هنا فى هذا المقتطف تعتبره اختيارا جديدا(ولو أننى أختار ذلك) وليس تنازلا أو استسلاما ، فإذا بها تنتقل إلى نوع آخر من الرفض ، فهى تصنف هذا الذى يمكن أن تكون له مناخا، فتراه كلبا ، وليس حتى جملا، فتجد مبررا آخر للرفض، وهو أنها ‘غلقت ‘ نفسها دون من هو أفضل منه ، غلقت نفسها عن الأسد شخصيا وهو الأكثر تلاؤما معها وهى اللبؤة الأبية ، فكيف ترضى بأن تتفتح لكلب لا يساوي.
وهذا الموقف الرافض قديم عند النساء قدم علاقتهن بالرجال ، وإعلانه مؤخرا بالألفاظ، أو بالكتابة، أو من خلال نشاطات تحرير المرأة ، لا يعنى أنه بدأ مع بداية هذه الحركات التحريرية الأحدث، فرفض المرأة للرجل أقوى من كل حركة تحرير وأقدم، وقد أشرنا فى باب “إعادة قراءة مصطلح (ص: 39) “إلى أن الأنثى – بـيولوجيا- فى كثير من الأنواع ترفض الذكر بصفة دائمة، اللهم إلا وقت الاستعداد للتكاثر ، وبالنسبة للمرأة فإن من أهم مجالات الرفض وأقواها وأحيانا أخفاها، أن ترفض المرأة الرجل جنسيا، وقد يكون رفضا صريحا منذ البداية، أو رفضا أثناء الأداء، أو رفضا بتخيل آخر ، أو رفضا بعدم التمادى فى اللذة حتى النهاية، وكل هذه الأشكال قد تصل إلى الرجل أو لا تصل ، حسب حساسية وعيه ويقظة احتياجه .
ثم إن لنا ملاحظات أخرى على هذا المفتطف ومنها:
(1) إن الشاعرة قد استعملت تعبير غلقت ‘سمعي’ مع أننى استقبلته على أنه غــلقت ‘نفسي’، وأحسب أن هذا أشمل ، وأنها ما أحلت سمعى محل نفسى إلا لتجنب تكرار لفظ ‘نفس’ فى البيتين ، ولكن واقع الحال أن الإغلاق الأهم والأصعب هو إغلاق النفس.
(2) نلاحظ أيضا دقة تعبير ‘غلقت’ ، وهو أبلغ وأحسن من تعبيرات أخرى مثل: منعت نفسي، صنت نفسي، حجبت نفسي، فالإغلاق هو فعل شديد الدلالة على ما هو شيزيدي، أكثر من كل ما ذكرنا من بدائل، وكثيرا ما يجرى حوار بينى وبين بعض مريضاتى أو طالباتى حين ألومهن على تأخرهن فى الزواج ، فترد الواحدة منهن تذكرنى أنها بنت، وهل معقول أن تلام على شيء ليس من حقها أن تبادر به، فأنبهها أننا كى نلتقط إذاعة ما فإننا فى حاجة أن يكون مذياعنا ‘مفتوحا’، وأن عليها أن تظل تلعب فى أزرار الاستقبال على مختلف الموجات حتى تلتقط الموجة المناسبة، أما أن تغلق المذياع أصلا ، ثم تشكو (أو أشكو أنا نيابة عنها) أنها لم تجد من يطلبها، فى حين أنها لم تفتح مذياعها لتنصت أصلا إلى إشاراته المحتملة، فهذا هو المرفوض.
(3) نلاحظ أخيرا أن المرأة هنا رفضت أن تكون مناخا، حتى لأسد، ولم تشر إلى البديل (وفى الأغلب لأنها لم تعرف ما هو)، ذلك أن الوضع الشهير للمرأة كمتلق ليس سلبيا كما يبدو لأول وهلة سواء فى الممارسة الجـنسية ، أو فى الحياة العامة، والمرأة (والرجل يساهم فى ذلك) يصعب عليها أن تفرق بين الوعاء الذى يلقى فيه بالأشياء، وبين الرحم الذى يحتوى الجنين النامي، فالمرأة حاوية للحياة ، وهى خالقة لها فى هدوء بيقين بيولوجى رائع، لكن هذا الاحتواء الحانى المبدع لا يحترمه الرجل عادة ، وبالتالى يجعلها تنفر منه بشكل أو بآخر ، حتى يبدو دورها سلبيا ، مجرد مكان للإناخة، وهنا تقفز اللا ألف مرة، ويحتد الرفض، دون البحث عن بديل علاقانى أرقي، أو هو يحتد ليعلن العجز عن ذلك تماما كما هو الحال هنا.
(4) كما يبدو لنا أن هذا الرفض ‘مبدئي’ قبل الاختبار، وهو يختلف عن رفض التى تتزوج (قسرا أو بالصدفة أو بزعم حب قصير العمر) ثم إذا بها تكتشف سلبية زوجها أو بلادته أو قسوته أو اعتماديته، فتنفر منه بعد خبرة حقيقية ، ذلك الأمر الذى تمثل فى شعر عربية أخرى ، حمـلت من مثل هذا الزوج البليد، فراحت تنعى حظها وهى تقوم بعملها المنزلى ناظرة إلى بطنها الممتلئة منشدة.
’وما هند إلا مهرة عربية سليلة أفــراس تحللها بغل
فإن ولدت مهرا فلله درها وإن ولدت بغلا فجاء به البغل (3)
كما أن المثل العامى الذى يقول :’قالك إيه يحرر النسا قال بعد الرجال عنهم إنما يلخص باقتدار ذلك النوع من الحرية الذى يتحقق بالحرمان، وهو حرمان مختار أبىّ رائع ..إلخ لكنه حرمان على كل حال، ثم إن المرأة قد تكون على حق حين يتخلى الرجال عن أسودتهم، أو يكونوا أسودا ولكنهم يصرون على استعمال المرأة مناخا، فلا يعودون أسودا، فيختفى الرجال كرجال ، ويصدق مثل آخر يقول:‘قالك إيه عيب الرجال قالت قلتهم.
…..
(ونكمل استكمال “الموقف” الأربعاء القادم)
[1] – مجلة إبداع ، العدد التاسع ، سبتمبر 1997، ص49.
[2] – فضلنا تعريب لفظ Schizoid إلى شيزيدى بدلا من الترجمة الخاطئة شبه فصامى وكذلك هذا أفضل من الاختزال المخل إلى لفظ انطوائى والظاهرة الشيزيدية تعنى عجز الإنسان عن عمل علاقة بالآخر، وهذا العجز الظاهر هو نوع من الاختيار الغائر فهو فى عمقه يشمل كلا من العزوف عن عمل هذه العلاقة، والخوف منها فى آن (انظر بقية المتن)
[3] – كتبت هذين البيتين من الذاكرة ثم عثرت على أصل لهما مختلفين، لعله الأصح لاختلاف القافية، تقول الشاعرة حميدة بنت النعمان بشير
وهل أنا إلا قمرة عربية سليلة افراس تحللها بغل
فإن نتجت مهراً كريما فبالجرى وإن يك إقراف فما أنتج الفحل