نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 6-7-2016
السنة التاسعة
العدد: 3232
الأربعاء الحر:
حديث عن الإعلام والمسلسلات والناس (1)
قبل الحديث:
كل عام وأنتم ومصر والبشر الطيبيين بخيرٍ ونفعٍ وإبداع.
الحديث:
(1) معظم الأعمال الدرامية التى طلت علينا فى رمضان تدور حول جرائم القتل والعنف .. فهل ترى إن تلك الأعمال إنعكاس لما يحدث فى المجتمع أم ما يحدث الأن من جرائم تبدو غريبة علينا قد تكون مأخوذة من أفكار السينما والدراما؟
د. يحيى
لا أخفى عليك أننى لا أتابع هذه الأعمال الدرامية لا فى رمضان ولا فى غير رمضان، وبالتالى فليس من حقى أن أحكم لها أو عليها، وأنا غير راض عن انفصالى هكذا عن مشاركة الناس فى اهتماماتهم العادية، لكن وقتى لم يعد يسمح إلا باستعمال قنوات الأطفال كخلفية أثناء عملى: “صورة بدون صوت” (كوكى، ستون، سى إن العربية وغيرها)
واستنادا إلى ما جاء فى السؤال من أن “معظم الأعمال الدرامية تدور حول القتل والعنف” فهذا يحتاج أولا إلى إحصاء دقيق للمقارنة بينها وبين الأعمال الأخرى: الرومانسية وغيرها، وفى رأيى عموما فإن مجتمعنا مازال آمِنًا نسبيا، ولا أستطيع الزعم أن ما أسمع عنه من عنف وجرائم فى الدراما هو الصورة الحقيقية لمجتمع مكافح أغلبه يزرع، ويرمى خرسانة، ويهاجر سعيا للرزق، ويصلىّ لله غالبا ويدعوه ليل نهار، وبرغم تحفظى البادئ فسوف أسمح لنفسى بالقول: إن هذه الدراما – إن صدق ما فى السؤال- لا تمثل الشعب المصرى حتى مع إشاعة تدهور قيمه وتراجع أخلاقه.
(2) آلا ترى أنه يبدو غريبا آلا يوجد عمل درامى واحد الآن يبعث على الأمل والتفاؤل أو حتى السلوك السوى وكأن الموضوع مخطط له مسبقا ؟
د. يحيى
برغم أننى لا أتابع ما يعرض كما ذكرت، فأنا أتحفظ على حكاية أن الموضوع مخطط له مسبقا وأحاول التنبيه إلى تجنب مثل هذه التفسيرات: ليس لأنها تتصف بما يسمى التفكير التآمرى، فأنا لست ضد التفكير التآمرى، فهو حذر واجب، ثم إن رد التأمر لا يكون إلا بتآمر مضاد، لأنها حرب دائرة بين الخير والشر، بين الناس والمؤسسات المالية طول الوقت، ثم إنى لا أصفق كثيرا للدراما التى تركز على الأمل بشكل مباشر خوفا من أن تنقلب المسألة إلى تسطيح وتلويح بأملٍ بعيد عن الواقع، الدراما الجيدة تبدأ من الواقع، وتوصل الرسالة وتحرك التوجُّه إلى الفعل والمسئولية بدءًا من الآن، أما الرمانسية الحالمة فى انتظار الأمل من مجهول غامض فهى لا تناسب مرحلتنا الحالية.
(3) هل تعتقد إن مثل هذه الأعمال القاتمة قد تسبب الإكتئاب أو إضطراب لمن يشاهدها ؟ هل يعد الإكتئاب استعداد نفسى أم أن ضغط العوامل الخارجية يمكن أن يؤدى لتلك الحالة المرضية؟
د. يحيى
الاكتئاب ليس مرضا دائما، والعمل الدرامى الجاد حين يصوّر واقعا مؤلما يقاس نجاحه بمدى الألم الذى ينقله للمشاهد حافزا إلى العمل والتغيير، ومثل هذا الألم لا يصح أن نسميه اكتئابا، إن اختفاء الحزن فى ظرف مثل المأزق المتحدى الذى نمر به هو نوع من البلادة واللامبالاة، وأنا لا أوفق على وصف شعب بأكمله بالاكتئاب المرضى، فالمرض النفسى بتشخيصاته المتنوعة لابد أن يظل وصفا لحالات الأفراد، لذلك فأنا أرفض تعبير “الاكتئاب القومى” فهو ليس تعبيرا علميا، وهو لا يفيد فى شىء إلا فى إهانة كل من المرضى والشعب فى نفس الوقت.
