مقتطف وموقف
حول حرية الرأى واللجان والجامعة
المقتطف: رأى موجز لأستاذنا محمود محمد شاكر
(فى قضية أخذت أكثر من حقها- رغم خطورة دلالتها).
يقول أستاذنا فى مجلة أدب ونقد:
”تقارير لجان الترقيات سرية فى جامعات العالم كله، ولا يجوز إفشاؤها تحت أى ظرف، ولو كان هذا الظرف هو كوننا نعيش “عصر الشفافية وتداول المعلومات” كما يقال. إننا لو سمحنا بنشر التقارير فى حالة واحدة، لتفشى الأمر وأصبح شائعا فى كل جامعات مصر، وسيصبح الأمر مسخرة. من يريد أن يرفض قرارا فليتظلم داخل الجامعة أو فليرفع قضية.. إنما يلجأ إلى السخافة المسماة خطأ بالصحافة فلا وألف لا. إن حوادث عدم الترقى لأى سبب من الأسباب تحدث كل يوم فلماذا الضجة ولماذا تسريب المذكرات؟ لقد بلغت د. نصر أبو زيد برأيي، و آخرين. ثم إن هناك خطأ فى الربط بين قضية نصر أبو زيد وقضية طه حسين، فالأخير كان له كتاب منشور وكان يدرس ما فيه بالجامعة أما د. نصر فيدرس غير ما يكتب. ما يكتبه هو حر فيه. لقد أصبحت الأمور كلعب العيال بعد أن فعلها طه حسين.
كان طه حسين بلا ضمير، وكان يتستر تحت لافتة حرية الرأى والتعبير; وليس التقدم وليد حرية الرأى إنما هو وليد أسباب أخري. يجب أن نتعلم أصول الأشياء، بدلا عن المشى فى الركاب
فأثار فى بعضنا هذا الرأى ما أثار….فكانت ثلاثة مواقف:
الموقف الأول:
يستدعى هذا النص الذى نشرته “أدب ونقد” لأستاذنا الكبير الأستاذ محمود شاكر أكثر من موقف:
1) أول ما يذكرنا به هذا المقتطف هو تنبيه المرحوم الصحفى الأستاذ صلاح حافظ للأحزاب السياسية حول ما يتعلق بخطورة تحويل العمل السياسى إلى مجرد عمل حقوقى يلجأ للقضاء عند كل رفض يرفضه فى ساحة العمل السياسي، بدلا من اللجوء لمحاور العمل السياسى ذاته وساحته. وهو ما يمكن أن يكون مجرد حفظ حق، ولكنه لا يدخل فى نطاق السعى المسمى (المشروع منه، أو من خلال ما يسمى بالقنوات الشرعية) للتغيير السياسي. وقد كان ذلك التنبيه بمناسبة تزايد عدد القضايا التى ترفعها المعارضة أمام المحكمة الدستورية العليا وغيرها لحماية نفسها والساحة من قوانين وقرارات تراها مخالفة.
وحين نتذكر ذلك التنبيه ونعود لقراءة المقتطف نكتشف أننا الآن فى مسيس الحاجة لإعادة تعريف محاور وأبعاد وحدود العمل الجامعي، فى مجالاته المختلفة، فما بالنا والمجال المطروح فى قضية جامعة القاهرة الحالية هو مجال دراسة الخطاب الدينى الموجه للعامة وللخاصة على السواء.
لعله من المقبول من أى مسئول يدافع عن سلامة قراراته، أن يلجأ للوائح والقوانين، يحمى نفسه ويسير حاله، أما أن يحجب على أى من كان أن يعلم فينظر، وأن يتابع فيحكم، وأن يخبر فيشارك، وأن يسعى ليغير، فإننا لا نرى لهذا -الآن هنا- منطقا ولا معني.
لعل للممارسة المصرية تاريخا متفردا. تاريخا لا يعرف فيه التغيير طرقا غير فوقية، أو غير سلطوية، فمن يريد أن يغير عليه أن يصعد ليعطى الأوامر بالتغيير. وبالتالى فهو تاريخ لم تتأسس فيه أعراف للرفض الفعال حتى نطالب بالتزام أعراف الرفض القديمة الفوقية المنشأ.
