نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 25-5-2016
السنة التاسعة
العدد: 3190
الأربعاء الحر
عضلة العقل وإيمان الخلية
مقدمة:
هذا مقال نشرته منذ نيف وعشرين عاما، وأحببت أن أعيد نشره (ولم أغير فيه حرفا) لسببين الأول: أننى اكتشفت أن ما أتصور أنه وصلنى حديثا، وحديثا جدا وأتابع نشره فى هذه النشرة اليومية هو قديم جدا، والثانى: أننى وجدت أننا أحوج ما نكون إلى إعادة قراءته.
فهل أطمع فى تعقيب بعد هذه المدة؟
هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ منْ مُتَـرَدَّمِ .. أم هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بعدَ تَوَهُّـمِ
24-5-2016
بكل شجاعة نشرت هذه الصفحة فى أهرام 22/10/1995 بعنوان “حول استحالة الإلحاد بيولوجيا” ما كتبته عن تغييب الجسد كوسيلة معرفية نتيجة لتضخم عضلة العقل عند الذهنيين من التنويريين والمتدينين على حد سواء, وقد فوجئت بعدها بتساؤلات واعتراضات لا تنقطع عن ما جاء فى هذا المقال عن عضلة العقل, وإيمان الخلية, ثم استحالة الإلحاد بيولوجيا, ولعل المسألة لا تكمن فى صعوبة المقال بقدر ما هى فى كمية المقاومة التى أثارها, فقد تجرأ هذا المقال على كل من “العقل” و”الإيمان” بخبطة واحدة, فثارت التساؤلات, واحتد الاعتراض, فوجب الشرح, وهذا بعض ذلك:
قال لى أحد المتحررين: هل تريد أن تفهمنى أننى, بعد كل هذا المشوار من التفكير وإعادة التفكير, والتحرر من كل الأوهام والخرافات, والأفيون, هل تريدنى أن أصدق أن خلاياى ما زالت مؤمنة بالرغم منى؟ إسمح لى !!
فى حين قال لى متدين عقلانى بنفس الحماس: إذا كانت خلاياى هكذا مؤمنة تلقائيا, فما هو الفضل الذى يمكن أن أعزوه لنفسى حين آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله, إنك بهذا تساوى بين المؤمن والملحد مادامت خلايا الإثنين مؤمنات بالتساوى.
أما ما عنيته بخطورة الاكتفاء بعضلة العقل فهو السلبيات التى انتهت بنا إليها كل من الثورة الصناعية, والمنهج التجريبى المختزِلَ فَرُحْنَا - مقلدين لا مبدعين- نواصل ممارسة حياتنا من خلال إعلاء قيمة التنظير العقلانى, والتفكير التجريدى الرمزى, بحيث تضخمت هذه الأداة المصقولة - العقل- فحلت محل كلية الوجود, وكان المرحوم الدكتور زكى نجيب محمود يحذر د. مصطفى محمود من التقليل من شأن العقل لصالح ما بعد العقل, منبها إياه أننا فى البلاد المتخلفة, إذا ما لم نضع ما هو عقل وما هو عقلى فى المقام الأول فسوف نجد أنفسنا فى مرحلة ما قبل العقل لا ما بعده, أى فى المرحلة البدائية العشوائية الأقرب للخرافة, ونحن لسنا ناقصين.
ورغم اقتناعى بسلامة وجهة النظر هذه إلا أن ذلك لم يمنعنى من انتهاز الفرصة للتنبيه على خطورة التمادى فى تقديس هذا الموقف العقلانى الصرف, وخاصة بعد أن تبناه من هو ليس أهله, فأصبحت المسائل عقلية بقدر ما هى سطحية يمكن إثباتها بظاهر الألفاظ وحل المعادلات, أو حتى بمنهج التجريب, وإعادة الإثبات, بل إن دعاة التدين الحديث أصبحوا يستعملون منطق هذا العقل نفسه وظاهر هذا العلم لإثبات مقولات دينية لها لغتها الخاصة, وعمقها الذاتى, وتوجهها المناسب لها, وذلك فيما يسمى أحيانا التفسير العلمى للنصوص الدينية, أو حتى التفسير اللفظى الساكن لنفس النصوص, وحين استعملت تعبير عضلة العقل كنت أريد التنبيه على خطورة كل ذلك بغية التذكرة بأن الوجود أشمل من مجرد العقل, وأن المعرفة لها قنوات متعددة منها العلم كما نعرفه, أو كما شاع عنه, ومنها تحريك الوعى بكل أشكال الإبداع, ومنها الإيمان بالفطرة والغيب وتنمية وتدريب التجربة الجسدية فى تكامل مع هذا وذاك. ولمزيد من الشرح أقدم هذا المثل:
إننا إذا أفرطنا فى استعمال ”عضلة العقل” على حساب التجربة الحيوية والممارسة التى تشمل كل الوجود الجسدى والوعى الخلاق, فإن النتيجة ستصبح أشبه بالرياضة التى يسمونها خطأ جمال الأجسام حيث تنمو فيها العضلات بشكل شديد التحديد شائه الجمال, ثم يترهل بطلها بمجرد أن يتقدم به العمر أو أن يكف عن حمل هذه الأثقال وعن الوقوف أمام المرآة.
