الأربعاء الحر: آلام التفاؤل ومسئوليته
نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 11-12-2019
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4484
الأربعاء الحر:
آلام التفاؤل ومسئوليته(1)
أشرت فى مقالى السابق(2) إلى عجزى عن التمتع برفاهية اليأس، ورحت أشجب الموقف المتشائم العاجز المثبِّط طول الوقت، مع محاولة التمييز بين يأس الغلابة المشروع، ويأس المستسلمين النعـّابين الخائب، وبالتالى فقد وصل تلقائيا إلى كثيرين ممن قرأوا المقال أننى أدعو للتفاؤل بلا قيد ولا شرط، فى مواجهة موقف اليأس والتيئيس هذا بكل سلبيته وإعاقته، إلا ان الأمر ليس بهذا الاستقطاب السطحي: فالتفاؤل له ثمنه إن فهمنا حقيقة ما يترتب عليه، واخترنا أن نمارس مسئوليته، وهأنذا أحاول أن أزيد الأمر وضوحا:
طالما أننا ما زلنا على قيد الحياة، وأن خالقها هو الذى سينهيها وقتما يشاء سبحانه، وان اليأس – كما نوهت فى المقال السابق – لا فائدة منه حتى لو بدا هربا مريحا بعض الوقت، فأنا لا أملك إلا أن أتفاءل، وأحيانا أعبر عن ذلك بأننى أعانى مما يمكن أن يسمى التفاؤل المزمن، لأن التفاؤل الإيجابى عندى إنما يكون كذلك بقدر ما يكون صاحبه مسئولا عن تحقيقه، متألما إن عجز مؤقتا عن ذلك.
أعتقد أن حقيقة ما يبعث على التفاؤل حتى الآن إنما يقع تحت سطح الجاري، بمعنى أنه ليس له ما يدعمه يقينا إلا الأمل وحسن النية، وهذا من حيث المبدأ يمكن أن يكون طيبا، لكن التوقف عنده قد يكون سلبيا تماما، لأن الخوف هو أن يحل الأمل محل الفعل، وتحل الغفلة المخدرة محل ضرورة الإحاطة بالواقع المؤلم، أو تحل الوعود البراقة محل البرامج المحددة.
يمكن تصنيف التفاؤل باختصار كما فعلنا فى تصنيف التشاؤم استلهاما من الوعى الشعبي، فنبدأ بتفاؤل الغلابة : وهو ما يطل من حسن نية أغلبية من المواطنين الطيبين أنه: “إن شاء الله خير” وهو تفاؤل طيب مشروع، لكنه إذا اقتصر على الابتسام الرائق، وغض الطرف عن الجاري، والتمادى فى الانتظار، فهو إسهام فى ألا يأتى الخير مهما تأكد الاعتماد اللفظى على أن “فرجـُهُ قريب”، ثم يأتى بعد ذلك نوع دنئ من التفاؤل وهو تفاؤل: “اللى ييجى منه أحسن منه” وهو تفاؤل الانتهازى الذى يعرف الطريق إلى مكسبه الشخصي، من كل نظام، ومن كل مصدر، وهو يقيس موقفه ويحدد موقعه بشطارته وقدرته على أن يأخذ أكبر المكاسب بغض النظر عن الطريقة والمصدر، وعن نوع النظام وتغيير الأحوال، وأخيرا : تفاؤل: “اللى تعرفه أحسن من اللى ما تعرفوش”، وهو تفاؤل الراضى – ولو قهرا – بالأمر الواقع، وهو الخائف من أية مخاطرة تالية، خاصة بعد أن يكون قد لـُدغ من جحور المغامرات السابقة بما يجعله يتمسك بأى مكسب حالي، فهو الأضمن، و”الطيب احسن”!!، و”الخيرة فيما اختاره الله”!! وهو يمتزج قليلا أو كثيرا بما يمكن أن يصنف على أنه التفاؤل القدرى الراضي، سواء كان ذلك من خلال “قدّر الله وما شاء فعل”، أو من خلال “اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه”.
