مثل وموال
مرة أخرى: الأمثال العامية والمنهج العلمى
(فى التقييم والتتبع)
أولا: فى التقييم
يقول المثل
“إيه عرفك إنها كدبة؟ قال كبرها”
ويقول ألدوس هكسلى إن العلم هو شحذ وتدقيق لما هو منطق عام (المنطق السليم).
ونحن فى هذه المجلة همنا الأول، وربما الأخير هو المنهج، ثم إننا نعلم فى أى منطقة نخوض ونحن نحذر من الاكتفاء باتباع المنهج الكمى التجريبى المغلق، مع أن البديل عن هذا المنهج المحدود هو بديل مرعب ضوابطه أصعب، وإذا كان ألدوس هكسلى يدافع عن المنطق العام Common Sense ويعطيه قيمته التقييمية المنهجية، فنضيف نحن بين قوسين (المنطق السليم)(Sensible logic)، فما ذلك إلا لأننا وصلنا إلى درجة أصبح معها المنطق العام ليس مرادفا للمنطق السليم، المنطق العام مرتبط بشكل ما بمفهوم إحصائى ضمنا، أما المنطق السليم فهو مرتبط بمفهوم الهارمونى والتماسك الداخلى أساسا، (بما يسميه البعض الفطرة الأصلية)
وحتى نشرح بعض ما هو منطق سليم نستلهم أثرا أو معنى حديث شريف يقول:
البر: ما وقـــر فى القلب، وصدقه العقل، واتفق عليه الناس،
والإثم: ما حاك فى الصدر، ونفر منه العقل، وخشيت أن يطلع عليه الناس
وبقياس متجاوز نقول:
المنطق السليم ما بدا متناسقا فى ذاته، نافعا فى استعماله، عاما فى احتمال تطبيقه
فيقفز السؤال التقليدى الهام جدا جدا
يقول: كل هذا يسرى على من؟ يحق لمن ؟ وبأى مقياس تقيسون ما تسمون التناسق، والنفع، والتعميم؟
وحين لا نجد الجواب سهلا، يتصدى المنهج الكمي/التجريبي/ الإحصائى يؤكد أنه هو الأصح ولا صحيح غيره، ولا بديل له.
لكن المثل الشعبى الذى صدرنا به المقال يقول إن الكلام غير معقول غير معقول،=:إن الكدبة (والخطأ المنحرف أو المقصود أو المغرض فى العلم: كذبة كبيرة) هى من قبيل هذا الذى يعتبر غير معقول لعدم تناسبه مع المنطق ومع التناسق ومع ما ينفع الناس، والمثل الشعبى (كما نكرر دائما) هو جماع اتفاق ما، فى مرحلة بذاتها، وهو غير صادق فى ذاته، وغير كاذب فى ذاته، ولكنه إشارة إلى بعض ما اتفق عليه الناس فى وقت معين فى سياق معين. وهذا المثل يؤكد أن المبالغة فى البعد عن المنطق السليم (الفطرة، المعقول، المقبول، المناسب) هو الذى يفسد المصداقية،
واتجاه الأمثال الشعبية للتكمية (تحديد الكمية ) اتجاه متكرر ودال على محاولات دقة الحدس الشعبي، فمثلا ثمة مثل يقول:
كلمة رطل، وعشرة رطل
وهو مثل يستعمل عادة لتقصير الكلام ودرء النقاش (والفصال أحيانا) فهو ينبهنا أن مثل هذه الملاحاة لا تفيد إذ لن تغير من قيمة ما هو معروض أو ما هو مشار إليه، وقد يفسر هذا المثل باعتباره إشارة ضمنية إلى أن القياس بالأدوات المناسبة (الميزان) هو الأصدق من الكلمات التقريبية والعشوائية.