2) ثم إن نص أستاذنا يكاد يغرينا بالاستسلام لبداهة النظام فى المؤسسات، وليس علينا إلا أن ننتبه إلى أن هذا النظام لا ينبغى أن يكون إلا نتاجا لحركية المجتمع، سياسيا واقتصاديا إلخ. فكيف يمكننا أن نعزل مؤسسة -وما بالنا بمؤسسة فى خطورة الجامعة مركزا للأبحاث، ومنبرا لتحفيز الوعى الفعال- عن وعى المجتمع الذى تتفاعل معه المؤسسة. إن الاستسلام لمثل هذا النظام المفترض، ينبغى أن يكون ثقة فى عدالته. ولا تعنى العدالة هنا أى معنى مثالي، ولكنها تعنى بالضرورة أن يكون هذا النظام متحركا ومناسبا لحركة المجتمع، حركة المجتمع التى تتطلب الآن أن يعرف الجميع كيف يوظف الخطاب الدينى لترسيخ أنظمة متحجرة باستخدام سلطات تنظيمية نعرف جميعا كيف ولماذا صيغت لوائحها هكذا، فما بالنا وهذه هى قضية نصر أبو زيد الدقيقة؟.
3) ولعل مما يمكن أن نذكر به أستاذنا الكبير، هو أن أول من خط سطرا على أوراق الصحف يتعلق بقضية ترقية نصر أبو زيد، ودون أن يقرأ حرفا مما تقدم به أبو زيد للترقية، هو الآن أفخم من يرفض النشر فى الصحافة، بمنطق يبدو كالصدق ولكن مع تناسى غريب أنه شخصيا كان هو هو البادئ بالنشر فى هذه القضية على وجه التحديد، وذلك حين كانت كفة النشر تميل لصالحه. ولعل أستاذنا الكبير يدرك تماما أننا ما قصدنا أن نعاير الأستاذ فهمى هويدى بخطئه فى رفض عرض القضية على الرأى العام فى الصحافة بعد أن كان أول البادئين بالنشر قبل أن يصدر قرار الجامعة برفض قرارات مجلس أساتذة قسم اللغة العربية ، ومن بعده رأى اللجنة المشكلة من مجلس كلية الآداب، ومن بعده قرار مجلس الكلية، وهى المسارات التى سلكتها القضية فى احترام شديد قبل أن يلجأ أصحابها لفضح تفاصيلها حتى تتسع دائرة الحوار وتتضح أبعاد السلوكيات. ولكننا نريد أن نلفت نظر أستاذنا إلى أن تشابك النظم والأعراف والقوانين واللوائح أصبح أكثر وأكبر وأخبث من أن يترك لمن هو أقل احتراما للنظام والمؤسسات، يستخدم منه ما يشاء، وقتما يشاء، حيثما يشاء، لما يشاء، ثم يخلع الأضعف، والأكثر احتراما وأملا فيما هو نظام حقيقي، خاتم أبى موسى الأشعرى لنعطيه لمن يمسك سيف عمرو بن العاص.
ونحن نؤكد -وبشدة- على ثقتنا فى أن مايحرك أستاذنا الكبير لأن يتبنى هذا الرأى إنما هو عميق احترامه لممارسة منظمة محترمة ومأمولة ولكنها غير واقعة يا أستاذنا الجليل. إن أى نظام يريد أن يتحلى بمقومات بقائه واحترامه، عليه أن ينشط الحركة داخله، لينمى الأمل والقدرة على التغيير من الداخل مستغلا تراكمات التاريخ لصالح إثراء المستقبل، فإذا تحجر النظام فى داخله، فليس عليهم جناح أولئك الذين يعرضون الأمر على من هم أقدر على الحوار وعلى تغيير النظام من خارجه. فهل ننتظر الخارج الفوقي؟ أم نساهم معه فيما يخصنا؟ وإنه ليخصنا.
4) نقطة أخيرة نود أن نعرض لها لعل أستاذنا يراجع موقفه فيما يتعلق بقضية النشر خارج دهاليز الأعراف والأنظمة. إن قضية نصر أبو زيد لم تكن أبدا قضية ترقيته من عدمها يا سيدي. إنها قضية رأى عام فى المقام الأول، بل هى وضع يهدد كل ما هو فكرى أو حتى يمكن مجرد نسبته لما هو تفكير، وضع يحتم على كل منشغل بوعيه أن يعلن موقفه بوضوح، لعلنا نفيق. إن الفصل بين قضية ترقية د.نصر حامد أبو زيد، وقضية تقرير عبد الصبور شاهين الذى يكفر الباحث بجهل لا يخجل، ممثلا فى ذلك قطاعا عجيبا يحتل مساحة غريبة وغير مفهومة فى وعى فئة من العامة لا تقدر على مقاومة إغارة المنابر الـمحتمية بمنصة خطاب يتمحك فى قشور الدين، نقول إن الفصل بين القضيتين دقيق وضرورى وواضح، وهذا هو ما أكد عليه وبوضوح شديد فى مقال السيد/ غالى شكرى بالأهرام. وبالمناسبة سيدى كان هذا المقال أول مقال ينشر – فى الصحافة التى أسميتها بالسخافة – بعدما اتضح موقف الجامعة، ولعله يكون واضحا (أو بالأحرى معترفا به) أن رفض مجلس القسم ومجلس الكلية لقرار اللجنة هو من بين الخطوات التى اتخذت داخل الجامعة، ولم تسبقه خطوات خارجها، وكان على المسئولين عن الأمر فى الجامعة، أن يدركوا بحس السياسى المسئول أبعاد وخطورة ما يقدمون عليه، لا أن يلقى باللوم على من قدر الأمر حق قدره، وعرض القضية فى حدودها ولم يجبن. ونظن أن هذا أيضا هو موقف جل من تعرض للقضية على صفحات الوعى العام.