التفاؤل الذى أعانيه وأرحـّب به هو التفاؤل المؤلم المسئول، الذى يبدأ بيقين أن الحياة رائعة بقدر ما نجعلها كذلك، وأن الإنسان بعد أن خلقه الله فى أحسن تقويم، ورده أسفل سافلين، فتح له أبواب الإنقاذ إذا ما آمَن وعمل الصالحات، وحين يتلقى الإنسان هذه الرسالة، فيتصدى لحمل الأمانة، لا يملك إلا أن يملأ الوقت بما هو أحق بالوقت، وإلا فقد خان الأمانة وخاب فى حملها ورضى أن يظلم نفسه جهلا بها، وهنا تصبح بداية الطريق هى ثقة بقدرته على تحمل نتيجة اختياره بكل المسئولية وما يترتب عليها من موقف وفعل، وبداية هذا الطريق هو أن تكون الثقة بالحياة والالتزام بتعمير الأرض هما أساس رفع راية التفاؤل بكل ما يحمل من آلام ومسئولية ومثابرة.
إن ما يدعو للتفاؤل عندى له اساس صلب دائم، لا يتعلق بحدث بذاته، ولا بمرحلة خاصة، إنه يقين بأن ربنا خلقنا لذلك، وأكرمنا بذلك، وبالتالى فليس لى أن أغلق الأبواب مهما ضاقت السبل، فهو يقينٌ موضوعيّ واقعيّ، لا يتحقق إلا بأن أعمل على أن أملأ دقائقى طول الوقت بما أعتقد أنه يضيف، أو يفيد، أو يصحِّح، وهذا هو السبيل الأول ، وربما الأوحد الذى يبرر يقينى بأن الحال سوف ينصلح، فهو التفاؤل عملا وكدحا فى كَبَدْ.
أخشى ما أخشاه أن يتصور القارئ أننى بذلك أدعو إلى حل فردي، ولعل تفسير موقفى العنيد هذا يأتى من علاقتى بالتطور، الذى يجرى بفضل الله محترِما الزمن وتراكم الإيجابيات، وكفاءة البرامج التى سنها خالقها سبحانه لتحافظ على الحياة، صحيح أننا انحرفنا -نحن البشر- إلى طريق ينذر بغير ذلك، لكن صحيح أيضا أن هناك ما يبذله المحبون للحياة وخالقها (بشكل مباشر أو غير مباشر) عبر العالم)، وهم لا يكفون عن المحاولة والإبداع لإنقاذ الجنس البشرى مما آل إليه.
إن الذى يعى أبعاد الزمن، ويعرف بعض أرقام تاريخ الحياة لا بد أن يحترم من استطاع البقاء من الأحياء حتى الآن، والجنس البشرى من بين هؤلاء، تكتمل علاقتنا بالزمن بتذكر حقيقة علمية بسيطة تنتمى إلى العلم المعرفى العصبى الحديث، وهى أن أجزاء الثوانى توضع فى الحسبان فى تغير وتطور ونمو الفرد والجماعة والنوع.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “….وإن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل” بعد احترام ما ذهب إليه المفسرون والشراح، دعونا نتأمل هذا الحديث الرائع: أفلا يدل ببساطة شديدة جدا على أننا طالما ما زلنا نتنفس، فعلينا أن نحترم الزمن حتى لو كان الزمن قد انتهي!؟، ليس أوقع من قيام الساعة هنا حتى يدرك المرء أنها النهاية وأن الزمن قد توقف، لكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعلمنا أن هذا ليس من شأننا، وأن علينا أن نواصل النظر فى إتمام ما بيدنا، وأن نترك ما بعد ذلك إلى خالقنا، وخالق ما بعد ذلك، إن قراءة هذا الحديث الشريف من هذا البعد يعفينا من كل محاولات التفسير اللفظى المباشر لتعبير – إذا قامت الساعة – وهو لا يحتاج منى إلى تفسير خاص فى هذا السياق، إلا أن ما وصلنى هو كيف نتعلم أن نعمل طول الوقت ونحن واثقون من قوانين أكبر منا، وغيب أرحب مما نعرف، فنواصل.
بالله عليكم أليس هذا مبررا كافيا للتفاؤل الذى أعنيه ؟
هيّا معا !
[1] – نشرت هذه المقالة فى جريدة الأهرام بتاريخ 5-10-2014
[2] – مقالة “ربما تكون عميلا لمصر” نشرت فى جريدة الأهرام بتاريخ 21-9-2014
2019-12-11