وثمة مثل آخر يؤكد هذا الاتجاه الشعبى نحو التدقيق الكمى يقول
حبة تتقل الميزان، وحبة تخففـه
إذن فالدقة مطلوبة، والمنطق السليم مطلوب، والتكمية (التعامل بالكم) مطلوب والجميع يكمل بعضه بعضا
ثانيا: فى الأبحاث التتبعية والعلاج النفسى
من أصعب الصعب تلك الأبحاث النفسية، تلك الأبحاث التى تحاول أن تحدد المتغير الفاعل المسئول عما يحدث للمريض أثناء العلاج النفسى (التحسن عادة)، كذلك من الصعب تماما أن تنجح الأبحاث بوسائلها الكمية الحالية، فى تحديد ما حدث للشخصية من تغيير أثناء العلاج النفسي، قد تنجح أن ترصد اختفاء أعراض بذاتها، أما الشخصية فثمة أسئلة أعمق وأخطر عن: ماذا؟ ومن أى نوع ؟ وإلى أى مدي؟
ولا يمكن أن نستسلم للرضا بما يمكن قياسه على حساب ما يصعب تحديده، فقد يكون اختفاء الأعراض على حساب بعض السمات النوعية الأكثر أهمية للوجود البشرى مثل القدرة الإبداعية أو الرنين الوجداني، وهكذا.
وفى العلاج النفسى الجمعي، وفى التأهيل الممتد، وفى العلاج الجذرى العميق، يتكلم المعالج عن أن العلاقة العلاجية تعتمد على عاملين يكمل بعضهما بعضا
الأول: موقف المعالج ظاهرا وباطنا، وبالتالى ما يرسله إلى المريض من ‘رسائل([1])’ ظاهرة وباطنة، تساعد، بعد التحريك ومع العلاقة، على إعادة تشكيل بنية الشخصية أساسا، لدرجة قد يتمادى فيها فيفترض أنه كلما كان العلاج عميقا وجذريا، كان التغير غائرا حتى يكاد يكون التغير عضويا، نيورونيا أو خلويا (وجينيا) والثانى: يعتمد على تلقى المريض لهذا الموقف
العلاقة العلاجية العميقة ليست من باب التطمين، أو الإيحاء، أو إتاحة الفرص للتفريغ أو ما شابه وإنما هى تعتمد على تبادل ‘رسائل’ ما، رسائل ترسل أساسا من المعالج ومن جو العلاج العام فى المجتمع العلاجي، وهذا اليقين (الافتراضي) بأن المتغير الأساسى للحصول على التحسن هو مدى عمق وفاعلية وإيجابية هذه الرسائل، هو الذى لا يمكن قياسه بالوسائل العادية، كما لا يمكن قياس فاعليته بداهة، وقد لا تظهر آثار هذه الرسائل إلا بعد مدى طويل جدا (يصل فى بعض الأحيان إلى عشرات السنين)
هنا ينبغى أن يتجاوز الطبيب (المعالج) النفسى الجاد حسابات المنهج السببى الكمى المتعجل، وعليه أن يبحث عن وسائل لتقييم الجهد الذى يبذله، ليواكب ويحافظ على الأمل الذى يسعى لتحقيقه.
