نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 14-11-2018
السنة الثانية عشرة
العدد: 4093
الأربعاء الحر
أحوال وأهوال
مقتطف من كتاب “الناس والطريق”: “الترحال الأول”
نهاية الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم”
…..نكاد نوصى الأرض خيرا بمن يطأها بعدنا فى أية صورة بشرية طيبة، وترد علينا الأرض والأبنية والشجر والأسيجة أنْ: بالسلامة، فنشكرها،
نمضى لنصل نيس. “فالمدينة الجديدة” ـ فِيلْ نِيفْ ـ، ونوصل الأولاد إلى معسكرهم؛ لأعود أنا وزوجتى إلى الموتيل الجديد الذى انتقلنا إليه مضطرين، وهو أحدث وأرحب، اتفقتُ فيه مع صاحبته على استقبال من أشاء كيف أشاء، حتى الأولاد، وأن يستعملوا الحمّام ليستحموا حمام الوداع، إذا شاؤوا، فالرحيل غدا، من يدرى أين ومتى سنجد الماء الساخن مرة ثانية، وأتذكر كيف كان الاستحمام فى بلدنا للأطفال موسمياً فى الأعياد. كذلك كان أكل اللحم وتنظيف المنازل وخاصة الشُراعات أعلى الأبواب، كان كل ذلك موسميا أيضا!!.
ونتفق على الاستيقاظ المبكر لشد الرحال إلى باريس، فتهفّ علىّ روائحها.
نداؤها خاص، وريحها واعد.
الفصل السادس: لابد من باريس، وإن طال السفر
…………….
دربى بِكرٌ فوق حصاهُ تسيل دماءُ القدم ِالعارِى
يتبعنى الناسُ الـمِثلي،
ليسوا مثلي.
من مثلى لا يسلكُ إلا دربـَــهْ.
يحفرهُ بأنين الوحدهْ
يزرع فيهِ الخطواتُ الأولىَ
–دوماً أولىَ–
يَرْويهاَ بنزِيفِ الرّؤيْــةْ
……….
الثلاثاء 4 سبتمبر (1984)
كان الاتفاق أن يحضروا “هم” “إلينا” فى الموتيل قبل السابعة صباحا، فيجدونا قد جهزنا، ذلك أننا كنا قد نوينا أن نقطع المسافة إلى باريس (أكثر من 900 كيلومتر) مرة واحدة فى اليوم ذاته، لهذا فقد عادوا إلى المخيم ليلة أمس فى الأتوبيس الصغير، وتعهدوا بلم الخيمة فجراً دون معونتنا؛ ليكونوا عندنا فى السادسة دون تدخل من جانبنا، وقد سارعت بالموافقة على نشاطهم وحماسهم واستقلالهم الواعد، تأكيدا واختبارا لما أردته من هذه الرحلة، وكراهية ًمنى للقيام بوظيفة “المسحراتى” التى تورطت فى ممارستها بثقل شديد منذ صغرى، وكأنى الموكل بإيقاظ سائر البشر بدءا بالأقربين من عائلتى، صغارا وكبارا. ماعدا أبى، نومى خفيف، وثقتهم فىّ كبيرة، وحبهم للراحة والدفء والاعتماد أكبر من قدرتى على دق طبلة السحور ـ بلا طبلة ـ على دماغ كل واحد حتى يتفضل بالاستيقاظ.
كانت أمى تثق فى قدرتى على إيقاظ سائر أفراد الأسرة للسحور فى رمضان، مع أنى أصغر “الصبيان” لماذا؟ لست أدرى، وكنت أسمع ما لا يسر من النائمين الذين أوقظهم، وهم نائمون، وهم يستيقظون، ثم بُعَيْد الاستيقاظ المؤقت، ثم قبيل معاودة خطف نومةٍ محتجَّة بعد تقلّب غاضب، ما ذنبى أنا؟ ثم لابد من المحاولة من جديد بناء على تعليمات أمى، أو على ثقتها فىّ، يا ذى الثقة!! أحياناً كنت أكره رمضان خوفا من تورطى فى نفس الدور، وكثيرا ما أعلنت أمى أنى سوف أصوم دون سحور، فكانت لفرط ثقتها (لست أدرى لماذا) ترد أنه و”ماله يا حبيبى صحّيهم ونام”.
ثم إنى ظللت أقوم بهذا الدور لما كبرت، حتى مع أولادى. ومن فرط رفض دور المسحراتى هذا توقفتُ عن السحور نهائيا.