5) وبالمناسبة: ما هى (بقي) حكاية اللجان العلمية؟؟ ماذا يحدث؟ و كيف نتعرض له وعيا عاما مراقبا مصححا منشئا ومراجعا؟؟ أم هى السلطة الكهنوتية الأعلى التى تراقب كهنوتا آخر هو حظيرة البحث العلمي؟؟ أى منطق تاريخى وأى تاريخ هذا الذى أقر هذا وثبته؟؟ مجرد تساؤل لعل غيرى يكون أقدر على تناوله، ولكنها أسئلة وأى أسئلة.
محمد يحيى الرخاوى
الموقف الثانى:
أوافق على هذا الموقف (الأول) وأتساءل:
من ذا الذى يملك – وحده – الحق فى إصدار الأحكام على ضمائر الناس، يقول، بيقين مختزل باتر – إن طه حسين كان “صاحب ضمير”، أو كان “بلا ضمير”
أى اطلاع على السرائر ذاك الذى يدرج طه حسين فى منقلب الذين يتسترون “تحت لافتة حرية الرأى والتعبير”.
أوافق على هذ الموقف، وأتساءل:
ثم لماذا لا تكون “حرية الرأى والتعبير” واحدة من “الأسباب الأخري” التى هى “أم” التقدم؟
لماذا يتم التخلص من هذه الحرية، والتبرؤ منها، سريعا، ورميها لقيطا مطرودا خارج هذه والأسباب؟
أوافق على هذا الموقف، وأضيف:
حرية الرأى والتعبير – وإن لم تكن تهم البعض – تهمنا ستظل مطلبا ندافع عنه، لا “لافتة نتستر تحتها”، ستظل هكذا، فى فترة أصبحت تضيق حتى بأحلام طه حسين الذى رحل، وبات – الآن – عاريا من كل لافتة.
حسين حمودة
الموقف الثالث:
أوافق على شجاعة المقتطف وبساطته وتركيزه، وأحمد الله أن أبقانى لأرى أحفاد أستاذى محمود شاكر يقولون له “عفوا، ولنا رأي” – كما أدعو له بطول العمر ودوام العطاء وأستأذنه أن أضيف:
1 – المسألة ليست مسألة أبو زيد، ولا هى قصة أبو زيد.
2 – كان يمكن ألا يرقى د.أبو زيد دون تكفيره، وثمة أسباب أكاديمية تنفع فى ذلك لمن أراد ذلك.
3 – اللجان العلمية ياأستاذي، يا من تركت الجامعة من نصف قرن قبل الحصول على الليسانس، فصرت جامعة أهلية فى عزلتك، الجامعة الآن – يا أستاذنا- هى أقل مما تركت مئات المرات، هذه اللجان ياسيدى ليست كما تظن، ليست كما تأمل، ليست كما ينبغى … وأنا أحد أعضائها منذ عشر سنوات وأكثر.
4 – طه حسين كان له ضمير خاص جدا، يخدم غرضا غير مرئى لنا وربما لم يره هو كذلك، لكنه كان شجاعا ورائدا، فرفقا بأجيال لم تسمعك وأنت تتوعده أن “يذبح ذبح الشاة فى البيداء بسكين بارد” لو تجرأ وكتب رأيه فى بعض مااختلفتما فيه، رأيه الذى كان قد قاله همسا لبعض خاصته، هذا الجيل يا أستاذى لا يعرف همس طه حسين، ولايعرف معنى الاختلاف، وطول نفس الحوار، وشجاعة الهجوم، وصلابة الدفاع، فرفقا وأنت تعلن (تكتفى بالقول) أنه لا ضمير له- من ذا الذى إذن له ضمير بما تعني؟
ونصر أبو زيد ليس طه حسين، هو باحث شجاع، ليس متقنا تماما، لكنه يحاول وله حق القول كما أنه لا مفر من مؤاخذته على بعض ما لم يتقنه بحقه وله أجر ما صدق المحاولة.
هذه هى القضية أفلا تستحق المناقشة لكنها ليست سبابا وتكفيرا واحتكارا لسلطة العلم حتى لو كان المحتكر لجنة موقرة على كل منبر ما دام منبر الجامعة قد صار تحت أرض الوعى؟
ى.أ.