وبقراءة متأنية فى الأمثال العامية بدا لنا أن الحدس الشعبى قد نبه إلى مثل ذلك، مثلا نبه أن نرضى بفعل وصول الرسالة حتى لو لم يفضها صاحبها أصلا: يقول: الطلق إللى مايصيبشى يدوش فأى محاولة ليست بلا قيمة حتى لو لم تصب هدفها بتحديد سريع واضح، إلا أن هذا المثل ليس هو ما نعنى فى هذا المقام، لأن المقصود بالرسالة ليس هدفا شعوريا محددا تفصيلا، فالمطلوب هو النتائج الشاملة، والإشكال فى أبحاث التتبع والتقييم للعلاج النفسي، وللعلاج عامة هو أننا قد لا نعرف تحديدا هذا الهدف الخاص جدا فى لحظة بذاتها، فعلينا ألا نكف عن إطلاق الرسائل، حتى لو لم تصب هدفا لا نعرفه، ويمكن أن تكون ‘دوشتها كافية’، أو دالة، وهذا فى ذاته قد يساعدنا على مواصلة المحاولة حتى نصيب الهدف،
لكن ثمة مثل آخر أكثر تبصيرا، يقول المثل الصعب على أهل ‘البندر’
اضرب الطينه فى الحيط، إن ما لزقت علمت
وقد ترددت كثيرا قبل أن أستشهد بهذا المثل، فأنا لا أعلم متى تضرب الطينة فى الحيط، ولا وظيفة ذلك، هل المقصود بضرب الطينة فى الحيط تحبيذ الموقف الإيجابى فى العدوان، أو أنه يشير إلى التعبير القوى الصريح بأى وسيلة، لقد أخذته على أنه كذلك، وقد عشت دهرا، وحتى الآن، أحاول أن أحارب فكرة ‘ التعادلية فى موقف المعالج النفسى والطبيب النفسي، فالذى يصل للمريض سيصل سواء أخفيناه أم أظهرناه، والمريض النفسي، العقلى خاصة، يحتاج إلى مواجهة وإحاطة من معالج ‘له موقف’ فعلا، وهذا الموقف لا بد أن يصل ‘مقتحما واضحا’ للمريض من البداية، يستجيب المريض له أو لا يستجيب هذا أمر آخر، خذ مثلا ‘ يقين الطبيب أن العلاج ممكن وأن الشفاء قادم لا محالة’ على الرغم من الصعوبات والإزمان وأمراض المجتمع’، هذا موقف متكامل يمكن أن تشهره فى وجه أى مريض لو كان هو فعلا موقفك من مهنتك ومن الحياة، وهنا عليك أن تتوقع الإحباط ألف مرة كلما نجحت مرة واحدة، ومع ذلك تحاول طول الوقت من جديد، وهذا ما وصلنى من هذا المثل، أن على أعلن موقفى وأمارسه وأخترق به دون الخوف من الإحباط، ودون انتظار نتائج عاجلة،
وقد اتضح لى هذا الموقف أكثر من المثل القائل:
إعمل الطيب وارميه البحر
وقد كنت قديما أتعجب من هذا المثل العجيب، لماذا أرميه فى البحر؟؟ ورويدا رويدا انتبهت إلى معنى آخر غير الذى خطر لى أول الأمر، فالمقصود – حسب مراجعتى الأخيرة- هوأن تعمل الطيب ولا تنتظر أى جزاء عاجل أو ظاهر أو منطقى مقابله، ذلك أن ثمة فرقا واضحا بين أن ترمى ما ترمى إلى بحر مترامى الأطراف وأن ترميه فى بئر غائر آسن المياه، أو فى خلاء جدب بلا ماء، وكل هذه المواقع تبدو متشابهة لأول وهلة من حيث أنها تبدو وكأنها قادرة أن تبتلع ما رميت إلى غير رجعة، إلا أن البحر يختلف فى أنه مفتوح النهاية، وأنه الأصل، وأنه زاخر بالحياة والآخرين وبالاحتمالات بلا عدد، إنتبهت إلى كل هذا وأنا أحاول أن أشرح لأحد زملائى الأصغر كيف أن اليقين بإزمان مرض ما واستعصاء علاجه لا ينبغى أن يمنع المحاولة، وكيف أنه حتى لو كان كل ما نعمله بلا جدوي، فنحن نعمله لأنه صواب، ولأنه حق المريض علينا..إلخ، وفجأة أشرق فى وعيى هذا المثل وفهمته، أدركت أن المتغيرات والحسابات ليست فى متناولنا طول الوقت، بل إن العلم يمكن أن يكتسب جدواه ومصداقيته من فعله نفسه وليس من نتائجه، وكما أننا لا نعرف على وجه التحديد مآل ما نرمى فى البحر، ونتصور أنه ذهب إلى غيابات المحيط، فإننا لا نستطيع أن نجزم إلى أين تذهب رسائلنا إلى المريض حتى لو كان محيطا يبتلع كل ما يلقى إليه دون أن يبدو أنه تأثر بأى شيء. وتصورت – وأنا أشرح لزميلى المتدرب- أن أى فعل حقيقي، وأى معنى نابض، يستحيل أن يضيع بين الله والناس بأى حال من الأحوال، حتى لو بدا أننا ألقيناه فى بحر وعى مريض يبتلعه دون أن يظهر له أثر آني.