(4) “فرويد ” عرف الصحة النفسية بقدرة الإنسان على الفعل والحب .. فما هو تعريفها من وجهة نظرك وهل أصبحنا نحن شعب غير قادر لاعلى الفعل ولا على الحب ؟
د. يحيى
برغم اختلافى مع كثير من فكر فرويد ونظرياته، فإن هذا التعبير هو من أدق وأحكم ما ختم به فرويد فكره وحياته، فقد صرح به فى آخر أيامه وكأنه يلخص تاريخا حافلا من البحث فى أغوار النفس الإنسانية، ونص التعبير كان بصيغة الفعل “أن تعمل، وأن تحب” وهى صيغة أكثر دلالة وحفزا To Love and To Do، وقيمة “أن تعمل” قد تراجعت عند معظم شعبنا بشكل منذر، وأيضا قيمة “أن تحب”، العمل الذى توصف به الصحة هو: “مَلْءُ الوقت بما هو أحق بالوقت”، والحب المقصود أيضا ليس هو الغرام والهيام، وإنما هو الرعاية والمسئولية والاستمرار مع “آخر” تواصلا برغم اختلافك معه، الاستمرار بكل عدل واحترام وتكافل متبادل.
(5) ترى لماذا يصر الإعلام والدراما على إظهار الشباب فى مصر إما ملحدين أو متطرفين دينيا .. فهل تلك النماذج أصبحت هى السائدة بالفعل ولو لم يكن الأمر كذلك فما مدى خطورة التركيز عليها؟
د. يحيى
هذا تعميم أحذر منه أيضا، وبما أننى لا أتابع الإعلام مؤخرا فلا أستطيع أن أنفيه، لكن يبدو أن السؤال مستمد فعلا من كثير مما يعرض مؤخرا فى صورة مسلسلات أو غيرها، فإذا كان الأمر كذلك فهو خطأ فى التخطيط الإعلامى وأيضا نقص فى المسئولية، على أنه توجد نماذج مشرفة من الشباب من أول الرياضة حتى الإبداع والتفوق، سواء على المستوى الجماعى (كرة اليد مثلا) أو المستوى الفردى مثل الاسكواش (والأبطال المصريين فى نوادى كرة القدم فى الخارج)، الخطورة التى يتعرض لها الشباب لا تأتى من تفاهة المسلسلات بقدر ما تأتى من الانسياق وراء عقلية القطيع، واستسهال التقليد الأعمى للقيم المستوردة من الخارج (الخليج والغرب على حد سواء).
(6) لقد سبق وصرحت فى أحد الحوارات التليفزيونية إن كل المجرمين عقلاء .. فكيف يكون عاقلا من يلقى بالقنابل على الأبرياء ويقتل ويفجر ناسا لاذنب لهم؟
د. يحيى
إن وصف هؤلاء الذين يقتلون الأبرياء ويفجرون الناس بأوصاف مرضية هو إهانة للمرضى من ناحية وتبرير لتصرفات هؤلاء المجرمين باعتبارهم مرضى غير مسئولين من ناحية أخرى، المجرم مجرم وليس مريضا، والقاتل قاتل سافل وليس مريضا، وحتى المريض هو مسئول عن اختيار مرضه حلاًّ لضائقته أو هربا من آلامه، ونحن نواجه المريض بذلك ليس فى صورة اتهام له، ولكن احتراما لقدراته، وحين يشعر المريض أنه مسئول عن مرضه، ويطمئن إلى معالِجـِهِ، فإنه يساهم ويصبح مسئولا عن شفائه بالعدول عن اختيار المرض حلا، والاسهام إيجابيا فى العودة إلى اختيار الصحة.
(7) تاريخ الشعب المصرى يخلو من جرائم الدم المهيبة التى نسمع عنها الأن .. فهل هذا العنف يؤكد على أننا تعرضنا لحالة إضطراب نفسى آدى الى خلل فى سلوكياتنا؟
د. يحيى
الفراغ، وغياب القدوة، والاستهانة بالكبير، وابتذال الوقت، والاستعجال، والاستسهال، كل هذا هو الذى أدى إلى السلبيات التى لا ينكر أحد أنها زادت وخاصة لدى الشباب، ولا يصح البحث عن اضطراب نفسى تفسيرا لكل ما آلت إليه أحوال الناس، وفى مقدمتهم الشباب بهذه المباشرة، وإلا سيصبح المرض بدوره تبريرا كما ذكرنا.
