نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 4-10-2017
السنة الحادية عشرة
العدد: 3686
الأربعاء الحر
أحوال وأهوال (65)
قصة جديدة
النور والورقة
لم أكد أفتح عيني حتى مرق أمام عينىّ شعاع أزرق راح يزداد اتساعا وإحاطة فى نعومة هادئة، وقوة بادية، دون تنافر، وهو لا يثبت على حال، حاولت أن أتحقق هل أنا ما زلت نائما أم أننى استيقظت، أم اننى بين هذا وذاك، زاد الألم فى أسفل أحشائي فعرفت أنه قد حان موعد الذهاب لأفرغها بعد أن اصبحت هذه العملية المتكررة طول الليل مفسدة لكل ما أكون فيه بلا استئذان، حاولت أن أؤجل الاستجابة لكن الألم راح يتزايد بإصرار متسحب، نثرتُ الغطاء من على جسمى بعنف حتى لا أتردد، غاب عنى النور الأزرق فجأة وكانه احتج على نترة الغطاء، فتأكدت أننى أصبحت يقظانا بما يكفى لأداء المهمة.
أثناء ذهابى متعجلا تعثرت بعتبة الباب وانكفأت للأمام حتى كدت أقع على وجهي لكننى اعتدلت فى آخر لحظة، وزادت يقظتى وغيظى معا، استقمتُ وأسرعت الخطى تسبقنى سيقانى وانا ألاحقها، فاطمأننت على سلامتها، وحمدت الله وشكرتها.
حين عدت إلى السرير بعد الانتهاء من المهمة القهرية، لم أكد أضع رأسى تحت الوسادة لأعاود النوم قبل أن يهرب إلى غير رجعة حتى دق جرس المحمول فجأة فانزعجت وقررت ألا أرد مهما كان الطالب، وتمنيت ألا يواصل السخف، وفعلا سكت المحمول ولم يعاود الرن، فقررت ألا أنظر فى اللوحة للتعرف على الطالب حتى الصباح، ولم أحاول أن أمنع الاتصال تماما منتظرا اختبار مدى إصراره، لكن يبدوا أنه كان غير مصر وربما اكتشف سخفه وأنها ساعة غير مناسبة .
لم أكد أغمض عينى من جديد وأضع الوسادة على رأسى حتى دق جرس الهاتف العادى، فتصورت انه هو هو يحاول عن طريق آخر، ولا أعرف لماذا قررت أن أرد هذه المرة ، فإذا بصوت يسألنى عن موعد إقلاع الطائرة المغادرة إلى أبى ظبى، لم أعتذر بخطإ الرقم، وإنما وجدت نفسى أجيبه بسرعة بأنها أقلعت منذ ساعة ونصف، فسألنى بنفس اللهفة عن موعد الطائرة التالية فقلت له أن يتصل بى صباح الغد حتى أكون قد عرفت الموعد بدقة، ثم وضعت السماعة وابتسمت، أسرعت إلى السماعة من جديد ربما لأعتذر، لكن كان الأوان قد فات، وعاودتنى الابتسامة رغما عنى، لا أدرى لماذا أو لمن !!
حاولت أن أواصل النوم ولكنه كان قد ذهب إلى غير رجعة على ما يبدو، استسلمت للقدر وقمت إلى مكتبى وأنا أستعيد ما رتبتـُه قبيل النوم من واجبات مما يحتاج إلى تجهيز أو إكمال أو مراجعة عاجلة فور استيقاظي، رحت أقلب فى الأوراق كما رتبتها قبل أن أنام مباشرة ، فلم أعثر عليها بنفس الترتيب الذى تركته بها، شككت فى ذاكرتى، حاولت أن أتأكدت من شكوكى وأن أبحث عن أى الأوراق يمكن أن تكون قد اختفت، وتذكرت ورقة منفردة كنت قد خططت فيها بضعة سطور كأنها الشعر، ثم نحــَّيتها جانبا وهممت أن امزقها، ثم قررت أن أحتفظ بها لعل وعسى، وضعتها بحرص تحت الأوراق جميعا، لا أعرف ما الذى دفعنى للبحث عنها أولا من بين كل ما ينتطرنى، لم أجدها، فتعجبت، لكننى التفتُّ بغير قصد إلى سلة المهملات فخيل إلىّ أنها قابعة فيها وحيدة منكسرة، مددت يدى والتقطتها فإذا بها هى، تأسفتُ لها وأنا أتساءل من فعل بها ذلك، ثم رحت أفردها وأنا أملـّس عليها وأعتذر لها، ثم عدت أنظر لما سُطر بها وأتعجب على العنوان الذى لا أذكر أننى كتبته: “السيمفونية السابعة: إليه”، وأنا ليس لى فى هذا النوع من الموسيقى، ومازلت أندم طول عمرى على ذلك، ملكنى حب استطلاع لأقرأ ما بها، كأنى لست كاتبها، قرأت المكتوب مرة وأخرى، ولم افهم شيئا، لكن تلك السطور القليلة راحت تشع فى وعيى مشاعر طيبة عميقة ليس لها اسم، ولاح لى عنوان قصيدة لصلاح عبد الصبور، يصف فيها تشكيلات رائعة من الحزن لا يعرفها كل النفسيين أطباء وغير أطباء، ولا أعرف لماذا اختار لها هذا العنوان البعيد ظاهريا عن محتواها، كان عنونها : “أغنية إلى الله”، عدت أملـّس على السطور فى الورقة وكأنى أهدهدها وأنا أعتذر لها من جديد، خطر لى أن أكمل المكتوب فلم أستطع أن أضيف حرفا واحدا.
قررت أن أحتفظ بها داخل أحد كتبى التى انتهيت من طبعها مؤخرا وأنا فرحٌ بها، اعتذارا عن الليلة التى قضتـْها فى سلة المهملات، لكن فجأة، وقبل ان أنفذ ما اعتزمت، هبت نسمة عفية من النافذة المفتوحة أطارتها من على المكتب إلى الخارج مباشرة، كدت أقوم لأعدو خلفها، لكنها كانت أسرع منى وكأنها تهرب محتجـَّة وترفض اعتذارى، كدت أقل عقلى وأنزل وراءها إلى الشارع فى هذه الظلمة وخيل لى أن نور الشعاع الأزرق سوف يعود يضىء لى الطريق إليها، لكننى عدلت وأنا أشعر بالخجل والأسف معا.
قررت أن أحاول معاودة النوم ولو نصف ساعة، طاوعنى هذه المرة وكأنه يرأف بحالى، ثم بعد بدايته مباشرة سمعت صوت نشيج مكتوم قبل أن أتبين أنه صادر منى، وحين جاءت كفى على الوسادة بجوار وجهى شعرت كأنها مبتلة قليلا،
مسحت وجهى، واستغرقتُ: حامدا، واثقا، راضيا، حزينا، ممتلئا .