، وأنا أفضل فى هذا الصدد أن أورد بعض الأمثلة والشواهد على ذلك:
1- كان الفصام قديما يسمى العته المبكر Dementia Precox باعتبار أن من يصاب به تتدهور قواه العقلية مبكرا و باضطراد، ثم لوحظ أن بعض الفصاميين ممن غابوا عن الدنيا والواقع واللغة عشرات السنين قد تحسنوا فجأة، وتماما، فعلوها وحدهم دون علاج جديد أو خاص، حدث ذلك بعد حادث ثانوى أو تافه، مثل تغيير عنبر المستشفى أو تغيير ممرض، أو رحلة عابرة، أو زيارة غير متوقعة، وسمى ذلك إفاقة تلقائية (أو شفاء تلقائيSponataneous recovery)، ولكن يبدو أن كل هذا لا يصف إلا السطح، وأن الأمر غير ذلك تماما، والفرض الأقرب للصحة هو أن هذا المريض الذى ظنوا أنه معتوه كان يمارس تلقى الرسائل التى حوله عشرات السنين، ثم أنه راح يجمع ما وصله من ‘رسائل’ إيجابية دون قصد واع، وحين وصلت كمية الرسائل وفاعليتها إلى عتبة تغير نوعى نحو الشفاء، حدث هذا الحادث الذى ارتبط بهذه النقلة النوعية، فتغير الحال إلى الإفاقة المذكورة.
2- لاحظت شخصيا أن عددا من مرضاى يخرج من المستشفى وقد تحسن قليلا، أو لم يتحسن إطلاقا أو حتى ساءت حالته إلا من اختفاء عرض لا معنى لاختفائه، وبعد سنين عددا، ودون علاج لاحق أو تتبع، يلقانى هذا المريض أو يراسلنى أو يدعونى إلى حفل زفافه، أو يعقب على مقال كتبته فى صحيفة ما تعقيبا بالهاتف أو بالبريد بما يجعلنى أتعجب لهذا التحول النوعى الذى لم أضعه، أنا كما لم يضعه هو فى حسابه أبدا، وبعض هؤلاء المرضى يعزو ذلك إلى كلمة قلناها معا، أو فأس حملناه معا، أو عرق عرقناه سويا
3- فى بعض مثل هذه الحالات أيضا، وبعد أن نعتبر النتائج سلبية، يلاحظ أهل المريض أن هناك تغيرا نوعيا فى عمق العلاقة، فى الرنين الوجداني، فى الشعور بالمسئولية فى صمت. يحدث هذا بعد سنوات طويلة، ويبلغنا أحيانا.
وأكتفى بهذه الأمثلة بأن أدعو إلى ألا نخدع بتحسن ظاهر على حساب بلادة عميقة، وألا نيأس من مقاومة للعلاج مهما بلغت، لو أن الرسائل التى نوصلها قوية ‘إن لم تلزق علمت ‘ وطيبة ملقاة -عنادا ويقينا- إلى غيابة المحيط، فإذا بها تعود إلينا، أو على من يحتاجها، بما لم يكن فى حسباننا.
[1] – نستعمل كلمة رسالة هنا كثيرا وذلك بمعنى خاص فالرسالة: ليست نصيحة، وإنما قد تكون كلمة مغيرة أو موقف كيانى عميق يصل إلى وعى المريض من حضور خاص لوعى المعالج كما قد تكون تقمصا إيجابيا مفيدا مرحليا ، إلخ.