(8) بماذا تفسر إنتشار رجال الدين وظهورهم فى الإعلام وكأنهم نجوم سينما، وأيضا إدعاء المجتمع إنه متدين وفى نفس الوقت نحن من أكثر دول العالم التى بها فساد ورشوة وعنف .. آلا يبدو هذا تناقضا ؟
د. يحيى
الدين فى مصر، وخاصة الدين الإسلامى يمر بمحنة تحتاج إلى جهد وإخلاص كل مؤمن بالله، أن يعود إلى ربه، وأن يتق الله فى تاريخه، وأن يحترم فطرته ويواصل الحفاظ عليها بأبسط وأنقى العبادات والعمل والدعاء والالتزام “ربى كما خلقتنى” الدين فى مصر ليس دينا واحدا، فهناك “الدين الشعبى”، و”الدين السلفى”، و”الدين الرسمى”، و”الدين السلطوى”، و”الدين المؤسساتى”، و”الدين السوقى”، (من سياسة السوق)، وأخيرا وليس آخرا “الدين السياسى”، وكثير من ذلك يبعدنا قليلا أو كثيرا عن جوهر الإيمان، وقد يفسد علاقتنا بربنا بشكل أو بآخر.
أما بالنسبة للرد على السؤال تحديدا فلا يمكن التعميم على كل الدعاة الذين يظهرون فى الإعلام ووصفهم بالسعى للنجومية، فهناك من الأفاضل من يجتهد فى تنوير الناس ويعلمهم كيف يحسنون علاقتهم بخالقهم، التى هى هى علاقتهم بغيرهم، التى هى هى علاقاتهم بقيم “الوقت” و”العمل” و”العدل” و”الرحمة”.
أما حكاية إشاعة أن الشعب متدين ومع ذلك هو شعب بكل هذه السلبيات الواردة فى السؤال فإنه أمر يدعو للعجب والتأمل فعلا، ودعينى أذكر لك أننى سألت مؤخرا طالبا عندى فى العيادة فى المرحلة الثانوية عن نتيجة امتحانه فقال: إنه نجح، وقد اعتدت مؤخرا أن ألحق ذلك بسؤال آخر يقول: “بغش أو بدون غش”؟ وكانت أغلب الإجابات تأتينى “بغش طبعا”، وأبتلعها حائرا متألما، أما الجديد الذى أحكى عنه الآن فهو أن هذا الطالب الذى أحكى عنه أجاب “بغش إن شاء الله”!!!، فهل هذا هو الدين الذى تربى عليه أن الغش هو بمشيئة ربنا، بينما نبينا عليه الصلاة والسلام ينبهنا أن “من غشنا فليس منا”؟!!
(9) أعلم إنك تخلق لنفسك عالما خاصا بعيدا عن طاقة المجتمع السلبية بأفلام الكارتون والموسيقى .. فكيف يمكن لكل واحد فينا أن يخلق لنفسه عالما خاصا يفصل به نفسه عن هذا الواقع الأليم؟
د. يحيى
أنا لا أوافق أننى أفعل ذلك لذلك، ولا أوصى أن يقيم كل واحد لنفسه عالما خاصا، فنحن مسئولون عن بعضنا البعض طول الوقت، والانفصال عن الواقع الأليم هو هرب قبيح، فى حين أن معايشة ألم الواقع هى حفز للبدء فى تغييره، أما عزوفى عن متابعة الإعلام العادى: الرسمى والخاص وتفضيلى لفضائيات الأطفال “صورة بدون صوت” فهذا يرجع إلى ما وصل إليه الإعلام من ناحية وإلى تعرفى مؤخرا على روعة ما تقدمه هذه البرامج التى تتعامل مع الخيال المبدع للأطفال (داخلنا وخارجنا)، إننى أشعر من سرعة إيقاعها، ودقة تعبيرات الوجه والجسد فى الحركة، وصدق مفاجآتها – خاصة بدون صوت – أنها تحرك خلفية وعْيِى فأمضى فيما أعمله بتركيز طيب مدعوما بهذه الخلفية الصامتة صوتا المُتـَعـْتـِعَة وعْيٌا. أما عن الموسيقى فللأسف أنا لا أتابع بقدر كاف دور الموسيقى المتعددة المستويات والأصوات (البوليفونية): (السيمفونيات) لعدم تعودى ذلك، وأعترف أن هذا نقص أخجل منه تماما، ولو أتيحت لى الفرصة وكان لدىّ الوقت الكافى لبدأت أخصص وقتا كافيا يسمح لى أن أنهل من هذه اللغة العالمية المشتركة القادرة على تحريك الوعى البشرى بما يستحق ليتوجه إلى هدف مشترك ربما ينقذ الإنسانية من مزيد من التردى إلى ما تتجه إليه، (ومثل هذا هو ما صرح به تشارلز داروين فى آخر أيامه!!).
[1] – مجلة الشباب التى تصدر عن مؤسسة الأهرام.