وأحسب أن ما حدث لبعض جوانب الحضارة الغربية من سلبيات هو نتيجة لمثل ذلك: فقد أوصلهم تقديس حرية العقل والفكر المجرد إلى اتباع نتائجه ومنطقه على حساب كل من الإيمان والطبيعة, وقد برر لهم هذا وذاك قبول وإقرار أنواع من السلوك لا جدال فى أنها ضد نماء الفرد وتطور النوع معا, ومثال ذلك قبول الشذوذ الجنسى باعتباره فطرة بديلة (ليس فقط قانونيا, وإنما اجتماعيا وسياسيا وحتى علميا فهو لم يعد يدرج ضمن الاضطرابات النفسية أصلا), ومثل استسهال الإلحاد, ومثل عبادة سطحية المنهج وألعاب الإحصاء.
هذا عن تعبير “عضلة العقل”, أما عن إيمان الخلية, وما ارتبط بذلك من فرض أن الإلحاد استحالة بيولوجية فهذا يستوجب شرحا يقول: إن الإنجاز المعاصر فى علوم الوقاية, وعلوم الوراثة خاصة أصبح يتناول الخلية باعتبارها كائن حى له قوانينه الخاصة, وإرادته الخاصة, وذاكرته المتميزة, وقدرته على الاستيعاب بل على القتل والانتحار, وقد فسروا بذلك أمورا كثيرة بما فيها بعض أوجه الهندسة الوراثية وتفسير النمو السرطانى, كل ذلك بقوانين بيولوجية محكمة تزداد اتساعا وعمقا يوما بعد يوم, ومن هذا المنطلق, وبلغة التوازن الحيوى, فإن اتساق نظام هذا الكائن المتكامل المسمى الخلية مع كلية الجسد ومستويات العقل من ناحية, ثم قياس امتداد توازنها فى اضطراد إلى التناغم مع نظام الكون الأعظم, من ناحية أخرى, كل ذلك ينبهنا إلى معنى التناسق الإنسانى الحيوى مع الكون الأعلى, سعيا إلى وجه الله سبحانه.
وبناء على هذا الفرض فإنه لكى تحيا الخلية لا بد أن تحافظ على سلامة قوانين التوازن والذاكرة البيولوجية على كل المستويات, أى أن تمضى فى تناسق عبر كل دوائر الوجود, وبلغة الإيمان فإن دوائر الوجود ممتدة إلى الإيمان بالغيب حتى وجه الله, فإن خالفت الخلية قوانينها: ماتت, من هنا جاءتنى فكرة استحالة الإلحاد بيولوجيا.
ثم يأتى بعد ذلك دور عقل ووعى الإنسان المسئول, فإن هو تصالــح على خلاياه (فطرته) وحذا حذوها, وأدرك امتدادها إلى ما بعدها فى الغيب حتى وجه الله, أصبح إنسانا مؤمنا مثله مثل خلاياه, وأصبح وجوده الحيوى مصدرا لتعميق إيمانه, بالصورة التى أنزلت عليه من ربه, كل حسب موقعه فى التاريخ والجعرافيا, أما إن غلبت عضلة عقله واغترت حتى انفصلت عن سائر وجوده, فأصرت أن تتثبت بقوانينها المحدودة من وجود هذا الامتداد وقواعده, ثم فشلت, فإن مثل هذا المسكين قد يخاصم توازن خلاياه حتى ينكر اتساقها, وهارمونيتها, وامتدادها , ويتصور – بائسا- أنه نجح أن يلحد, مكتفيا بعضلة عقله عن إيمان خلاياه وعن تكامل وجوده, ولعل حالات الإلحاد الحاد, والإلحاد الفردى, والإلحاد الذهنى التى تنتهى بالانتحار هى خير إعلان عن هذا الخصام المهلك بين عضلة العقل وإيمان الخلية (المثال من تاريخنا المعاصر هو انتحار إسماعيل أدهم, ومن الأدب العالمى: انتحار سمردياكوف الإبن غير الشرعى فى الإخوة كارامازوف “ديسويفسكى”), إلا أن هذا لايعنى أن كل ملحد هو عرضة للانتحار فردا, لأنه حين تسود عضلة العقل على تكامل الوجود على الجماعة كلها فيقر المجتمع هذا الانفصال بين الخلايا المؤمنة والعقل الناشز, يصبح الانتحار المطروح هو الانتحار الجماعى, ثم الانقراض.
خلاصة القول: إن إيمان الخلية إنما يعنى أن الفطرة السليمة هى الأصل, وأن الإيمان لا يحتاج أن يبدأ بالإثبات والتبرير بقدر ما يحتاج إلى استلهام عمق هذا الوعى بالتوازن والامتداد معا, ولعل ابن طفيل فى أطروحته “حى ابن يقظان قد حاول أن يثبت أن كلا الطريقين يوصل إلى نفس التوازن الإيمانى, كذلك لم يهمد نجيب محفوظ بكل لغاته - من أول “زعبلاوى”, مارا بالطريق وأولاد حارتنا فالحرافيش حتى عبد ربه التائه فى أصداء السيرة الذاتية – أن يؤكد على تواكب وسائل المعرفة: عملا على تعميق الفطرة وإثراء الوعى سعيا إلى وجه الحق سبحانه وتعالى.