أظن أننى احتفظت ـ أيضا رغما عنى ـ بالجزء الأهم من وظيفة المسحراتى وهو الإيقاظ، فأتصور (الآن) أن كل ما أكتبه وأمارسه وأحاوله بكل أداة وشكل هو محاولة إيقاظ لنائم قد تطول نومته إلى غير عودة، أو هذا ما أوهم نفسى به على الأقل.
كما كرهت وظيفة المسحراتى طفلا، تحفَّظت ضد وظيقة المسحراتى إبداعا ورؤية، لا أظن أن الإبداع يمكن أن يؤدى وظيفة الإفاقة والتحريك إذا كان بهذه المباشرة “المسحراتية”. النبوة وحدها هى التى نجحت فى هذه المهمة مباشرة، مع أن الذين ورثوها، مثل أغلب قادة الثورات، قلبوها تنويما منظما، وليست تحريكا متجددا.
قفز إلى ذاكرتى نص تسرّب إلى إحدى تشكيلاتى التى ضمنتها ديوانى “أغوار النفس” “قراءة” فى عيون الناس والمرضى والأصدقاء”، يقول المقطع الذى حضرنى الآن ” واللى يصحّى الناس يا ناس أكبر غلط”.
يعرف الأولاد عنى كرهى لهذا الدور، دورالمسحّراتى، فتبرعوا أن يكونوا هم البادئين بالصحو، فالحضور إلينا حيث نقيم فى الموتيل الجديد، بعد أن يلموا الخيمة ويضعوا الأغراض فى الحافلة، ولهذا أوصلونا هم إلى الموتيل، وأخذوا الحافلة وانصرفوا إلى المخيم. قلت لنفسى: “هكذا الكلام”، و”لسوف أرى”.
ولكنى لم أر إلا ما لا أحب.
ذلك أنهم تأخروا صباحاً بعد استيقاظنا بأكثر من ساعة، حتى حسبنا أن شيئا خطيرا قد حدث فأعاقهم عن الوصول سالمين إلى المخيم ليلة أمس. حول الثامنة صباحا بعد الميعاد بساعتين، قلت أذهب إليهم، قبل أن أسمح لنفسى بالانفجار غيظا، حتى الغيظ يحتاج إذناً!!. خفتُ من الانفجار فـىّ أو فيهم، فأخذت أعدو لأروّض أو أكسر حدة العدوان المتحفز قبل أن أصل اليهم، “شكمتُه قائلا: عند المخيم الخبر اليقين”. فإذا باليقين نائمٌ يغط غطيطا يصّاعد من داخل الخيمة إلى خارجها، والشمس تدفئه بالهناءة والشفاء، وحتى الأتوبيس خارج الخيمة كان فى سبات عميق، وقد مالت رأسه ناحية الخيمة، وكأنه يحرسها رغم غطيطه الهادئ الصامت المنتظم هو الآخر، ويرتفع الغيظ فى داخلى أكثر. أنا أعرف عن نفسى أننى حين أمتلئ غضباً إلى هذا الحد أسكن تماما حتى أبدو أهدأ الناس ظاهرا. رُحْت بهدوء – لا أعرف من أين أتانى- أوقظُ واحدا منهم، فواحدة، وكلما أيقظت واحدا قام فزعا وهو ينظر حوله للآخرين ويروح ينقل عينيه بين نور الشمس وظلام وجه العبد لله، ثم يلتفت إلى رفيق خيمته وهو بعُد فى سباته، ثم يقفز واقفا ناظرا إلى ساعته لاعنا المنبـّه المسطول،أو زميلته التى لا يُعتمد عليها، وغيرذلك.
أكاد أجزم أنه لولا أن إقامتى كانت على بعد أمتار منهم لقاموا قبل الفجر.
أنا لا أبرّئ نفسى من هذه الاعتمادية التى أنميها فيهم بثقل “حضورى”،اعتمادية تتغلغل إليهم مجتمعين حتى وهم نيام، ثم ألومهم على ذلك. أنا أتصور أنى أدفعهم إلى الاستقلال دون أن أتخلى عن واجبى، فيصلهم شعورى المضاعف بالمسئولية، فيتراخون حتى فى الاستيقاظ.
[1]- هذا المقتطف هو مغامرة لنشر مقطع مما احترت فى تصنيفه بين “أدب الرحالات” و”السيرة الذاتية” الأمر الذى اكتشفت أنه من صلب تكوين فكرى الذى بنيت عليه فروضى وهويتى، وهو من “كتاب الترحال الأول (حيث يوجد ثانٍ وثالث): الناس والطريق” (الطبعة الأولى 2000)، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net .